شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}

          ░46▒ بَابُ(1): {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية[المائدة:67]وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى رَسُولِه الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ: وَقَالَ تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}[الجن:28]، وَقَالَ: {أُبْلِغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي}.
          وَقَالَ في قصة كَعْب حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبيِّ صلعم: {فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}[التوبة:105]، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ، فَقُلْ {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ.
          وَقَالَ مَعْمَرٌ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} هَذَا الْقُرْآنُ، {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]بَيَانٌ وَدِلالَةٌ، كَقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ}[الممتحنة:10]هَذَا حُكْمُ اللهِ، {لَا رَيْبَ فِيْهِ}[البقرة:2]لا شَكَّ فِيهِ(2)، {تِلْكَ آيَاتُ}[يونس:1]بيِّناتٌ(3) يعني هَذِهِ أَعْلامُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ، {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}[يونس:22]، يعني بِكُمْ.
          وَقَالَ أَنَسٌ: (بَعَثَ النَّبيُّ صلعم خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: أَتُؤْمِنُوا بِي حَتَّى(4) أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رسولِ اللهِ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ).
          فيه: الْمُغِيرَةُ: (أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا، أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إلى الْجَنَّةِ). [خ¦7530]
          وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَلَا تُصَدِّقْهُ، إِنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية[المائدة:67]). [خ¦7531]
          وفيه: عَبْدُ اللهِ: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُّيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ... الحديثَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية[الفرقان:68]). [خ¦7532]
          قال المُهَلَّب: هذا الباب كالذي قبلَه، وهو في معناه وتبليغ الرَّسول فِعْلٌ مِن أفعالِه، وقول الزُّهري: (مِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِهِ البَلَاغُ) يبيِّن هذا، وأنَّه قول أئمَّة الدِّين.
          وقولُه: {فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ}[التوبة:105]يعني: تلاوتَهم وجميع أعمالِهم، ومعنى قولِه: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}[المائدة:67]يريد بلِّغْه جهارًا وعلانيةً، فإن لم تفعل فما بلَّغْت كلَّ التَّبليغ.
          وقول عائشة: (إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ) وتلاوتُه(5) مِن عملِه.
          وقولُها: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ) أي لا يستخفَّنَّك بعملِه فتظنَّ به الخير، لكن حتى تراه عاملًا على ما شرع الله، ورسولُه على ما سنَّ، والمؤمنون على ما عملوا.
          وقول معمر في قولِه تعالى: {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ}[البقرة:1-2]ففسَّر ذلك بهذا وذلك ممَّا يخبر به عن الغائب، وهذا إشارة إلى الحاضر، والكتاب حاضر، ومعنى ذلك أنَّه لما ابتدأ جبريل بتلاوة القرآن لمحمَّد ♂ كفت حضرة التِّلاوة عن أن يقول هذا الَّذي يسمع هو ذلك الكتاب لا ريب فيه، فاستغنى بأحد الضميرين عن الآخر.
          وقولُه تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}[يونس:22]فلمَّا جاز أن يخبر عنهم بضميرين مختلفين؛ ضميرِ المخاطبة في الحضرة(6) وضمير الخبر عن الغيبة، فلذلك أخبر بضمير الغائب بقولِه تعالى(7): وهو يريد هذا الحاضر، وهذا مذهب مشهور للعرب تسمِّيه(8) أصحاب المعاني الالتفاف، وهو انصراف المتكلِّم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر.
          وقولُه تعالى: {كُنْتُمْ} ثم قال: {بِهِمْ} يدلُّ أنَّه خاطب الكلَّ، ثم أخبر عن الرِّاكبين للفلك خاصَّة إذ قد يركبُها الأقلُّ مِن النَّاس، لكن لجواز أن يركبَها كلُّ واحد مِن المخاطبين خاطبَهم بضمير الكلِّ، ولأن لا يركبُها إلَّا الأقلُّ أخبر عن ذلك الأقلِّ بقولِه: {بِهِمْ}.


[1] زاد في المطبوع: ((قوله تعالى)).
[2] قوله: ((فيه)) ليس في المطبوع.
[3] قوله: ((بيناتٌ)) ليس في المطبوع.
[4] في المطبوع: ((أتُؤمِنُوني)).
[5] في المطبوع: ((تلاوته)).
[6] في المطبوع: ((والحضرة)).
[7] في المطبوع: ((بقوله: ذلك)). نسخ أخرى
[8] في المطبوع: ((سمته)).