شرح الجامع الصحيح لابن بطال

قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه}

          ░15▒ بَابُ قَوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}[آل عِمْرَان:28]وَقَوْلُهُ تعالى: {تَعْلَمُ مَا في نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ}[المائدة:116].
          فيه: عَبْدُ اللهِ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ ومِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ). [خ¦7403]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابِهِ، وَهُوَ يَكْتُبُ على نَفْسِهِ، وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ على الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي). [خ¦7404]
          وفيه(1): أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم(2): (يَقُولُ اللهُ تعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَن أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً). [خ¦7405]
          قولُه تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}[آل عِمْرَان:28]، وقولُه: {وَلَا أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ}[المائدة:116]، وما ذكر في الأحاديث مِن ذكر النَّفس فالمراد به إثبات نفس لله ╡، والنَّفس لفظة تحتمل معانٍ، والمراد بنفسِه تعالى ذاتُه، فنفسُه ليس بأمر يزيد عليه تعالى، فوجب أن تكون نفسُه هي هو، وهذا إجماع، وللنَّفس وجوه أُخَر لا حاجة بنا إلى ذكرِها إِذ الغرض مِن التَّرجمة خلاف ذلك.
          وأمَّا(3) قولُه صلعم: (مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ) فليس هذا موضع الكلام فيه، وسيأتي بعد هذا في بابِه إن شاء الله تعالى(4).
          وأمَّا قولُه: (وَهُوَ(5) وَضْعٌ عِنْدَهُ) فعند في ظاهر اللُّغة تقتضي أنَّها للموضع، والله يتعالى عن الحلول في المواضع لأنَّ ذلك مِن صفات الأجسام إذ الحالُّ في موضع لا يكون بالحلول فيه بأولى منه بالحلول في غيره إلَّا لأمر يخصُّه حلوله فيه، والحلول فيه عرض مِن الأعراض يفنى بمجيء حلول آخر يحلُّ به في غير ذلك المكان، والحلول محدث والحوادث لا تليق به تعالى، لدِلالتِها على حدث مَن قامت به فوجب صرف (عِنْدَ) عن ظاهرِها إلى ما يليق به تعالى، وهو أنَّه أراد صلعم إثبات علمِه بإثابة مَن سبق علمُه أنَّه عامل بطاعتِه، وعقاب مَن سبق علمُه بأنَّه عامل بمعصيتِه. و(عِنْدَ) وإن كان وضعُها في اللُّغة للمكان فقد يتوسَّع فيها فتجعل لغير المكان كقولِه ╕: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)) ولا مكان هناك.
          وأمَّا قولُه: (إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي) فقد تقدَّم أنَّ رحمتَه تعالى إرادتُه لإثابة المطيعين له وغضبُه إرادتُه لعقاب العاصين له، وإذا كان ذلك كذلك كان معنى قولِه: (إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي) إنَّ إرادتي ثواب الطَّائعين لي هي إرادتي ألَّا أعذِّبهم، وهو معنى قولِه تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، فإرادتُه بهم اليُسر هي إرادتُه ألَّا يريد بهم العسر، وما كان ما أراد مِن ذلك بهم، ولم يكن ما لم يُرِدْه فعبَّر صلعم عن هذا المعنى بقولِه: (إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي) و((تَسْبِقُ غَضَبِي)) وظاهر(6) قولِه يفيد أنَّ رحمتَه وغضبَه معنيان أحدُهما غالب للآخر وسابق له، وإذا ثبت أنَّ إرادتَه واحدة وصفة مِن صفات ذاتِه، وأنَّ رحمتَه وغضبَه ليستا بمعنى أكثر مِن إرادتِه الَّتي هي متعلِّقة بكلِّ ما يصحُّ كونُه مرادًا وجب صرف كلامِه عن ظاهرِه، لأنَّ إجراء الكلام على ظاهرِه يقتضي حدث إرادتِه لو كانت له إرادات كثيرة متغايرة.
          وقولُه: (فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ) هذا نصٌّ مِن النَّبيِّ صلعم أنَّ الملائكة أفضل مِن بني آدم، وهو مذهب جمهور أهل العلم، وعلى ذلك(7) شواهد مِن كتاب الله ╡ منها قولُه تعالى: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف:20]، ولا شكَّ أنَّ الخلود أفضل مِن الفناء فكذلك الملائكة أفضل مِن بني آدم وإلَّا فلا يصح معنى الكلام.
          وأمَّا وصفُه تعالى لنفسِه(8) بأنَّه يتقرَّب إلى عبدِه ووصف العبد بالتقرُّب إليه ووصفُه بإتيانه هرولة فإنَّ التَّقرُّب والإتيان والمشي والهرولة محتملة للحقيقة والمجاز، وحملُها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات وترائي(9) الأجسام، وذلك لا يليق بالله تعالى فاستحال حملُها على الحقيقة، ووجب حملُها على المجاز، لشهرة ذلك في كلام العرب، فوجب أن يكون وصف العبد بالتَّقرُّب إليه شبرًا أو ذراعًا(10)، وإتيانُه ومشيُه معناه التَّقرُّب إليه بطاعتِه وأداء مفترضاتِه، ويكون تقربُّه ╡ مِن عبدِه وإتيانُه هرولة عبادَه عبارةٌ عن إثابتِه على طاعتِه وتقرُّبِه مِن رحمتِه ويكون معنى قولِه ╡: (أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) أي: أتاه ثوابي مسرعًا.
          قال الطَّبري: وإنَّما مثَّل القليل مِن الطَّاعة بالشِّبر مِن الدُّنوِّ منه والضِّعف مِن الكرامة والثَّواب بالذِّراع، فجعل ذلك دليلًا على مبلغ كرامتِه لمَن أُكرم على طاعتِه أنَّ ثواب عملِه له على عملِه الضِّعف، وأنَّ إكرامَه عليه مجاوز حدَّه إلى ما بيَّنه ╡.
          فإن قيل: فما معنى قولِه: (إِذَا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي؟) قيل: معنى ذلك: وإذا ذكرني بقلبِه مُخْفِيًا ذلك عن خلقي ذكرتُه برحمتي وثوابي مخفيًا ذلك عن خلقي حتى لا يطَّلع عليه أحد منهم، وإذا ذكرني في ملأ مِن عبادي، ذكرتُه في ملأ مِن خلقي أكثر منهم وأطيب.
          قال الطَّبري: فإن قيل: أيُّ الذكرين أعظم ثوابًا الذِّكر الَّذي هو بالقلب، أو الذِّكر الَّذي هو باللسان؟ قيل: قد اختلف السَّلف في ذلك، فروي عن عائشة أنَّها قالت: لأن أذكر الله في نفسي أحب إليَّ مِن(11) أن أذكرَه بلساني سبعين مرَّة. وقال آخرون: ذكر الله باللسان أفضل، روي عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: ما دام قلب الرَّجل يذكر الله ╡ فهو في صلاة، وإن كان في السُّوق، وإن تحرَّك بذلك اللِّسان والشَّفتان فهو أعظم.
          قال الطَّبري: والصَّواب عندي أنَّ إخفاء النَّوافل أفضل مِن ظهورِها لمَن لم يكن إمامًا يُقتدى به، إن(12) كان في محفل اجتمع أهلُه لغير ذكر الله أو في سوق، وذلك أنَّه أسلم له مِن الرِّياء، وقد روينا مِن حديث سعد بن أبي وقَّاص عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((خَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي، وَخَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ)) ولمَن كان بالخلاء أن يذكر الله بقلبِه ولسانِه، لأنَّ شُغْلَ جارحتين بما يرضي الله ╡ أفضل مِن شغل جارحة واحدة، وكذلك شغل ثلاث جوارح أفضل مِن شغل جارحتين، وكلما زاد فهو أفضل إن شاء الله تعالى.


[1] في المطبوع:((فيه)).
[2] في المطبوع: ((قال ◙)).
[3] في المطبوع: ((أما)).
[4] قوله: ((بعد هذا في بابه إن شاء الله تعالى)) ليس في المطبوع.
[5] قوله: ((وهو)) ليس في المطبوع.
[6] في المطبوع: ((فظاهر)).
[7] في المطبوع: ((وعلى هذا)).
[8] قوله: ((لنفسه)) ليس في المطبوع.
[9] في المطبوع:((وتواتي)).
[10] في المطبوع: ((وذراعاً)).
[11] قوله: ((من)) ليس في المطبوع.
[12] في المطبوع:((وإن)).