شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قوله: {وكلم الله موسى تكليمًا}

          ░37▒ بَابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:146]
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فقَالَ(1) مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذي أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالتِهِ وَكلامِهِ) الحديث. [خ¦7515]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا). [خ¦7516]
          وفيه: أَنَسٌ: (قَالَ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بالنَّبيِّ صلعم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ جَاءَهُ ثَلاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَال أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأنْبِيَاءُ ‰، تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ فَتَوَلاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ جَوْفِهِ وصَدْرِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ مَحْشُوًّا َحِكْمَةً وَإِيمَانًا فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ، يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ...، فذكر حديث المعراج: فَذَكَرَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، وَإِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ في الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الخَامِسَة لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ في السَّادِسَةِ، وَمُوسَى في السَّابِعَةِ، بِتَفْضِيلِ كَلامِ اللهِ ╡، فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ، ثُمَّ عَلا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إليه ╡ خَمْسِينَ صَلاةً، فَقَالَ لهُ مُوسَى: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَرَاجَعَ رَبَّهُ حَتَّى خَفَّفَ عَنْهُ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، فقالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَقَالَ النَّبيُّ: يَا مُوسَى، قَدْ وَاللهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللهِ، وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ في المَسْجِدِ الْحَرَامِ). [خ¦7517]
          قال المؤلِّف: بوَّب البخاري لحديث أنس في كتاب الأنبياء: باب كان النَّبيُّ صلعم تنام عينه ولا ينام قلبُه، وبوَّب له في تفسير القرآن: باب قولِه تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتنَةً لِلنَاسِ}[الإسراء:60].
          استدلَّ البخاري على إثبات كلام الله ╡ وإثباتِه متكلِّمًا بقولِه تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:164]، وأجمع أهل السُّنَّة على أنَّ الله ╡ كلَّم موسى بلا واسطة ولا ترجمان، وأَفْهَمَهُ معاني كلامِه وأسمعَه إيَّاها، إذ الكلام ممَّا يصحُّ سماعُه. فإن قال قائل مِن المعتزلة أو غيرِهم: فإذا سمع موسى كلام الله ╡ بلا واسطة(2) فلا يخلو أن يكون مِن جنس الكلام المسموع المعهود فيما بيننا أو لا يكون مِن جنسِه، فإن كان مِن جنسِه فقد وجب أن يكون محدثًا ككلام المُحْدَثِين، وإن لم يكن مِن جنسِه فكيف السَّبيل إلى إسماعِه إيَّاه وفهمِه معانيه؟
          فالجواب أنَّه لو لزم مِن حيث سمعَه منه تعالى وفهمَ معانيه أن يكون كسائر كلام المُحْدَثِين قياسًا عليه للزم أن يكون تعالى(3) بكونه فاعلًا وقادرًا وعالمًا وحيًا ومريدًا، وسائر صفاتِه من جنس جميع الموصوفين بهذه الصِّفات فيما بيننا. فإن قالوا: نعم، خرجوا مِن التَّوحيد، وإن أَبَوا(4) نقضوا دليلَهم واعتمادَهم على قياس الغائب على حكم الشَّاهد.
          ثمَّ يقال لهم: لو وجب أن يكون كلامُه مِن جنس كلام المخلوقين مِن حيث اشتركُ كلامِه تعالى وكلامِهم في إدراكِهما بالأسماع لوجب إذا كان الباري تعالى موجودًا وشيئًا أن يكون مِن جنس الموجودات وسائر الأشياء المشاهدة لنا، فإن لم يجب هذا لم يجب ما عارضوا به، وقد ثبت أنَّه تعالى قادر على أن يعلِّمنا اضطرارًا كلَّ شيء يصحُّ أن يعلِّمَنَاه استدلالًا ونظرًا، وإذا كان ذلك كذلك فواجب(5) أن يكون تعالى قادرًا على أن يعلم موسى معاني كلامه الَّذي لا يشبِه كلام المخلوقين الخارج عن كونِه حروفًا منظَّمة وأصواتًا مقطَّعة اضطرارًا أو ينصب له دليلًا إذا نظر فيه أدَّاه إلى العلم بمعاني كلامِه، وإذا كان قادرًا على الوجهين جميعًا زالت شبهة المعتزلة.
          قال المُهَلَّب: في إفهام الله تعالى لموسى(6) مِن كلامِه ما لا عهد له بمثلِه بتنوير قلبِه له وشرحِه لقبولِه لا يخلو أن يكون ما أفهم الله سليمان صلعم مِن كلام الطَّير ومنطقِها هو مثل كلام سليمان أو لا يشبِه كلامَه، فإن كان يشبِه كلام سليمان ومِن جنسِه فلا وجه لاختصاص سليمان وداوود بتعليمِه دون بني جنسِه، ولا معنى لفخرِه ╕ بالخاصَّة وامتداحِه بقولِه: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} إلى قولِه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}[النمل:16]، أو يكون منطق الطَّير الَّذي فهمَه سليمان غير منطق سليمان وآلِه وبني جنسِه، فقد أفهمَه الله ما لم يفهمْه غيرُه مِن كلام الهدهد وكلام النَّملة الَّتي تبسَّم صلعم ضاحكًا(7) مِن قولِها لفهمِه عنها ما لم يفهمْه غيرُه منها.
          وإنَّما ذكر حديث أبي هريرة في(8) الشفاعة مختصرًا لما في الحديث الطَّويل مِن قول إبراهيم (وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللهُ التَّورَاةَ، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا) وكذلك في حديث أنس في الإسراء ((فَوَجَدَ مُوسَى فِي السَّماءِ السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِهِ ╡)) وهذا يدلُّ على أنَّ الله ╡ لم يكلِّم مِن الأنبياء غير موسى صلعم بخلاف ما زعم الأشعريُّون، ذكروا عن ابن عبَّاس وابن مسعود أنَّ الله كلَّم محمَّدًا ╕ بقولِه: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم:10]، وأنَّه رأى ربَّه ╡، وقد دفعت هذا عائشة ♦ وأعظمت فرية مَن افترى فيه على الله تعالى.
          وأمَّا قول موسى إذ علا جبريل بمحمَّد: (يَا رَبِّ، لَمْ أَظُنَّ أَنَّكَ تَرفَعَ عَلَيَّ أَحَدًا) فأعلم(9) موسى أن الله تعالى لم يكلِّم أحدًا مِن البشر في الدنيا غيره، إذ بذلك استحقَّ أن يرفع إلى السَّماء السَّابعة، وفهم مِن قول الله ╡: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي}[الأعراف:144]أنَّه أراد البشر كلَّهم.
          ولم يعلم والله أعلم أنَّ الله تعالى فضَّل محمَّدًا عليه بما أعطاه الله مِن الوسيلة والدَّعوة المقبولة منه شفاعة لأمَّتِه ولسائر الأنبياء مِن شدَّة موقفِهم يوم الحشر حين أحجم الأنبياء عن الوسيلة إلى ربِّهم لشدَّة غضبِه ╡، وفضلِه بالإسعاف بالمقام المحمود الَّذي وعدَه في كتابِه، فبهذا رفع الله محمَّدًا على موسى ♂.
          وأمَّا قولُه: (فَدَنَا الجَبَّارُ رَبُّ العِزَّةِ) فهو دنوُّ محبَّة ورحمة وفضيلة لا دنوُّ مسافة ونقلة لاستحالة الحركة والنَّقلة(10) على الباري ╡ إذ لا يجوز أن تحويه الأمكنة.
          وقولُه: (حَتَّى كَانَ {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم:9]) فهو جبريل الَّذي تدلَّى، فكان مِن الله تعالى أو مِن أمرِه على مقدار ذلك، عن الحسن {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم:10]، إلى جبريل ما أوحى، وكتب القلم حتَّى سمع محمد صريفَه في كتابِه، وبلغ جبريل محمَّدًا ♂، وهو عند سدرة المنتهى، قيل: إليها منتهى أرواح الشُّهداء {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:11]. قال ابن عبَّاسٍ: رأى محمَّد ربَّه بقلبِه. وعن ابن مسعود وعائشة: رأى جبريل وهو قول قَتادة. وقال الحسن: ما رأى مِن مقدور الله وملكوتِه.
          وقولُه: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}[النجم:12]، هو محمَّد رأى جبريل ♂ في صورتِه الَّتي خلقَه الله تعالى عليها له ستمائة جناح رفرفًا أخضر سَدَّ ما بين الخافقين، ولم يرَه قطُّ في صورتِه الَّتي هو عليها إلا مرَّتين، وإنَّما كان يراه في صورة كان يتشكَّل عليها مِن صور الآدميِّين وأكثرُها صورة دِحْية الكلبي.
          وفي قولِه: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} دليل على أنَّ العيان أكبر أسباب العلم فلا يُتمارى فيه ولذلك قال ╕: ((لَيْسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ)) ورأيت لبعض النَّاس في لقاء النَّبيِّ صلعم للأنبياء في السَّموات دون عليِّين، قال(11): والأنبياء مقرُّهم في ساحة الجنَّة ورياضُها تحت العرش، ومَن دونهم مِن المقرَّبين هناك فما وجه لقائِه لآدم في السَّماء الدُّنيا، ولإدريس في السَّماء الثَّانية، وهارون في الرَّابعة، وآخر في الخامسة، وإبراهيم في السَّادسة، وموسى في السَّابعة؟ قال: فوجهُه أنهم تلقوه صلعم كما يُتَلَقَّى القادم يتسابق(12) النَّاس إليه على قدر سرورهم بلقائِه.
          وقد روي عن أنس في رتبة الأنبياء في السَّموات خلاف حديث البخاري، روى ابن وهب عن يعقوب بن عبد الرحمن الزُّهري عن أبيه عن عبد الرحمن بن هاشم بن عُتبةَ بن أبي وقَّاص عن أنس بن مالك فذكر حديث الإسراء: ((فَوَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنيَا، وَفِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ عِيْسَى وَيَحْيَى بنِ زَكَرِيَّا ابْنَا الخَالَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ يُوسُفَ، وَفِي السَّماء الرَّابِعَةِ إدْرِيس، وَفِي الخامسة هارون، وفي السَّادسة موسى، وفي السَّابعة إبراهيم)).
          وأمَّا قولُه: (فَاسْتَيْقَظَ وَهُو فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ) فإنَّ أهل العلم اختلفوا في صفة مسرى النَّبيِّ صلعم، فقالت طائفة: أسرى الله تعالى بجسدِه ونفسِه، روي ذلك عن ابن عبَّاس والضَّحَّاك وسعيد بن جُبير وقَتادة وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة.
          وقالت طائفة ممَّن قال: أسري بجسدِه أنَّه صلَّى بالأنبياء ببيت المقدس ثم عرج به إلى السَّماء فأوحى الله تعالى إليه، وفرض عليه الصَّلاة، ثم رجع إلى المسجد الحرام مِن ليلتِه فصلَّى به صلاة الصُّبح، روى ذلك الطَّبري في حديث الإسراء عن أنس: ذكر مِن حديث أبي سعيد الخدري أنَّه صلى ╕ في بيت المقدس، ولم يذكر أنَّه صلَّى خلفَه أحد.
          وقالت طائفة: أسري برسول الله صلعم بجسمِه ونفسِه غير أنَّه لم يدخل بيت المقدس، ولم يصلِّ فيه، ولم ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكَّة. روي ذلك عن حذيفة قال في قولِه تعالى: {سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}[الإسراء:1]، قال: لم يصلِّ فيه النَّبيُّ ╕، ولو صلَّى فيه لكتب عليهم(13) الصلاة فيه كما كتب عليكم الصَّلاة عند الكعبة.
          وقال آخرون: أسري بروحِه ولم يسر بجسمِه(14)، روي ذلك عن عائشة ومعاوية بن أبي سفيان والحسن البصري، وذكر ابن فُورَك عن الحسن قال: عرج بروح النَّبيِّ ╕ وجسدُه في الأرض، وهو اختيار محمد بن إسحاق صاحب السِّير.
          ومِن حجَّة أهل المقالة الأولى ما روي عن ابن عبَّاس في قولِه ╡: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ}[الإسراء:60]، قال: هي رؤيا عين أُرِيَها رسول الله صلعم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس، وليست رؤيا منام، رواه ابن عيينة عن عَمْرو عن عِكْرِمَة عن ابن عباس. قالوا: ولو أسري بروحِه دون جسدِه وكان الإسراء في المنام لما أنكرت قريش ذلك مِن قولِه ╕ لأنَّهم كانوا لا ينكرون الرُّؤيا؟ ولا ينكرون أنَّ(15) أحدًا يرى في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل.
          ومِن حجَّة الَّذين قالوا: أسري بروحِه دون جسدِه قول أنس في حديث الإسراء، قال حين أسري به: (جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَهُو نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ...) وذكر الحديث إلى قولِه: (حَتَّى أَتَوهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَينُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ ‰ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ) فذكر النَّوم في أول الحديث، وقال في آخرِه: (فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ) وهذا بيِّن لا إشكال فيه، وإلى هذا ذهب البخاري، ولذلك ترجم له في كتاب الأنبياء وتفسير القرآن ما ذكرتُه في صدر هذا الباب.
          قال ابن إسحاق: وأخبرني بعض آل أبي بكر الصِّدِّيق أنَّ عائشة ◄ كانت تقول: ما فُقِدَ جسدُ رسول الله صلعم ولكن أُسْرِي بروحِه. قال ابن إسحاق: وحدَّثني يعقوب بن عُيينة بن المغيرة أنَّ معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلعم قال: كانت رؤيا مِن الله صادقة، قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك مِن قولِهما لقول الحسن البصري: إنَّ هذه الآية نزلت في ذلك يعني: قول الله ╡: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ}[الإسراء:60]ولقول الله ╡ عن إبراهيم ╕ إذ قال لابنِه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}[الصافات:102]، ثمَّ مضى على ذلك فعرف أنَّ الوحي مِن الله ╡ يأتي الأنبياء أيقاظًا ونيامًا.
          قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلعم يقول: ((تَنَامُ عَيْنِي، وَقَلْبِي يَقْظَانُ)) فالله أعلم أيَّ ذلك كان قد جاءَه، وعاين فيه ما عاين مِن أمر الله تعالى على أيِّ حالَيْه كان نائمًا أو يقظان كلُّ ذلك حقٌّ وصدق.
          وذكر ابن فُورَك في ((مشكل القرآن)) قال: كان النَّبي صلعم ليلة الإسراء في بيت أم هانئ بنت أبي طالب. فالله أعلم.
          واحتجَّ أهل هذه المقالة فقالوا: ما اعْتَلَّ به مَن قال: إنَّ الإسراء لو كان في المنام لما أنكرتْه قريش لأنَّهم كانوا لا ينكرون الرُّؤيا فلا حجَّة فيه؛ لأنَّ قريشًا كانت تكذب العيان، وترد شهادة الله الَّتي هي أكبر شهادة عليهم بذلك، إذ قال عنهم حين انشقَّ القمر: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}[القمر:2]، فأخبر عنهم أنَّهم يكذِّبون ما يرون عيانًا، وكذلك قال عنهم: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}[الحجر:14-15]، وقال تعالى عنهم أنَّهم قالوا: {لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا}[الإسراء:90]، إلى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ}[الإسراء:93]، ثم قالوا بعدما تمنَّوه: {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا}[الإسراء:93]، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا}[الأنعام:109]، إلى قولِه: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:109]الآية، فأخبر تعالى أنَّه يكيد عقولهم وأبصارهم حتى ينكروا العيان القاطع للارتياب.
          ومثله قولُه تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شيء قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ}[الأنعام:111]، وإنَّما كان إنكار قريش لقولِه: ((أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ)) حرصًا منهم على التَّشنيع عليه، وإثارة اسم الكذب عليه عند العامَّة المستهواة بمثل هذا التَّشنيع فلم يسألوه: في اليقظة كان ذلك الإسراء أو في النَّوم، وأقبلوا على التَّقريع له، وتعظيم قولِه، وهذا غير معدوم مِن تشنيعِهم، ألا ترى تكذيبَهم قبل وقعة بدر لرؤيا عاتكة بنت عبد المطلب، عمَّة رسول الله صلعم، إذ قالت: رأيت كأنَّ صخرة انحدرت مِن أبي قُبيس فانفلقت فما تركت دارًا بمكَّة إلَّا دخلت فيها منها فلقة. فلمَّا رأوا قبح تأويلِها عليهم قالوا: يا بني عبد المطلب، ما أهل بيت في العرب أكذب منكم، أما كفاكم أن تدَّعوا النُّبوَّة في رجالكم حتى جعلتم منكم نبيَّة. فشنَّعوا رؤياها، وأخبروا عنها بالنَّفي طمعًا في إثارة العامَّة عليهم، فكذلك كان قولُهم في مسراه ╕.
          وفسَّر في الحديث (اللَّغَادِيد) عروق الحلق. وأهل اللُّغة يقولون: اللغاديد هي كالزَّوائد مِن لحم يكون في باطن الأذنين مِن داخل، واحدُها لغدود وبعض العرب تسمِّيها: الألغاد، واحدُها: لغد. ذكرَه ثابت في خلق الإنسان.


[1] في المطبوع: ((قال)).
[2] زاد في المطبوع: ((ولا ترجمان)).
[3] قوله: ((تعالى)) ليس في المطبوع.
[4] في المطبوع: ((أبوه)).
[5] في المطبوع: ((وجب)).
[6] في المطبوع: ((موسى)).
[7] في المطبوع: ((تبسم ضاحكاً)).
[8] زاد في المطبوع: ((حديث)).
[9] قوله: ((فأعلم)) ليس في المطبوع.
[10] في المطبوع: ((النقلة والحركة)).
[11] قوله: ((قال)) ليس في المطبوع.
[12] في المطبوع: ((يسابق)).
[13] في المطبوع: ((لكتب عليكم)).
[14] في المطبوع: ((بجسده)).
[15] قوله: ((أن)) ليس في المطبوع.