شرح الجامع الصحيح لابن بطال

قول الله تعالى: {لما خلقت بيدي}

          ░19▒ بابُ قَولِهِ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:75]
          فيه: أَنَس، قَالَ النَّبيُّ صلعم(1): (يُجْمَعُ الْمُؤْمِنِونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَمَا تَرَى النَّاسَ؟ خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكَ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاك، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِي أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، عَبْدًا آتَاهُ اللهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكم(2)، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتي أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا، عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي، فَأَنْطَلِقُ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُه بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا ربي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ،وقُلْ تسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعْ، فَيَحُدُّ لي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ في النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللهُ وَكَانَ في قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللهُ وَكَانَ في قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً). [خ¦7410]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَدُ اللهِ مَلْأَى، لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاء وَالأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَقَالَ: عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ). [خ¦7411]
          وفيه: ابنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ اللهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَرَضِيْنَ، وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ). [خ¦7412]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ). [خ¦7413]
          وفيه: عَبْدُ اللهِ: (أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلعم فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْخَلائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلعم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الأنعام:91]. وَقَالَ عبدُ اللهِ مرَّةً: فَضَحِكَ النَّبيُّ صلعم تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ). [خ¦7414]
          استدلالُه مِن قولِه تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:75]، وسائر أحاديث الباب على إثبات يدين لله ╡ هما صفتان مِن صفات ذاتِه ليستا بجارحتين بخلاف الجسمية(3) المثبتة أنَّهما جارحتان وخلاف قول القدريَّة النُّفاة لصفات ذاتِه، ثمَّ إذا لم يجز أن يقال: إنَّهما جارحتان لم يجز أن يقال: إنَّهما قدرتان، ولا: إنَّهما نعمتان؛ لأنَّهما لو كانتا قدرتين لفسد ذلك مِن وجهين: أحدُهما: أنَّ الأمَّة أجمعت مِن بين نافٍ لصفات ذاتِه وبين مثبت لها أنَّ الله تعالى ليس له قدرتان بل له قدرة واحدة في قول المثبتة، ولا قدرة له في قول النَّافية لصفاتِه، لأنَّهم يعتقدون كونَه قادرًا لنفسِه لا بقدرة، والوجه الآخر أنَّ الله تعالى قال لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}[ص:75]، قال إبليس مجيبًا له: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ}[الأعراف:12]. فأخبر بالعلَّة الَّتي مِن أجلِها لم يسجد، وأخبرَه تعالى بالعلَّة الَّتي لها أوجب عليه السُّجود، وهو أنَّ خَلْقَه بيديه، فلو كانت اليد القدرة الَّتي خلق آدم بها وبها خلق إبليس لم يكن لاحتجاجِه تعالى عليه بأنَّ خَلْقَه بما يوجب عليه السُّجود معنى، إذ إبليس مشارك لآدم فيما خلَقَه به تعالى مِن قدرتِه، ولم يعجز إبليس بأن يقول له: أي ربِّ، وأيُّ فضل له عليَّ وأنا خلقتني بقدرتك كما خلقتَه؟ ولم يعدل إبليس عن هذا الجواب إلى أن يقول: أنا خير منه، لأنَّه خلقَه مِن نار وخلق آدم مِن طين، فعدول إبليس عن هذا الاحتجاج مع وضوحِه دليل على أنَّ آدم خصَّه الله ╡ مِن خَلْقِهِ بيديه بما لم يَخُصَّ به إبليس.
          وكيف يسوغ للقدريَّة القول بأنَّ اليد هاهنا(4) القدرة مع نفيهم للقدرة؟ ! وظاهر الآية مع هذا يقتضي يدين، فينبغي على الظَّاهر إثبات قدرتين، وذلك خلاف للأمَّة، ولا يجوز أن يكون المراد باليدين نعمتين لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق مثلِه، لأنَّ النِّعم مخلوقة كلُّها وإذا استحال كونُهما جارحتين وكونهما نعمتين، وكونهما قدرتين ثبت أنَّهما يدان صفتان لا كالأيدي والجوارح المعروفة عندنا، اختصَّ آدم بأنْ خلَقَه بهما مِن بين سائر خلقِه تكريمًا له وتشريفًا.
          وفي هذا الحديث دليل على إثبات شفاعة النَّبيِّ صلعم لأهل الكبائر مِن أمَّتِه خلافًا لقول مَن أنكرها مِن المعتزلة والقدريَّة والخوارج، وهذا الحديث في غاية الصِّحَّة والقوَّة تلقَّاه المسلمون بالقبول إلى أن حدث أهل العناد والرَّدِّ لسنن الرَّسول صلعم، وفي كتاب الله تعالى ما يدلُّ على صحَّة الشَّفاعة؛ قولُه تعالى إخبارًا عن الكفَّار، إذ قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}[المدثر:42-47]، فأخبروا عن أنفسِهم بالعلل الَّتي مِن أجلها سلكوا في سقر، ثم قال تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافعينَ}[المدثر:48]زجرًا لأمثالهم مِن الكافرين وترغيبًا للمؤمنين في الإيمان لتحصل لهم به شفاعة الشَّافعين، وهذا دليل قاطع على ثبوت الشَّفاعة.
          فإن عارض حديثَ(5) الشَّفاعة معارض بقولِه ╕: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيْدَةٍ عُذِّبَ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا)) الحديث.
          قيل له: يمكن الجمع بين هذا الحديث وبين(6) حديث الشَّفاعة بوجوه صحاح: فيجوز أن يكون فيمَن قتل نفسَه وأنفذ الله عليه الوعيد بأن خلَّدَه في النَّار مدَّة أكثر مِن مدَّة بقاء(7) مَن خرج بالشَّفاعة، ثم خرَج مِن النَّار بعد ذلك بمدَّة بشفاعة النَّبيِّ صلعم لِمَا(8) في قلبه مِن الإيمان المنافي للكفر لأنَّ الخلود الأبدي الدائم إنَّما يكون في الكفَّار الجاحدين، وما جاء في كتاب الله تعالى مِن ذكر الخلود للمؤمنين كقولِه تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}[النساء:93]، فإنَّما يراد بالتَّخليد تطويل المدَّة عليه في العذاب ولا يقتضي التَّأبيد كما يقتضي خلود الكافرين، ويحتمل أن يكون تأويل الحديث: مَن قتل نفسَه على وجه الاستحلال والرِّدَّة فجزاؤُه ما ذكر في الحديث لأنَّ فاعل ذلك كافر لا محالة، ويشهد لهذا ما قالَه قَبِيصَة في البخاري في تأويل قولِه صلعم: ((فَسُحْقًا سُحْقًا)) قال: هو في المرتدِّين، وقد سلَّمت طائفة مِن المعتزلة شفاعة الرَّسول صلعم على وجه دون وجه لَمَّا لَمْ يُمْكِنْها ردُّ الأحاديث الواردة فيها لإنتشارِها وقبول الأمَّة لها، ولشهادة ظواهر كتاب الله سبحانه(9) لها، فقالوا: تجوز شفاعتُه ╕ للتَّائب مِن الكبائر، ولمَن أتى صغيرة مع اجتنابِه الكبائر أو في(10) مؤمن لا ذنب له لتَبَابٍ، وهذا كلُّه فاسد على أصولِهم لاعتقادِهم أنَّ الله تعالى يستحيل منه تعذيب التَّائب مِن كبيرتِه أو فاعل الصَّغائر إذا اجتنب الكبائر، أو تأخير ما استحق الَّذي لا ذنب له مِن الثَّواب لأنَّه لو عذَّب مَن ذكرنا وأخَّر ثواب الآخر ولم يوف التَّائب والمجتنب للكبائر مع فعلِه للصَّغائر(11) ثوابَه على أعمالِه لكان ذلك خارجًا عن الحكمة وظالمًا، وذلك مِن صفات المخلوقين.
          وإذا كان هذا أصلُهم فإثباتُهم الشَّفاعة على هذا الوجه لا معنى له فبطل قولُهم ولزمَهم تسليم(12) الشَّفاعة على الوجه الَّذي تقول به أهل السُّنَّة والحق، وهذا بيِّن والحمد لله.
          وأمَّا ذكر الأنبياء ‰ في حديث الشَّفاعة لخطاياهم، فإنَّ النَّاس اختلفوا هل يجوز وقوع الذُّنوب منهم؟ فأجمعت الأمَّة على أنَّهم معصومون في الرِّسالة، وأنَّه لا تقع منهم الكبائر، واختلفوا في جواز الصَّغائر عليهم فأطبقت المعتزلة والخوارج على أنَّه لا يجوز وقوعُها منهم، وزعموا أنَّ الرُّسل لا يجوز أن تقع منهم ما ينفِّر النَّاس عنهم وأنَّهم معصومون مِن ذلك. وهذا باطل لقيام الدَّليل مِن(13) التَّنزيل وحديث الرَّسول أنَّه ليس كلُّ ذنب كفرًا. وقولُهم: إنَّ الباري تعالى تجب عليه عصمة الأنبياء مِن الذُّنوب فلا ينفر النَّاس عنهم بمواقعتِهم(14) لها هو فاسد بخلاف القرآن له، وذلك أنَّ الله تعالى قد أنزل كتابَه وفيه متشابه مع سابق علمِه أنَّه سيكون ذلك سببًا لكفر قوم، فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِيْنَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}(15)[آل عِمْرَان:7]، وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّما أَنتَ مُفْتَرٍ}[النحل:101]فكان التبديل الَّذي هو النَّسخ سببًا لكفرِهم كما كان إنزالُه متشابهًا سببًا لكفرِهم، وقال أهل السُّنَّة: جائز وقوع الصَّغائر مِن الأنبياء، واحتجُّوا بقولِه تعالى مخاطبًا لرسولِه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:2]فأضاف إليه الذَّنب، وقد ذكر الله تعالى في كتابِه ذنوب الأنبياء فقال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه:121]، وقال نوح لربِّه: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}[هود:45]، فسألَه أن ينجيَه، وقد كان تقدَّم إليه ╡ فقال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِيْنَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}[هود:37]، وقال إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82]، وفي كتاب الله تعالى مِن ذكر خطايا الأنبياء ما لا خفاء به، وقد تقدَّم الاحتجاج في هذه المسألة في كتاب الدُّعاء في باب قول النَّبيِّ صلعم: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ(16))) ما لم أذكرْه هاهنا.
          فإن قيل(17): ما معنى قول آدم: (وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ) وقد تقدَّم آدم قبلَه؟ فالجواب أنَّ آدم لم يكن رسولًا لأنَّ الرَّسول يقتضي مرسلًا إليه في وقت الإرسال وهو صلعم أُهبِط إلى الأرض وليس فيها أحد.
          فإن قيل: لمَّا تناسل منه ولدُه وجب أن يكون رسولًا إليهم؟ قيل: إنَّما أُهبط ╕ إلى الأرض وقد علَّمه الله أحكام(18) دينِه وما يلزمُه مِن طاعة ربِّه ╡ فلمَّا حدَث ولدُه بعده حمَلَهم على دينِه وما هو عليه مِن شريعة ربِّه كما أنَّ الواحد منَّا إذا ولد له ولد يحملُه على سنَّتِه وطريقتِه، ولا يستحق بذلك أن يسمَّى رسولًا، وإنَّما سمَّى نوح رسولًا لأنَّه بعث إلى قوم كفَّار ليدعهم إلى الإيمان.
          وأمَّا حديث الإصبع فإنَّه إذا(19) لم تصحَّ أن تكون جارحة لِمَا قدَّمنا مِن إبطال التَّجسيم فتأويلُه ما قالَه(20) أبو الحسن الأشعري مِن أنَّ هذا وشبهه ممَّا أثبتَه الرَّسول ╕ لله تعالى ووصفَه به راجع إلى أنَّه صفة ذات لا يجوز تحديدُها ولا تكييفُها.
          وقال أبو بكر بن فُورَك أنَّه(21) يجوز أن يكون الإصبع خلقًا لله يخلقُه يحمِّلُه ما حملت الإصبع، ويحتمل أن يكون المراد بالإصبع القدرة والملك والسُّلطان على معنى قول القائل مافلان إلا بين إصبعي إذا أراد الإخبار عن جريان قدرتِه عليه، فذكر معظم المخلوقات وأخبر عن قدرة الله تعالى على جميعِها معظِّمًا لشأن الرَّبِّ ╡ في قدرتِه وسلطانِه، فضحك رسول الله صلعم كالمتعجِّب منه أنَّه يستعظم ذلك في قدرتِه، وإنَّه ليسير في جنب ما يقدر عليه، ولذلك قرأ عليه قولَه ╡: {وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الأنعام:91]، أي ليس قَدْرُهُ في القدرة على ما يخلق على الحدِّ الَّذي ينتهي إليه الوهم ويحيط به الحدُّ والحصر لأنَّه تعالى يقدر على إمساك جميع مخلوقاتِه على غير شيء كما هي اليوم، لقولِه تعالى: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}[الرعد:2].
          وقولُه: (لَا يَغِيْضُهَا) أي لا ينقصُها. وقال أبو زيد: غاض ثمن السِّلعة أي نقص، ومنه قولُه تعالى: {وَغِيضَ الْمَاء}[هود:44].
          وقولُه: (سَحَّاءَ) يقال: سَحَّ المطر والدَّمع وغيرُهما سُحوحًا وسَحًّا: انصبَّ وسال.


[1] في المطبوع: ((قال ◙)).
[2] في المطبوع:((هناك)).
[3] في المطبوع:((المجثمة)).
[4] في المطبوع: ((هنا)).
[5] قوله: ((حديث)) ليس في المطبوع.
[6] قوله: ((بين)) ليس في المطبوع.
[7] قوله: ((بقاء)) ليس في المطبوع.
[8] في المطبوع:((بما)).
[9] قوله: ((سبحانه)) ليس في المطبوع.
[10] قوله: ((في)) ليس في المطبوع.
[11] في المطبوع: ((الصغائر)).
[12] قوله: ((تسليم)) ليس في المطبوع.
[13] في المطبوع:((مع)).
[14] في المطبوع: ((بمواقعهم)).
[15] قوله: ((ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)) ليس في المطبوع.
[16] في المطبوع: ((وأخَّرت)).
[17] في المطبوع: ((فإن قال قائل)).
[18] في المطبوع: ((أمر)).
[19] في المطبوع: ((لما)).
[20] في المطبوع: ((قال)).
[21] قوله: ((أنه)) ليس في المطبوع.