شرح الجامع الصحيح لابن بطال

قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}

          ░24▒ بَابُ قَولِهِ تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23]
          فيه: جَرِيرٌ: (كُنَّا عِنْدَ النَّبيِّ صلعم إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا). [خ¦7434]
          وَقَالَ جَرِير مَرَّةً: عن النَّبيِّ صلعم: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا).
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: هَلْ تُضَارُّونَ في الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ في الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا أَوْ مُنَافِقُوهَا _شَكَّ إِبْرَاهِيمُ_ فَيَأْتِيهِمُ اللهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ في صُورَتِهِ الَّتي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ المُؤْمِنُ بقي(1) بِعَمَلِهِ أَوِ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ، وِالْمُجَازَى، ونَحْوُهُ، ثُمَّ يَتَجَلَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ ابنَ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، حَرَّمَ اللهُ على النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ على النَّارِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطَيِتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ على الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَ الَّذي أُعْطِيتَ أَبَدًا، وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، يَدْعُو اللهَ حَتَّى يَقُولَ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فيُعْطِي مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأى مَا فِيهَا مِنَ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ: أَنْ لَا تَسْأَلَني غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، لَا أَكُونَ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو الله حَتَّى يَضْحَكَ اللهُ مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ، قَالَ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا، قَالَ اللهُ لَهُ: تَمَنَّهْ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْقَطَعَتْ بِهِ الأمَانِيُّ، قَالَ اللهُ ╡: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أبي هُرَيْرَةَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إِلَّا ذَلِكَ: لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ). [خ¦7437] [خ¦7438]
          وفيه: ابنُ عَبَّاس: (كَانَ النَّبيُّ صلعم إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، إِلَى قَوْلِهِ: أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ(2)، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقُّ) الحديث. [خ¦7442]
          وفيه: عَدِيُّ بنُ حَاتِمٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ). [خ¦7443]
          وفيه: أَبُو سَعِيد، مثل حديث أبي هريرة الطَّويل، إلى قولِه: (فِيَذْهَبْ أَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: عُزَيْرًا ابنَ اللهِ: فَقَالُ(3): كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ في جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى كَذلك: ويشْرَبُون، فَيَتَسَاقَطُونَ في جَهَنَّمَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ، فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإنَّما نَنْتَظِرُ رَبَّنَا: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ(4) في صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الأنْبِيَاءُ، فَيَقُالُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ، فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَانيْ جَهَنَّمَ، قُلْنَا: وَمَا الْجَسْرُ يارسول الله؟ قَالَ: مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُطَلحَفةٌ(5) لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَة(6) تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، يَمُرُّ(7) الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ في نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ، يُسْحَبُ سَحْبًا، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً في الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، فإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللهُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ في قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ إِيْمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ في قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا. وقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَؤُوا: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}[النساء:40]فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: قَدْ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ، بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ). [خ¦7439]
          وفيه: أَنَسٌ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ...) فذكر حديث الشَّفاعة: (فَيَأْتُوننِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا)، الحديث (فأَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ، فأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، حَتَّى لَا(8) يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أي وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، ثُمَّ تَلَا: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:79]) قَالَ: وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذي يُوعَدُهُ(9) نَبِيُّكُمْ. [خ¦7440]
          وفيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم أَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ في قُبَّةٍ، وَقَالَ لَهُمُ: اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي على الْحَوْضِ). [خ¦7441]
          وفيه: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبيُّ صلعم: (جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ كَذِلِكَ، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إلى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ(10) عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ). [خ¦7444]
          وفيه: ابنُ مَسْعُودٍ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ قَرَأَ النَّبيُّ صلعم مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللهِ: {إِنَّ الَّذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ(11) وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُإِلَيْهِمْ} الآيَةَ[آل عِمْرَان:77]). [خ¦7445]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (ثَلاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ تعالى، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ، لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ على يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ المَاءٍ(12)، فَيَقُولُ اللهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ). [خ¦7446]
          وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إن الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ) الحديث (وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ). [خ¦7447]
          قال المؤلِّف: استدلَّ البخاري ☼ بقولِه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23]، وأحاديثِ هذا(13) على أنَّ المؤمنين يرون ربَّهم في جنَّات النَّعيم وهذا باب اختلف النَّاس فيه، فذهب أهل السُّنَّة وجمهور الأمَّة إلى جواز رؤية الله تعالى في الآخرة، ومنعت مِن ذلك الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة واستدلُّوا على ذلك بأنَّ الرُّؤية توجب كون المرئي محدثًا وحالًّا في مكان، في شُبَهٍ أُخَرُ نقضُ بعضِها مغنٍ عن نقض سائرِها، وزعموا أنَّ قولَه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بمعنى منتظرة. فيقال لهم: هذا جهل بموضع اللُّغة لأنَّ النَّظر في كلام العرب ينقسم أربعة أقسام: يكون بمعنى الانتظار، ويكون بمعنى التفكُّر والاعتبار، ويكون بمعنى التَّعَطُّف والرَّحمة، ويكون بمعنى الرُّؤية للأبصار؛ فخطأ كونِه في الآية بمعنى الانتظار مِن وجهين: أحدُهما أنَّه قد عُدِّي إلى مفعولِه بإلى وهو إذا كان بمعنى الانتظار لا يتعدَّى بها، وإنَّما يتعدَّى بنفسِه قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ}[الزخرف:66]فعدَّاه بنفسِه لمَّا كان بمعنى ينتظرون. قال الشَّاعر:
فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِي سَاعَةً                      مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعُنِي لَدَى(14) أُمِّ جُنْدُبِ
          بمعنى: تنتظراني.
          والوجه الثاني: أنَّ حملَه على معنى الانتظار لا يخلو(15) أن يُراد به: منتظرة ربَّها أو منتظرة ثوابَه، وعلى أيِّ الوجهين حُمل فهو خطأ لأنَّ المنتظر لما ينتظرُه في تنغيص وتكدير، والله تعالى قد وصف أهل الجنَّة بغير ذلك وأنَّ لهم فيها ما يشاءون. ويبطل(16) كون النَّظر في الآية بمعنى الاعتبار والتَّفكُّر لأنَّ الآخرة ليست بدار اعتبار وتفكُّر إذ ليست بدار محنة وعبادة؛ ولأنَّ ذاتَه تعالى ليست ممَّا يُعتبر بها فبطل قولُهم. ويبطل كون النَّظر في الآية بمعنى التَّعطُّف والرَّحمة لأنَّ ذاتَه تعالى ليست ممَّا يتعطَّف عليها وتُرحم.
          فإذا بطلت هذه الأقسام الثَّلاثة صحَّ القسم الرَّابع وهو النَّظر إلى ربِّها بمعنى الرُّؤية بالأبصار له تعالى، وهو ما ذهب إليه جمهور المسلمين قبل حدوث القائلين بهذه الضَّلالة، وشهدت له السُّنن الثَّابتة مِن الطُّرق المختلفة.
          وما احتجَّ به مِن نفي الرُّؤية مِن أنَّها توجب كون المرئيِّ محدثًا فهو فاسد لقيام الدَّلائل الواضحة(17) على أنَّ الله تعالى موجود وأنَّ الرُّؤية منزلتُها في تعلُّقِها بالمرئي منزلة العلم في تعلُّقِه بالمعلوم، فكما أنَّ العلم المتعلِّق بالموجود لا يختصُّ بموجود دون موجود ولا يوجب(18) تعلُّقُه به حدَثُه كذلك للرُّؤية في تعلُّقِها بالمرئيِّ لا يوجب حدثُه.
          واحتجَّ نفاة الرُّؤية بقولِه تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[الأنعام:103]، وبقولِه تعالى لموسى ╕: {لَنْ تَرَانِي}[الأعراف:143]في جوابِه سؤالَه الرُّؤية، وهذا لا تعلُّق لهم فيه لأنَّ قولَه: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وقولَه: {لَنْ تَرَانِي} لفظ عام، وقولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22-23]، خاص، والخاص يقضي على العام ويبيِّنُه، فمعنى الآية لا تدركُه الأبصار في الدنيا لأنَّه تعالى قد أشار على(19) أنَّ المراد بقولِه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} الآخرة؛ لقولِه: {يَوْمَئِذٍ} وكذلك يكون معنى قولِه تعالى لموسى: {لَنْ تَرَانِي} في الدنيا، ولأنَّه قد ثبت أنَّ نفي الشَّيء لا يقتضي إحالتَه، بل قد يتناول المستحيل وجودُه والجائز وجودُه، فلا تعلُّق لهم بالآيتين مع ما يشهد لصحَّة الرُّؤية لله تعالى مِن الأحاديث الثَّابتة الَّتي تلقَّاها المسلمون بالقبول مِن عصر الصَّحابة والتَّابعين، ♥ أجمعين إلى وقت(20) حدوث المارقين المنكرين للرُّؤية.
          وأمَّا وصفُه ╕(21) بالإتيان بقوله: (فَيَأْتِيْهُمُ اللهُ) فليس على معنى الإتيان المعهود فيما بيننا الَّذي هو انتقال وحركة لاستحالة وصفِه تعالى بما تُوصف به الأجسام، فوجب حملُه على أنَّه تعالى يفعل فعلًا يسمِّيه إتيانًا؛ وصفَ تعالى به نفسَه، ويحتمل أن يكون الإتيان المعهود فيما بيننا خلقَه تعالى لغيرِه مِن ملائكتِه(22) فأضافَه إلى نفسِه كما يقول القائل: قطع الأمير اللصَّ، وهو لم يل ذلك بنفسِه إنَّما أمر به.
          وأمَّا وصفُه تعالى بالصُّورة في قولِه: (فَيَأْتِيهُمُ اللهُ فِي صُورَتِهِ) ففيه إيهام للمجسِّمة أنَّه تعالى ذو صورة، ولا حجَّة لهم فيه لأنَّ الصُّورة هاهنا يحتمل أن تكون بمعنى العلامة وضعَها الله تعالى دليلًا لهم على معرفتِه والتَّفرقة بينَه وبين مخلوقاتِه، فسمَّى الدَّليل والعلامة صورة مجازًا كما تقول العرب: صورة حديثك كيت وكيت، وصورة أمرك كذا وكذا، والحديث والأمر لا صورة لهما، وإنَّما يريدون حقيقة حديثك وأمرك كذا وكذا.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا قولُه: (فَإِذَا رَأَيْنَا رَبَّنَا عَرَفْنَاهُ) فإنَّما ذلك أنَّ الله تعالى يبعث إليهم ملكًا ليفتنَهم ويختبرَهم في اعتقاد صفات ربِّهم الَّذي ليس كمثلِه شيء فإذا قال لهم الملك: أنا ربُّكم، رأوا عليه دليل الخلقة الَّتي تشبُه المخلوقات فيقولون: هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربُّنا فإذا جاءنا عرفناه، أي أنَّك لست ربنا، فيأتيهم الله في صورتِه الَّتي يعرفون أي يظهر إليهم في ملك لا ينبغي لغيرِه وعظمة لا تشبه شيئًا مِن مخلوقاتِه فيعرفون أنَّ ذلك الجلال والعظمة لا تكون لغيرِه، فيقولون: أنت ربُّنا الذي(23) لا يشبهك شيء، فالصُّورة يعبَّر بها عن حقيقة الشَّيء.
          وأمَّا قولُه: (فَيُقَالُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةً تَعْرِفُونَهَا؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ) فهذا يدلُّ والله أعلم أنَّ الله عرَّف المؤمنين على السنة الرًّسل يوم القيامة أو على السنة الملائكة المتلقِّين لهم بالبشرى أنَّ الله قد جعل علامة تجلِّيه لكم: السَّاق وعرَّفهم أنَّه سيبتلى المكذِّبين بأن يرسل إليهم مَن يقول: أنا ربُّكم فتنة لهم ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذين آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}[إبراهيم:27]في سؤال القبر، وفي هذا الموطن، وقال ابن عباس في قولِه تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}[القلم:42]عن شدَّة الأمر، وروي عن عُمَر بن الخطاب ☺ في قولِه تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}[القيامة:29]أي: أعمال الدنيا بمحاسبة الآخرة وذلك أمر عظيم، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق، إذا كانت شديدة فيُظهِر الله سبحانَه على الخلائق هذه الشِّدَّة الَّتي لا يكون مثلُها مِن مخلوق ليبكت بها الكافرين، وينزع عنهم قدرتَهم الَّتي كانوا يدَّعونها، فيعلمون حينئذ أنَّه الحق، فيذهبون إلى السُّجود مع المؤمنين لما يرون مِن العظمة والشِّدَّة فلا يستطيعون، فيثبِّت الله المؤمنين فيسجدون له، وذكر ابن فُورَك قال: روى أبو موسى الأشعري عن النَّبيِّ صلعم في قولِه تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} قال: عن نور عظيم قال: ومعنى ذلك ما يتجدَّد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى مِن الفوائد والألطاف، ويظهر لهم مِن فضل سرائرِهم الَّتي لم يطَّلِع عليها غيرُه ╡.
          قال المُهَلَّب: هذا يدلُّ على أنَّ كشف السَّاق للكافرين نقمة وعذاب، وللمؤمنين نور ورحمة ونعمة، والضَّحك منه تعالى بخلاف ما هو فينا وهو بمعنى إظهارُه لعباده لطائف وكرامات(24) لم تكن تظهر لهم قبل ذلك، والضَّحك المعهود فيما بيننا هو إظهار الضَّاحك لمَن شاهدَه ما لم يكن يظهر له منه قبل مِن كشرِه عن أسنانِه.
          وأمَّا قولُه صلعم: (وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ للهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا) هذا استدلَّ به مَن أجاز تكليف ما لا يطاق وهو مذهب الأشعريَّة، قالوا جائز في حكم الله تعالى أن يكلِّف عبادَه مالا يطيقون، واحتجُّوا على ذلك بأنَّ الله تعالى قد كلَّف أبا لهب الإيمان به مع إعلامِه تعالى له أنَّه لا يؤمن، وأنَّه يموت على الكفر الَّذي له يصلى نارًا ذات لهب.
          ومنع الفقهاء مِن ذلك، وقالوا: لا يجوز أن يكلِّف الله عبادَه ما لا يطيقون واحتجُّوا بقولِه تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]، قالوا: وهذا خبر لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره(25)، وقالوا: ليس في قولِه تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}[القلم:42]حجَّة لمَن خالفنا؛ لأنَّهم إنَّما يُدعون للسُّجود(26) تبكيتًا لهم، إذ أدخلوا أنفسَهم بزعمِهم في جملة المؤمنين السَّاجدين في الدنيا وعلم الله تعالى منهم الرِّياء في سجودِهم، فدُعوا في الآخرة إلى السُّجود كما دُعي المؤمنون المحقُّون، فتعذَّر السُّجود عليهم وعادت ظهورُهم طبقًا واحدًا، وأظهر الله تعالى عليهم نفاقَهم فأخزاهم وأوقع الحجَّة عليهم، فلا حجَّة في مثل(27) هذه الآية لهم، ومثل هذا مِن التَّبكيت قولُه تعالى للكفَّار: {ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ}[الحديد:13]، وليس في هذا شيء مِن تكليف ما لا يطاق، وإنَّما هو خزي وتوبيخ.
          ومثلُه قولُه ╕: ((مَنْ كَذَبَ فِي حُلُمِهِ كُلِّفَ يَومَ القِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ بَينَ شَعِيرَتَينِ وَلَيْسَ بِعَاقِدِهِمَا)) فهذه عقوبة وليس مِن تكليف ما لا يطاق.
          وأمَّا قوله ╕: ((فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالمَلَائِكَةُ وَالمُؤْمِنُونَ)) ففيه حجَّة لأهل السُّنَّة في إثباتهم الشَّفاعة، وقد تقدَّم القول على ذلك قبل هذا(28).
          وقولُه: (فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ) فدارُه جنَّتُه، ولا تعلُّق فيه للمجسِّمة أنَّه تعالى في مكان؛ لأنَّ قولَه: (فِي دَارِهِ) يحتمل أن تكون هذه الإضافة لله تعالى إضافة فعل كسائر ما أضافَه إلى نفسِه تعالى مِن أفعالِه، ويحتمل أن يكون قولُه (فِي دَارِهِ) راجعًا إلى النَّبيِّ صلعم تأويلُه: فأستأذن على ربي وأنا في دارِه. فالظَّرف والمكان هاهنا له صلعم(29) لا لله تعالى لقيام الدَّليل على استحالة حلولِه تعالى في المواضع.
          وقولُه: (حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الحَوْضِ) ففيه إثبات الحوض له صلعم خلافًا لمنكريه مِن المعتزلة وغيرِهم ممَّن يدفع أخبار الآحاد، وجمهور الأمَّة على خلافِهم مؤمنون بالحوض على ما ثبت في السُّنن الصِّحاح.
          وقولُه: ((مَا مِنْكُم مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تَرْجُمَانٍ)) ففيه إثبات الرُّؤية لله تعالى وإثبات كلامِه لعبادِه. ورفع الحجاب بينَه تعالى وبين خلقِه هو تجلِّيه لهم، وليس ذلك بمعنى الظهور والخروج مِن سواتر وحجب حائلة بينَه وبين عبادِه لأنَّ ذلك مِن أوصاف الأجسام وهو مستحيل على الله تعالى، وإنَّما رفع الحجاب بمعنى إزالتُه الآفات مِن أبصار خلقِه المانعة لهم مِن رؤيتِه، فيرونَه لارتفاعِها عنهم بخلق ضدِّها فيهم، وهو الرُّؤية، وبخلاف هذا وصف الله تعالى الكفار فقال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15]، فالحجاب هنا الآفة المانعة لهم مِن رؤيتِه الَّتي لو فعل تعالى ضدَّها فيهم لرأوه، وهي الَّتي فَعَلَ في المؤمنين.
          وقولُه في الحديث الآخر: (وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِ(30) عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ) فلا تعلُّق فيه للمجسِّمة في إثبات الجسم والمكان لما تقدَّم مِن استحالة كونِه تعالى جسمًا أو حالًّا في مكان، فوجب أن يكون تأويل الرِّداء مصروفًا إلى أنَّ المراد به الآفة المانعة لهم مِن رؤيتِه ╡ الموجودة بأبصارِهم، وذلك فعل مِن أفعالِه ╡ يفعلُه في محلِّ رؤيتِهم له بدلًا مِن فعلِه الرُّؤية، فلا يرونَه ما دام ذلك المانع المسمَّى رداء موجودًا بمحلِّ رؤيتِهم له فإذا فعل الرُّؤية انتفى ذلك المانع لهم مِن رؤيتِه وسمَّاه رداء مجازًا واتِّساعًا، إذ منزلتُه في المنع مِن رؤيتِه منزلة الرِّداء وسائر ما يحتجب به والله تعالى لا يليق به الحُجُب والأستار المسمى رداء موجودًا بمحل رؤيتِهم له فإذا فعل الرُّؤية انتفى ذلك المانع؛ إذ ذاك مِن صفات الأجسام.
          وقولُه: (عَلَى وَجْهِهِ) المراد به أنَّ الآفة المانعة لهم مِن رؤية وجهِه تعالى الَّذي هو(31) صفة مِن صفات ذاتِه كأنَّها على وجهِه؛ لكونها في أبصارِهم ومانعة لهم مِن رؤيتِه، فعبَّر عن هذا المعنى بهذا اللَّفظ، والمراد به غير ظاهرِه، إذ يستحيل كون وجهِه محجوبًا برداء أو غيره مِن الحُجُب إذ ذاك مِن صفات الأجسام.
          وقولُه: (فِي جَنَّةِ عَدْنٍ) ليس بمكان له تعالى، وإنَّما هو راجع إلى القوم كأنَّه قال: وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربِّهم وهم في جنَّة عدن إلا المانع المخلوق في محلِّ رؤيتِهم له مِن رؤيتِه فلا حجَّة لهم فيه.
          وقولُه في حديث أبي سعيد: (وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيهِ اليَومَ) لا يخرج معناه إلَّا أن يكون بمعنى محتاجين، وهذا موجود في القرآن قال الله(32) تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ}[النحل:125]، بمعنى عالم، فيُسقط على هذا التَّأويل شيئًا(33) مِن تقدير الكلام، ومعناه: فارقناهم: يريد مَن لم يعبد الله. ونحن أحوج ما كنا إليه: يعنون الله ╡.
          وقولُه: (فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ المُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلجَبَّارِ، فَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوا فِي إِخْوَانِهِمْ) يريد أنَّ المؤمنين إذا نجوا مِن الصراط يناشدون الله في إخوانهم ويشفعون فيهم فيقول الله ╡: (اِذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِيْنَارٍ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيْمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا مِنَ النَّارِ) وفي هذا إثبات شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض.
          وقولُه: (فِي جَهَنَّمَ كَلَالِيْبُ) جمع كَلُّوب، وهو الَّذي يتناول به الحدَّاد الحديد مِن النَّار، و((الخَطَاطِيفُ)) جمع خُطَّاف، والخُطَّاف حديدة معوجَّة الطَّرف يجذب بها الأشياء، قال النابغة:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ(34) فِي حِبَالٍ مَتِيْنَةٍ
          و((الحَسَكُ)) معروف، وهو شيء مضرَّس ذو شوك ينشب به كل ما مرَّ به.
          وقولُه: (مُفَلْطَحَةٌ) فهو كلُّ شيء عريض، قال ابن دريد: فطحت العود إذا بريتُه ثم عرَّضتُه وفطِح الأنف _بكسر الطاء_ فطحًا: لصق بالوجه، والبقر كلُّها فُطح وخُنس
          وقولُه: (فَمِنْهُمُ المُوْبِقُ بِعَمَلِهِ) يعني الهالك بذنوبِه. يقال: أوبقت فلانًا ذنوبُه أي: أهلكتْه.
          وقوله: (وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ) قال صاحب «العين»: خردلت اللَّحم: فصلتُه، وخردلت الطَّعام: أكلت خيارَه. وقال غيرُه: خردلتُه: صرعتُه، وهذا الوجه يوافق معنى الحديث، والجردلة بالجيم، الإشراف على السُّقوط والهلكة.
          وقولُه: (امْتُحِشُوا) قال صاحب «العين»: المحش: إحراق الجلد، وامتحش الجلد احترق، وألسنة المحوش: اليابسة. وقال صاحب «الأفعال»: محشت النَّار الشيء محشًا: أحرقتْه لغة، والمعروف أمحشتْه، وكان أبو زيد ينكر محشتْه، وقعد يومًا إلى أبي حنيفة فسمعَه يقول: قال رسول الله صلعم: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ قَدْ مَحَشَتْهُمُ النَارُ)) فقال أبو زيد: ليس كذلك الحديث، يرحمك الله، إنَّما هو: ((قَدْ(35) أَمْحَشَتْهُمُ النَّارُ)) فقال أبو جنيفة: مِن أيِّ موضع أنت؟ قال أبو زيد: مِن البصرة. قال أبو حنيفة: أبالبصرة مثلك؟ قال أبو زيد: إنِّي لمِن أخس أهلِها. فقال أبو حنيفة: طوبى لبلد أنت أخس أهلِها.
          و(الحِبَّةُ) بزور البقل، وقد ذكرتُه في كتاب الإيمان في باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، وقال أبو عبيد: وأمَّا الحِبَّة فكلُّ ما ينبت له حب فاسم الحب منه الحِبَّة.
          وقال الفرَّاء: الحِبَّة بزور البقل. وقال أبو عَمْرو: الحِبَّة نبت ينبت في الحشيش صغار. وقال الكسائي: الحِبَّة حب الرَّياحين وواحد الحِبَّة حَبَّة، قال(36): وأمَّا الحنطة ونحوها فهو الحَبُّ لا غير.
          وقال الأصمعي: الحميل ما حملَه السيل مِن كلِّ شيء وكلُّ محمول فهو حميل كما يقال للمقتول قتيل.
          وقولُه: (قَشَبَنِي رِيْحُهَا) تقول العرب: قشبت الشيء: قذرتُه وقشِبت الشَّيء، بكسر الشين قشبًا قَذِرَ عن صاحب «الأفعال».
          وقال ابن قتيبة: (قَشَبَنِي رِيْحُهَا) مِن القشب والقشب السُّمُّ كأنَّه قال: سمَّني ريحُها، ويقال لكل مسموم قشيب. وقال الخطَّابي: قشبَه الدُّخان إذا مل خياشيمَه وأخذ يكظمُه وإن كانت ريحُه طيِّبة، وأصل القشب خلط السُّمِّ(37) بالطَّعام يقال: قشبَه إذا سمَّه وقشبتنا الدُّنيا فصار حبُّها كالسُّمِّ الضَّار، ثم قيل على هذا قشبَه الدُّخان والرِّيح الذكيَّة إذا بلغت منه الكظم.
          وقولُه: (اِنْفَهَقَتْ) يعني اتَّسعت وفهِق الغدير فهقًا(38) امتلأ ومنه التَّفيهق في القول، وهو كثرة الكلام.
          و(غُبَّرَاتٌ) بقايا وكذلك غبْر الشَّيء بقيَّتُه.
          وقولُه: (الجِسْرُ مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ) يقال دحضت رِجْلُه دحضًا زلقت، والدَّحض ما يكون عنه الزَّلق، ودحضت الشَّمس عن كبد السماء زالت، ودحضت حجَّتُه: بطلت، والمَزِلَّة: موضع الزَّلل، زلت(39) الأقدم: سقطت.
          وقولُه: (مَكْدُوسٌ(40)) قال صاحب «العين»: التَّكدُّس في سير الدَّواب: ركوب بعضِها بعضًا، والكدس ما يجمع مِن طعام وغيره.
          و(أَفْوَاهُ الجَنَّةِ) أبوابُها واحدتُها(41) فُوَّهة، وفي كتاب «العين»: الفُوَّهة: فم النهر وفم الزُّقاق.


[1] في المطبوع: ((يقي)) وهي رواية.
[2] قوله: ((وقولك الحق)) ليس في المطبوع.
[3] في المطبوع:((فيقال)).
[4] في المطبوع: ((جل جلاله)).
[5] في المطبوع:((مفلطحة)) وهي رواية، ونبه إلى المثبت في نسخة.
[6] في المطبوع:((عقيقة)) وهو تصحيف.
[7] قوله: ((يمر)) ليس في (ز). نسخ أخرى
[8] في المطبوع: ((فلا)).
[9] في المطبوع:((توعده)).
[10] في المطبوع: ((الكبرياء)).
[11] في المطبوع:((بعهد الله، الآية)).
[12] في المطبوع: ((ماء)).
[13] في المطبوع: ((وبأحاديث هذا الباب)). نسخ أخرى
[14] في المطبوع: ((أرى)).
[15] زاد في المطبوع: ((إما)).
[16] في المطبوع: ((فبطل)).
[17] قوله: ((الواضحة)) ليس في المطبوع.
[18] في المطبوع: ((توجب)).
[19] في المطبوع: ((إلى)).
[20] قوله: ((وقت)) ليس في المطبوع.
[21] زاد في المطبوع: ((لله تعالى)).
[22] في المطبوع: ((ملائكة)).
[23] قوله: ((الذي)) ليس في المطبوع.
[24] في المطبوع: ((وكرامة)).
[25] في المطبوع: ((وقدا أخبر فلا يجوز أن يقع بخلاف خبره)). نسخ أخرى
[26] في المطبوع: ((إلى السجود)).
[27] قوله: ((مثل)) ليس في المطبوع.
[28] قوله: ((القول على ذلك قبل هذا)) ليس في المطبوع.
[29] في المطبوع:((للنبي صلعم)).
[30] في المطبوع: ((الكبرياء)).
[31] في المطبوع: ((التي هي)).
[32] قوله: ((الله)) ليس في المطبوع.
[33] كذا العبارة في (ز) ((فيسقط على هذا التأويل شيئا)) وفي المطبوع: ((فسقط على هذا التأويل شيئا)) وعبارة ابن الملقن في ((التوضيح)) التي نقلها عن ابن بطال: ((فيسقط هذا التأويل شيئا)) وهي أوضح في بيان المقصود. نسخ أخرى
[34] في (ز) تصحيفًا: ((حجز)) والتصويب من كتب اللغة وهو الذي في المطبوع. نسخ أخرى
[35] قوله: ((قد)) ليس في المطبوع.
[36] قوله: ((قال))ليس في المطبوع.
[37] في (ز) تصحيفًا:((الشيء)) والصواب المثبت وهو الذي في المطبوع. نسخ أخرى
[38] زاد في المطبوع: ((إذا)).
[39] في المطبوع:((فزلت)).
[40] زاد في المطبوع: ((في نار جهنم)).
[41] في المطبوع: ((واحدها)).