شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: أنا {الرزاق ذو القوة المتين}

          ░3▒ بابُ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:58]
          فيه: أَبُو مُوسَى قَالَ: قَالَ(1): النَّبيُّ صلعم: (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ ╡، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ). [خ¦7378]
          قال المؤلِّف: تضمَّن هذا الباب صفتين لله تعالى: صفة فعل، وصفة ذات، فصفة الفعل ما تضمَّنَه اسمُه الَّذي أجراه تعالى عليه وهو قولُه تعالى: {الرَّزَّاقُ} والصِّفة الرِّزق، والرِّزق فعل مِن أفعالِه ╡ لقيام الدَّليل على استحالة كونِه تعالى فيما لم يزل رازقًا، إذ رازق يقتضي مرزوقًا، والباري تعالى مذ كان ولا مرزوق، فمحال كونُه تعالى فاعلًا للرِّزق فيما لم يزل، فثبت أنَّ ما لم يكن ثُمَّ كان محدثٌ مخلوقٌ، فرزقُه إذًا صفة مِن صفات أفعالِه، وأمَّا وصفُه تعالى بأنَّه الرزَّاق فلم يزل الباري تعالى واصفًا لنفسه بأنَّه الرزَّاق، ومعنى ذلك أنَّه سيرزق إذا خلق المرزوقين، وأمَّا صفة الذَّات فالقوَّة، والقوَّة والقدرة اسمان مترادفان على معنى واحد، والباري تعالى لم يزل قادرًا قويًّا ذا قدرة وقوَّة، وإذا كان معنى القوَّة معنى القدرة، فالقدرة لم تزل موجودة قائمة به موجبة له حكم القادرين.
          وقولُه تعالى: {الْمَتِينُ} معناه(2) الثَّابت الصَّحيح الوجود، ومعنى قولِه ╕: (مَا أَحَدُ أَصَبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ ╡) ترك المعاجلة بالنِّقمة والعقوبة، لا أنَّ الصَّبر منه ╡ معناه كمعناه منا، كما أنَّ رحمتَه تعالى لمَن يرحمُه ليس معناها معنى الرَّحمة منَّا لأنَّ الرَّحمة منَّا رِقَّة وميل طبع إلى نفع المرحوم، والله ╡ يتعالى عن وصفِه بالرِّقَّة وميل الطَّبع لأنَّه ليس بذي طبع وإنَّما ذاك(3) مِن صفات المحدثين.
          وقولُه: (عَلَى أَذًى سَمِعَهُ) معناه أذى لرسلِه وأنبيائِه والصَّالحين مِن عبادِه لاستحالة تعلُّق أذى المخلوقين به تعالى، لأنَّ الأذى مِن صفات النَّقص الَّتي لا تليق بالله ╡ إذ الَّذي يلحقُه العجز والتَّقصير على الانتصار ويصبر جبرًا هو الَّذي يلحقُه الأذى على الحقيقة، والله تعالى لا يصبر جبرًا وإنَّما يصبر تفضُّلًا، والكناية في الأذى راجعة إلى الله ╡ / والمراد بها أنبياؤُه ورسلُه لأنَّهم جاءوا بالتَّوحيد لله ╡ ونفي الصَّاحبة والولد عنه، فتكذيب الكفَّار لهم في إضافة الولد لله(4) تعالى أذى لهم ورد لما جاءوا به، فلذلك جاز أن يضاف الأذى في ذلك إلى الله ╡ إنكارًا لمقالتِهم وتعظيمًا لها إذ في تكذيبِهم للرُّسل في ذلك إلحاد في صفاتِه ╡، ونحوُه قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذين يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ}[الأحزاب:57]، وتأويلُه(5) الَّذين يؤذون أولياء الله وأولياء رسولِه، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه في الإعراب، والمحذوف مراد، نحو قولِه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}[يوسف:82]، يعني أهل القرية.
          وقد تضمَّن هذا الباب الرَّدَّ على مَن أنكر أنَّ لله تعالى صفة ذات هي قدرة وقوة لاعتقادِهم أنَّه تعالى قادر بنفسِه لا بقدرة الله(6)، والله تعالى قد نصَّ على أنَّ له قدرة بخلاف ما تعتقدُه(7) القدريَّة مِن أنَّه قويٌّ بنفسِه لا بقوَّة.
          وفيه ردٌّ على المجسِّمة القائسين الغائب(8) على الشَّاهد قالوا: كما لم نجد قويًّا ولا ذا قوَّة فيما بيننا إلَّا جسمًا كذلك الغائب حكمُه حكم الشَّاهد، فيقال لهم: إن كنتم على الشَّاهد تعوِّلون(9) وعليه تعتمدون في قياس الغائب عليه، فكذلك لم تجدوا جسمًا إلَّا ذا أبعاض وأجزاء مؤلَّفة يصح(10) عليه الموت والحياة والعلم والجهل والقدرة والعجز، فاقضوا على أنَّ الغائب حكمُه حكم هذا فإن مرُّوا عليه أُلحدوا وأبطلوا الحدوث والمحدث، وإن أبوه نقضوا استدلالهم ولا انفكاك لهم مِن أحد الأمرين.
          ومِن هذه الجهة دخل على المعتزلة الخطأ في قياسِهم صفات الله تعالى على صفات المخلوقين، والله تعالى لا يشبه المخلوقين لأنَّه الخالق ولا خالق له، وقد أعلمنا الله تعالى بالحكم في ذلك فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء}[الشورى:11]، فكيف يُشبَّه الخالق بالمخلوق، ومَن ليس كمثلِه شيء كمَن له مثل مِن الأشياء المخلوقة؟ ! وهذا ما لا يخفى فسادُه وإبطالُه.


[1] قوله: ((قال)) ليس في المطبوع.
[2] قوله: ((معناه)) ليس في المطبوع.
[3] في المطبوع: ((ذلك)).
[4] في المطبوع: ((له)).
[5] في المطبوع: ((تأويله)).
[6] قوله: ((الله)) ليس في المطبوع.
[7] في المطبوع: ((ما تعتقد)).
[8] في المطبوع: ((للغائب)).
[9] في المطبوع: ((تقولون)).
[10] في المطبوع: ((فيصح)).