شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعًا}

          ░49▒ بَابُ قَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} ضجورًا {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:19-21]
          فيه: عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ، قَالَ: (أَتَى النَّبيَّ صلعم مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا، وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقَالَ: إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ: وَأَدَعُ الرَّجُلَ، والَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا في قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لي بِكَلِمَةِ رسولِ اللهِ صلعم حُمْرَ النَّعَمِ). [خ¦7535]
          قال المُهَلَّب: معنى هذا الباب إثبات خلق الله ╡ للإنسان بأخلاقِه الَّتي خلقَه عليها مِن الهلع والمنع والإعطاء والصَّبر على الشِّدَّة، واحتسابه ذلك على الله ╡ وفسَّر {هَلُوعًا} بقول مَن قال: ضجورًا لأنَّ الإنسان إذا مسَّه الشَّرُّ ضجر به، ولم يصبر محتسبًا، ويلزم مَن آمن بالقدر خيرِه وشرَّه وعلم أنَّ الَّذي أصابَه لم يكن ليخطئَه وما أخطأه لم يكن ليصيبَه الصبرَ على كلِّ شدَّة تنزل به،
          ألا ترى أنَّ الله ╡ قد استثنى المصلِّين الَّذين هم على صلاتهم دائمون، لا يضجرون بتكرُّرِها عليهم، ولا يملُّونَها(1) لأنَّهم محتسبون لها، ومكتسبون بها التِّجارة الرَّابحة في الدُّنيا والآخرة، وكذلك لا يمنعون حقوق الله تعالى في أموالهم، فعرَّفك بما خلق الله عليه أهل الجنة مِن حسن الأخلاق، وما استثنى به العارفين المحتسبين بالصَّبر على الصَّلاة والصَّدقة.
          فقد أفهمك أنَّ مَن ادَّعى لنفسَه قدرةً وحولًا بالإمساك والشُّحَّ والضَّجر مِن الإملاق والفقر، وقلَّة الصَّبر لقدر الله تعالى الجاري عليه بما سبق في علمِه ليس بعالم(2) ولا عابد لله ╡ على حقيقة ما يلزمُه، فمَن ادَّعى أنَّ له قدرة على نفع نفسِه، أو دفع الضُّرِّ عنها فقد ادَّعى أنَّ فيه صفة الإلهيَّة مِن القدرة.
          وفي حديث عَمْرو بن تغلب دليل أنَّ أرزاق العباد ليست مِن الله ╡ على قدر الاستحقاق بالدَّرجة والرِّفعة عنده تعالى، ولا عند السُّلطان في الدُّنيا، وإنَّما هي على وجه المصلحة، والسياسة لنفوس العباد الأمَّارة بالسُّوء، ألا ترى أنَّه ╕ كان يعطي أقوامًا ليداوي ما بقلوبهم مِن الجزع(3)، وكذلك المنع، هو على وجه الثِّقة بتمييزه(4) بما قسم الله تعالى له لمنعِه ╕ أهل البصائر واليقين.
          قال غيرُه: وفيه مِن الفقه أنَّ البشر فاضلُهم ومفضولُهم، قد جُبلوا على حبِّ العطاء وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة في عاقبتِه، وهل لفاعل ذلك مخرج؟ وفيه أنَّ المنع قد لا يكون مذمومًا، ويكون أفضل للممنوع لقولِه ╕: (وأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنَى وَالخَيْرِ).
          وهذه المنزلة الَّتي شهد لهم بها النَّبيُّ صلعم أفضل مِن العطاء الَّذي هو عرض الدُّنيا، ألا ترى أنَّ عَمْرو بن تغلب اغتبط بذلك بعد جزعِه منه، وقال: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِذَلِكَ حُمْرَ النَّعَمِ) وفيه استئلاف مَن يُخشى منه، والاعتذار إلى مَن ظنَّ ظنًّا والأمر بخلاف ظنِّه، وهذا موضع كان يحتمل التَّأنيب للظَّانِّ واللَّوم له لكنَّه ╕ رؤوف رحيم كما وصفَه الله ╡.


[1] في المطبوع: ((ولا يملون)).
[2] في المطبوع: ((بقادر)).
[3] في المطبوع: ((جزع)).
[4] في المطبوع: ((بتميزه)).