شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به}

          ░44▒ بَابُ قَوْلِه تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:13-14]{يَتَخَافَتُونَ}[طه:103]يَتَسَارُّونَ
          فيه: ابنُ عَبَّاس فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}[الإسراء:110]نَزَلَتْ والنَّبيُّ صلعم مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ(1) فَلا تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}[الإسراء:110]. [خ¦7525]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، وَزَادَ غَيْرُهُ: يَجْهَرُ بِهِ). [خ¦7527]
          معنى هذا الباب إثبات العلم لله تعالى صفة ذاتيَّة لاستواء علمِه بالسرِّ مِن القول كالجهر(2)، وقد بيَّنَه تعالى في آية أخرى، فقال: {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ}[الرعد:10]وفيه دليل أنَّ اكتساب العباد مِن القول والفعل(3) لله ╡ ألا ترى قولَه تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الملك:13]، ثم قال عقيب ذلك: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14]، فدلَّ أنَّه ممتدح بكونِه عالمًا بما أسرُّوه مِن قولِهم وجهروا به، وأنَّه خالق لذلك منهم.
          فإن قال قائل مِن القدريَّة الَّذين يزعمون أنَّ أفعال العباد ليست خلقًا لله تعالى: قولُه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} غيرُ راجع بالخلق إلى القول وإنَّما هو راجع إلى القائلين، فليس في الآية دليلٌ لكم على كونِه تعالى خالقًا لقول القائلين، قيل له: هذا تأويل فاسد؛ لأنَّ الله تعالى أخرج هذا الكلام مخرج التَّمدُّح منه تعالى بعلمِه ما أسرُّوه مِن قولِهم وجهروا به، وخلقه لذلك، مع خَلْقِه خَلْقَه دليلًا(4) على كونِه عالمًا به. فلو كان غير خالق له، وممتدحًا بكونه عالمًا بقولِه، وخالقًا لهم دون قولِهم لم يكن في الآية دليل على صحَّة كونِه عالمًا بقولِهم، كما ليس في عمل العامل ظرفًا مِن الظُّروف دليل على علمِه ما أودعَه غيرُه فيه. والله ╡ قد جعل خلقَه دليلًا على كونِه عالمًا بقولِهم، فيجب رجوع خلقِه تعالى إلى قولِهم؛ ليصحَّ له التَّمَدُّح بالأمرين، وليكون أحدُهما دليلًا على الآخر، وإذا كان ذلك كذلك، ولا أحد مِن الأمة يفرِّق بين القول وسائر الأفعال وقد دلَّت الآية على كون الأقوال خلقًا له تعالى وجب كون سائر أفعال العباد خلقًا له تعالى.
          وأمَّا قولُه صلعم: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ) فقد تقدَّم ما للعلماء فيه في كتاب(5) فضائل القرآن، وتلخيص معناه: الحضُّ على تحسين الصَّوت به، والغناء الَّذي أمر النَّبيُّ صلعم أن يُقرأ القرآن به، وهو الجهر بالصَّوت وإخراج تلاوتِه مِن حدود مساق الإخبار والمحادثة، حتَّى يتميَّز التَّالي به(6) مِن المتحدث تعظيمًا له في النُّفوس وتحبيبًا إليها.
          فإن قال قائل: فإن كان معنى قولِه صلعم: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ) ما ذكرت مِن تحسين الصَّوت به، أَفَعِنْدَكَ أنَّ(7) مَن لم يحسِّن صوتَه بالقرآن فليس مِن النَّبيِّ صلعم؟ قيل: معناه مَن(8) لم يستنَّ بنا في تحسين الصوت بالقرآن؛ لأنَّه صلعم كان يحسِّن صوتَه به، ويرجِّع في تلاوتِه على ما حكاه ابن مُغَفَّل، على ما يأتي بعد هذا،إن شاء الله تعالى(9)، فمَن لم يفعل مثل ذلك فليس بمتَّبع لسنَّتِه صلعم، ولا مقتديًا به في تلاوتِه.


[1] في (ز): ((أصحابِهِ)) والمثبت في المطبوع. نسخ أخرى
[2] في المطبوع: ((والجهر)).
[3] زاد في المطبوع: ((خلق)).
[4] كذا صورة العبارة كما في الأصل (ز) وهو الذي في المطبوع، والعبارة كما نقلها ابن حجر في ((الفتح)) (13/501) عن ابن بطال: ((فإنَّه جعل خلقه دليلا))، والعبارة في ((التوضيح)) لابن الملقن (33/514): ((وخلقه لذلك مع خلقه دليلا)).
[5] قوله: ((ما للعلماء فيه في كتاب)) ليس في المطبوع.
[6] في المطبوع: ((له)).
[7] قوله: ((أن)) ليس في المطبوع.
[8] قوله: ((من)) ليس في المطبوع.
[9] قوله: ((إن شاء الله تعالى)) ليس في المطبوع.