شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها}

          ░47▒ بَابُ قَوْلِه تَعَالَى: {قُل فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عِمْرَان:93]وَقَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا، وأَهْلُ(1) الإنْجِيلِ الإنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ، وَأُعْطِيتُمُ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ).
          وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: {يَتْلُونَهُ}[البقرة:121]يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، {يُتْلَى}[النساء:127]يُقْرَأُ، حَسَنُ التِّلاوَةِ: حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ، {لَا يَمَسُّهُ}[الواقعة:79]لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلَّا الْمُوفَّقُ(2)؛ لِقَوْلِهِ ╡: {مَثَلُ الَّذين حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}[الجمعة:5].
          وَسَمَّى النَّبيُّ صلعم الإيمَانَ وَالإسْلامَ وَالصَّلاةَ عَمَلًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم لِبِلالٍ: (أَخْبِرْنِي أَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلَامِ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي مِنْ(3) أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلا صَلَّيْتُ، وَسُئِلَ أي الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ).
          فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبي عليه صلعم: (إنَّما بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الأمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ عَجَزُوا ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإنْجِيلِ الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ عَجَزُوا ثُمَّ أُوتِيتُمُ الْقُرْآنَ، فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ) الحديث. [خ¦7533]
          وَسَمَّى النَّبيُّ صلعم الصَّلاةَ عَمَلًا، وَقَالَ: (لَا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ).
          وفيه: ابنُ مَسْعُودٍ: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبيَّ صلعم فَقَالَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، والْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ). [خ¦7534]
          قال المُهَلَّب: معنى هذا الباب كالذي قبلَه، أنَّ كلَّ ما يكسبُه الإنسان ممَّا يؤمر به مِن صلاة أو حجٍّ أو جهاد وسائر الشَّرائع عمل له يجازى على فعلِه ويعاقب على تركِه إن أنفذ الله تعالى عليه الوعيد.
          وأمَّا قولُه صلعم حين سُئل أيُّ العمل أفضل، فقال: (الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الوَالِدَينِ، والجِهَادُ) فقرن حقَّ الوالدين بحقِّ الله ╡ على عبادِه بواو العطف، وليس هذا بمخالف للحديث الآخر ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم سُئِلَ أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ، فَقَالَ: إِيْمَانٌ بِاللهِ، ثُمَّ الجِهَادُ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ)) ولم يذكر برَّ الوالدين، وإنَّما يُفتَى(4) السَّائل بحسب ما يُعلَم مِن حالِه، أو ما يُتَّقى عليه مِن فتنة الشَّيطان.
          فلذلك اختلف ترتيب الأفضل مِن(5) الأعمال، مع أنَّه قد يكون العمل في وقت أوكد وأفضل منه في وقت آخر، كالجهاد الَّذي يتأكَّد مرَّةً، ويتراخى مرَّةً، ألا تراه أمر وفد عبد القيس بأمر فصل باشتراطِهم ذلك منه، فلم يرتِّب لهم الأعمال، ولا ذكر لهم الجهاد ولا برَّ الوالدين، وإنَّما ذكر لهم أداء الخمس ممَّا يغنمون، وذكر لهم الانتباذ في المزفَّت فيما نهاهم عنه، وفي المنهيَّات ما هو أوكد منه مرارًا.


[1] في المطبوع: ((وأُعطي أهل)).
[2] كذا في (ز) والمطبوع: ((الموفَّق)).
[3] قوله: ((من)) ليس في المطبوع.
[4] في المطبوع: ((يفتي)).
[5] في المطبوع: ((ترتيب أفضل)).