شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {أنزله بعلمه والملائكة يشهدون}

          ░34▒ بَابٌ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ}[النساء:166]
          قَالَ مُجَاهِدٌ: {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}[الطلاق:12]بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأَرْضِ السَّابِعَةِ.
          فيه: الْبَرَاءُ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَا فُلانُ إِذَا أَوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ... إلى قوله: آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذي أَنْزَلْتَ) الحديث. [خ¦7488]
          وفيه: ابنُ أَبي أَوْفَى، قَالَ النَّبيُّ صلعم يَوْمَ الأحْزَابِ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ: سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، وَزَلْزِلْ بِهِمْ). [خ¦7489]
          وفيه: ابنُ عَبَّاسٍ، {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}[الإسراء:110]نزلَتْ وَرَسُولُ اللهِ صلعم مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ، سَمِعَه الْمُشْرِكُونَ، فَسَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ الله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} حتى تُسمعَ المُشْرِكِيْنَ، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلا تُسْمِعُهُمْ، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا}[الإسراء:110]أَسْمِعْهُمْ، وَلَا تَجْهَرْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ. [خ¦7490]
          لا(1) تعلق للقدريَّة في قولِه تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}[النساء:166]أنَّ القرآن مخلوق لأنَّ كلامَه تعالى قديم قائم بذاتِه، ولا يجوز أن تكون صفة ذات القديم إلَّا قديمة، فالمراد بالإنزال إفهام عبادِه المكلَّفين معاني كتابِه وفرائضَه الَّتي افترضَها عليهم، وليس إنزالُه كإنزال الأجسام المخلوقة الَّتي يجوز عليها الحركة والانتقال مِن مكان إلى مكان لأنَّ القرآن ليس بجسم ولا مخلوق، والأفعال الَّتي يعبَّر بها عن الأجسام كالحركة والانتقال مِن الأمكنة تستحيل على الله تعالى وعلى كلامِه وجميع صفاتِه.
          قال المُهَلَّب: وفي حديث البراء الرَّدُّ على القدريَّة الَّذين يزعمون أنَّ لهم قدرة على الخير والشَّرِّ استحقُّوا عليها الثَّواب والعقاب لأمر النَّبيِّ صلعم مَن أوى إلى فراشِه بالتبرؤ عند نومِه مِن الحول والقوَّة والاستسلام لقدرة الله تعالى الَّتي غلبَه بها النَّوم، فلم يستطع دفعَه، فلو كان يملك لنفسِه نفعًا أو ضرًا لدفع عن نفسِه النَّوم الَّذي هو موت إن أمسك الله تعالى نفسَه فيه مات أبدًا، وإن أرسلَها بعد موتِه ساعة أو ساعات جدَّد لها حياة.
          وكيف يملك الإنسان لنفسِه قدرة، وقد أمرَه نبيُّه صلعم أن يتبرَّأ مِن جميع وجوهِها في هذا الحديث، ثم عرَّفك أنَّ هذه الفطرة الَّتي فطر الله الناس عليها يجب أن تكون آخر ما يقولُه المرء الَّذي حضرَه أوَّل الموت فيموت على الفطرة الَّتي فطر(2) عليها خلقَه، وإن أحياه أصاب بتبرُّئِه إليه خيرًا يريد أجرًا في الآخرة وخيرًا مِن رزق وكفاية وحفظ في الدنيا.
          وفي حديث ابن أبي أوفى جواز الدُّعاء بالسَّجع إذا لم يكن متكلَّفًا مصنوعًا تفكُّرُه، وشغل بال بتهيئتِه فضعف بذلك تحقيق نية(3) الدَّاعي فلذلك كرِه السَّجع في الدُّعاء، وأمَّا إذا تكلَّم به طبعًا فهو حسن وقد أشرنا إلى هذا المعنى في كتاب الدُّعاء.
          وفي حديث ابن عبَّاس أنَّ قطع الذَّرائع الَّتي تنقص الباري تعالى وتنقص كتابَه واجب وإن كان المراد بها الخير لمنعِه مِن رفع الصَّوت بالقرآن لئلا يسمعَه مَن يسبُّه ومَن أنزلَه.


[1] في المطبوع: ((ولا)).
[2] قوله: ((فطر)) ليس في المطبوع.
[3] في المطبوع: ((فَيضعُفُ بِذَلك نيةُ)).