شرح الجامع الصحيح لابن بطال

قول الله تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا}

          ░26▒ بَابُ قَولِه تعالى: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} الآية[فاطر:41]
          فيه: عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: (جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبيِّ صلعم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ يَضَعُ السَّمَاءَ على إِصْبَعٍ، وَالأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ على إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالأَنْهَارَ على إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْائقِ على إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبيُّ صلعم وَقَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الأنعام:91]). [خ¦7451]
          قد(1) تقدَّم تفسير هذا الحديث في باب قولِه تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:75]بأقوال العلماء(2) قال المُهَلَّب: فإن قيل: ما وجه حديث الحبر في هذا الباب مع قولِه تعالى: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}[فاطر:41]، وظاهر الآية وعمومُها يقضي(3) أنَّ السَّموات والأرض مُمْسَكَةٌ بغير آلة يعتمد عليها، وقد ذكر الحبر للنَّبيِّ صلعم أنَّ الله يمسك السَّموات على إصبع والأرض على إصبع، فدلَّ أن حديث الحبر وتفسيرَه للإمساك(4) بالأصابع هذا بيان(5) المجمل مِن الإمساك في الآية؟
          قيل له: ليس كما توهَّمت، وتفسير النَّبيِّ صلعم وردُّه على الحبر، وقولُه: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الأنعام:91]هو ردٌّ لما توهَّمه الحبر مِن الأصابع، أي أنَّ الله أجلُّ ممَّا قدرت، وذلك أنَّ اليهود تعتقد التَّجسيم، فنفى النَّبيُّ صلعم ذلك عنه بقولِه: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. فإن قيل: فإنَّ تصديق النَّبيِّ صلعم للحبر وتعجُّبَه مِن قولِه يدل أنَّه لم ينكر قولَه كلَّ الإنكار، ولو لم يكن لقولِه بذكر الأصابع وجه لأعلن بإبطالِه.
          فالجواب أنَّه لو كانت السموات وغيرُها مفتقرة إلى الأصابع لكانت الأصابع مفتقرة إلى أمثالِها تعتمد عليها، وأمثال أمثالِها إلى مثلهِا، ثم كذلك إلى ما لا نهاية له، وهذا فاسد، وقد تقدَّم قول الأشعري وابن فُورَك في أنَّ(6) الإصبع يجوز أن تكون صفة ذات لله تعالى ويجوز أن تكون صفة خلق له تعالى مِن بعض ملائكتِه كلَّفَهم حمل الخلائق وتعبَّدَهم بذلك مِن غير حاجة إليهم في حملِها، بل الباري تعالى ممسِكُهم وممسِك ما يحملونَه بقدرتِه تعالى، ويُصَدِّق هذا التَّأويل قولُه تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17].


[1] في المطبوع: ((وقد)).
[2] قوله: ((بأقوال العلماء)) ليس في المطبوع.
[3] في المطبوع: ((يقتضي)).
[4] في المطبوع: ((الإمساك)).
[5] في المطبوع: ((لبيان)).
[6] في المطبوع: ((وأن)).