شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في قول الله تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين}

          ░25▒ بَابُ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:56]
          فيه: أُسَامَةُ: (كَانَ ابنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبيِّ صلعم يَقْضِي...) الحديثَ(1)، إلى قولِه: (فَبَكَى النَّبيُّ صلعم فَقَالَ سَعْدُ: أَتَبْكِي؟ فَقَالَ: إنَّما يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ). [خ¦7448]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (اخْتَصَمَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إلى رَبّهِمَا، فَقَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ، مَا لَهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، وَقَالَتِ النَّارُ: يعني أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِيْنَ، فَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي، أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا الْجَنَّةُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وأمَّا النَّار فإِنَّهُ يُنْشِئُ اللهُ لَهَا خَلْقًا فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَتَقُولُ: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}[ق:30]ثَلاثًا، ثُمَّ(2) يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَمْتَلِئُ، وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، قَطْ). [خ¦7449]
          وفيه: أَنَسٌ، قَالَ النَّبيُّ صلعم(3): (لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فيُقَالُ لَهُمُ: الْجَهَنَّمِيُّونَ). [خ¦7450]
          قال المؤلِّف: الرَّحمة تنقسم قسمين: تكون صفة ذات لله تعالى، وتكون صفة فعل، فصفة الذَّات مرجوع بها إلى إرادتِه ╡ إثابة الطَّائعين مِن عبادِه، وقولُه تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:56]، تحتمل(4) الرَّحمة هاهنا أن تكون صفة ذات ترجع إلى إرادتِه إثابة المحسنين كما قلنا وإرادتُه صفة ذاتِه.
          ومثلُه قوله صلعم: (إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءُ) معناه إنَّما يريد إثابة الرُّحماء لعبادِه مِن خلقِه، ويحتمل أن تكون صفة فعل فيكون المعنى أنَّ نعمة الله على عبادِه ورزقَه لهم ونزول المطر وشبهُه قريب مِن المحسنين، فسمَّى ذلك رحمة لهم لكونِه بقدرتِه وعن إرادتِه مجازًا واتِّساعًا لأنَّ مِن عادة العرب تسمية الشَّيء باسم سببِه وما يتعلَّق به ضربًا مِن التَّعلُّق، و على هذا(5) سمَّى الله تعالى الجنة رحمةً فقال: (أَنْتِ رَحْمَتِي) فسمَّاها مع كونها فعلًا مِن أفعالِه رحمةً إذ كانت حادثةً بقدرتِه وإرادتِه تنعيم الطَّائعين مِن عبادِه.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا اختصام الجنَّة والنَّار فيجوز أن يكون حقيقةً، ويجوز أن يكون مجازًا، فكونُه حقيقةً يخلق الله تعالى فيهما حياةً وفهمًا وكلامًا لقيام الدَّليل على كونِه تعالى قادرًا على ذلك، وكونُه مجازًا واتِّساعًا فهو على ما تقولُه العرب مِن نسبة الأفعال إلى ما لا يجوز وقوعُها منه في تلك الحال كقولهم:
امْتَلَأَ الحَوْضُ وَقَالَ: قَطْنِي
          والحوض لا يقول، وإنَّما ذلك عبارة عن امتلائِه، أو أنَّه(6) لو كان ممَّن يقول لقال ذلك، وقولُهم: قالت الضِّفدع، وعلى هذين التَّأويلين يحمل قولُه تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}[ق:30]، واختصام الجنَّة والنَّار هو افتخار بعضِهما على بعض بمَن يسكنُهما، فالنَّار تتكبَّر بمَن أُلقِي(7) فيها مِن المتكبِّرين وتظنُّ أنها آثَرُ بذلك عند الله مِن الجنَّة وسقط قول النار مِن هذا الحديث في جميع النُّسخ، وهو محفوظ في الحديث: (وَقَالَتِ النَّارُ: أُوْثِرْتُ بِالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِيْنَ) رواه ابن وهب عن مالك عن أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة مِن رواية الدَّارقطني، وتظن الجنَّة ضدَّ ذلك لقولِها: (مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ) فكأنها أشفقت مِن إيضاع المنزلة عند الرَّب تعالى.
          فحكم تعالى للجنَّة بأنَّها رحمتُه لا يسكنُها إلَّا الرُّحماء مِن عبادِه، وحكم للنَّار بأنَّها عذابُه يصيب بها مَن يشاء مِن المتكبِّرين، وأنَّه ليس لإحداهما(8) فضل مِن طريق مَن يسكنُها الله مِن خلقِه، إذ هما اللَّتان للرَّحمة والعذاب، ولكن قد قضى لهما بالملء مِن خلقِه.
          وقولُه: (وَيُنْشِىءُ لِلنَّارِ خَلْقًا) يريد مَن قد شاء أن يلقى فيها ممَّن قد سبق له الشَّقاء ممَّن عصاه وكفر به، قالَه المُهَلَّب.
          وقال غيرُه: ينشىء الله لها خلقًا لم يكن في الدُّنيا، قال: وفيه حجَّة لأهل السنَّة في قولِهم إنَّ لله أن يعذِّب مَن لم يكن يُكَلِّفْهُ عبادتَه في الدنيا ولا يخرجُه إليها لقولِه: {وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء}[إبراهيم:27]بخلاف مَن يقول إنَّ الله تعالى لو عذَّب مَن لم يُكَلِّفْهُ لكان ظالمًا، وهذا الحديث حجَّة عليهم.
          وقولُه: (حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ) قد تقدَّم تفسير القدم(9) في باب قول الله ╡(10): {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم:4]مِن كتاب التَّوحيد.


[1] قوله: ((الحديث)) ليس في المطبوع.
[2] في المطبوع: ((حتى)).
[3] في المطبوع: ((قال ◙)).
[4] في المطبوع: ((يحتمل)).
[5] زاد في المطبوع: ((المعنى)).
[6] في المطبوع: ((وأنه)).
[7] في المطبوع: ((يلقي)).
[8] في المطبوع: ((لإحديهما)).
[9] قوله: ((تفسير القدم)) ليس في المطبوع.
[10] في المطبوع: ((في باب قوله)).