شرح الجامع الصحيح لابن بطال

قول الله تعالى: {وهو العزيز الحكيم}

          ░7▒ بَابُ قَوْلِه تَعَالَى(1): {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:24]{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات:180]. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ}[المنافقون:8]وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللهِ وَصِفَاتِهِ.
          وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبيُّ صلعم(2): (تَقُولُ جَهَنَّمُ: قَطْ، قَطْ، وَعِزَّتِكَ).
          وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبيِّ صلعم: (يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، لَا وَعِزَّتِكَ، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا).
          وَقَالَ أَيُّوبُ: وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ.
          فيه: ابنُ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبيُّ صلعم(3): (أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الَّذي لَا تمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإنْسُ يَمُوتُونَ). [خ¦7383]
          وفيه: أَنَسٌ(4): (يُلْقَى فِي النَّار {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}[ق:30]حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ، ثم تَقُولُ(5): قَدْ قَدْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلَا تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ(6) الْجَنَّةِ). [خ¦7384]
          قال المؤلِّف: فالكلام في هذا الباب على معنى العزيز الحكيم والعزَّة والحكمة والقدم.
          فـ(العَزِيزُ) متضمِّن للعزَّة، والعزَّة الكلام عليها مِن وجهين: أحدُهما: أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة. والثاني: أن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاتِه والغلبة لهم، ولهذا صحَّ إضافتُه تعالى اسمَه إليها فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ}[الصافات:180]، والمربوب مخلوق لا محالة.
          و(الحَكِيمُ) متضمِّن لمعنى الحكمة، وهو على وجهين أيضًا: صفة ذات تكون بمعنى العلم، والعلم مِن صفات ذاتِه. والثاني: أن تكون بمعنى الإحكام للفعل والإتقان له، وذلك مِن صفات الفعل وإحكام الله سبحانَه(7) لمخلوقاتِه فعل مِن أفعالِه، وليس إحكامه لها شيئًا يزيد على ذواتِها، بل إحكامُه لها جعلُها نفسًا وذواتًا(8) على ما ذهب إليه أهل السنَّة أنَّ خلق الشَّيء وإحكامَه هو نفس الشَّيء، وإلَّا أدَّى القول بأنَّ الإحكام والخلق غير المحكم المخلوق إلى التَّسلسل إلى ما لا نهاية له، والخروج إلى ما لا نهاية له إلى الوجود مستحيل، فبان الفرق بين الحالف بعزَّة الله الَّتي هي صفة ذاتِه، وبين مَن حلف بعزَّتِه(9) الَّتي هي صفة فعلِه أنه حانث في حلفِه بصفة الذَّات دون صفة الفعل، بل هو منهي عن الحلف بصفة الفعل كقول القائل(10): وحقِّ السَّماء وحقِّ زيد، لقولِه صلعم: ((مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِالله)) وقد تضمَّن كتاب الله تعالى العزَّة الَّتي هي بمعنى القوَّة، وهو قولُه: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}[يس:14]، أي قوَّينا والعزَّة الَّتي هي الغلبة والقهر وهو قولُه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}[ص:23]، أي غلبني وقهرني.
          وأمَّا (القَدَمُ) فلفظ مشترك يصلح استعمالُه في الجارحة وفيما ليس بجارحة فيستحيل وصفُه تعالى بالقَدَم الَّذي هو الجارحة لأنَّ وصفَه بذلك يوجب كونَه جسمًا والجسم مؤلَّف حامل للصِّفات وأضدادِها غير متوهَّم خلوُّه منها، وقد بان أن المتضادَّات لا يصحُّ وجودها معًا، وإذا استحال هذا ثبت وجودها على طريق التَّعاقب، وعدم بعضِها عند مجيء بعض وذلك دليل على حدوثِها، وما لا يصح خلوه مِن الحوادث فواجب كونه محدثًا، فثبت أنَّ المراد بالقَدَم في هذا الحديث خلق مِن خلقِه تقدَّم علمُه أنَّه لا تملأ جهنم إلَّا به.
          وقال النَّضْر بن شُميل: القدم هاهنا: هم الكفار الَّذين سبق في علم الله تعالى أنَّهم مِن أهل النَّار وأنَّه تملأ النَّار بهم حتى ينزوي بعضُها إلى بعض مِن الملء لتضايق أهلِها فتقول: قط قط، أي امتلأت. ومنه قولُه تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}[يونس:2]، أي سابقة صدق. وقال ابن الأعرابي: القدم: هو المُتَقَدِّم(11) في الشَّرف والفضل. وقد قد، وقط قط، بمعنى: حسبي أي: كفاني، ويقال: قدني، وقطني بمعنى ذلك، واختلفت الرِّواية في قولِه: (فَيُسْكِنُهُمْ أَفْضُلَ الجَنَّةِ) وروي ((فَضْلُ الجَنَّةِ)) فمَن روى ((فَضْلَ الجَنَّةِ)) فهو أحسن يعني: ما فضل منها وبقي. ومن روى ((أَفْضُلَ الجَنَّةِ)) فمعناه: فاضل الجنة. وفضل وفاضل الجنة عائدان إلى معنى واحد، وليس بمعنى أفضل مِن كذا للَّذي(12) هو بمعنى المفاضلة، قال الله(13) تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}[الروم:27]، على أحد التَّأويلين. قال الشَّاعر:
لَعَمْرُكَ لَا أَدْرِي                     وَإِنِّي لَأَوْجَلُ
          يريد: لَوَجِلٌ.


[1] في المطبوع:((قول الله تعالى)).
[2] في المطبوع: ((قال ◙)).
[3] في المطبوع: ((قال ◙)).
[4] زاد في المطبوع: ((قال النَّبي)).
[5] في المطبوع:((بعض فتقول)).
[6] في المطبوع:((أفضل)).
[7] قوله: ((سبحانه))ليس في المطبوع.
[8] في المطبوع:((وذاتاً)).
[9] في المطبوع:((بعزة الله)).
[10] في المطبوع:((الحالف)).
[11] في المطبوع:((التقدم)).
[12] في المطبوع:((الذي)).
[13] قوله: ((الله)) ليس في المطبوع.