شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}

          ░35▒ بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ}[الفتح:15]{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}[الطارق:13]الحَقّ {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}[الطارق:14]بِاللَّعِبِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (قَالَ جلَّ ثناؤه: يُؤْذِينِيي ابنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ). [خ¦7491]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَقُولُ اللهُ تعالى: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي) الحديث. [خ¦7492]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلعم: (بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي في ثَوْبِهِ، فَنَادَاه رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ) الحديث. [خ¦7493]
          وفيه: أبو هريرة: قال النَّبيُّ صلعم: (يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ) الحديث.
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (قَالَ الله: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ). [خ¦7495] [خ¦7496]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، فقَالَ(1): (هَذِهِ خَدِيجَةُ، تأتيك بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلامَ، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ في الجنة مِنْ قَصَبٍ) الحديث. [خ¦7497]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبيُّ صلعم: (قَالَ اللهُ تعالى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ) الحديث. [خ¦7498]
          وفيه: ابنُ عَبَّاسٍ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ) الحديث. [خ¦7499]
          وفيه: عَائِشَةُ، في حديث الإِفْكِ: (وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ فيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى) الحديث. [خ¦7500]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَقُولُ اللهُ جلَّ ثناؤُه: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا) الحديث. [خ¦7501]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَمَّا فَرَغَ الله مِنَ الخَلْقِ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ) الحديث. [خ¦7502]
          وفيه زيد بن خالد: (مُطِرَ النَّبيُّ صلعم فَقَالَ: قَالَ اللهُ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي).
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (قَالَ اللهُ: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ). [خ¦7504]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (قَالَ اللهُ تعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي). [خ¦7505]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (قَالَ رَجُلٌ، لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ(2): اِحْرِقُونِي، فَقَالَ الله: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ، فَغَفَرَ لَهُ). [خ¦7506]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ:أَذْنَبَ ذَنْبًا(3)، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ فاغفِرهُ، فَقَالَ رَبُّهُ جل ثناءه: أَعَلِمَ(4) عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، أو يَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي) الحديث. [خ¦7507]
          قال المُهَلَّب: غرضُه في هذا الباب كغرضِه في الأبواب الَّتي قبلَه، ومعنى قولِه تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ}[الفتح:15]، هو أنَّ المنافقين تخلَّفوا عن الخروج مع النَّبيِّ صلعم إلى غزوة تبوك واعتذروا بما علم(5) الله إفكَهم فيه، فأمر الله تعالى رسوله صلعم أن يقرأ عليهم قولَه ╡: {فَقُل لَّنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}[التوبة:83]فأعلمَهم بذلك وقطع أطماعَهم مِن خروجِهم(6) معه، فلمَّا رأوا الفتوحات قد تهيَّأت للنَّبيِّ صلعم أرادوا الخروج معه رغبة منهم في المغانم، فأنزل الله سبحانَه على رسولِه صلعم(7): {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ} الآية[الفتح:15]فهذا معنى قولِه: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ}(8) أي أمرُه له(9) صلعم بأن لا يخرجوا معه بأن يخرجوا معه.
          فقطع الله أطماعَهم مِن ذلك مدَّة أيَّامه صلعم؛ لقولِه: {لَّنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}[التوبة:83]، ثم قال تعالى آمرًا لرسولِه صلعم:{قُلْ لِلْمُخَلَّفِيْنَ مِنَ الأَعْرَابِ}[الفتح:16]يعني المريدين تبديل كلام(10) / الله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ}[الفتح:16]، يعني تولَّيتم عن إجابتِه صلعم حين دعاهم إلى الخروج معه في سورة براءة {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح:16]والدَّاعي لهم غيرُه صلعم ممَّن يقوم بأمرِه مِن خلفائِه، فقيل: الدَّاعي لهم بعدَه(11) أبو بكر ☺ دعاهم لقتال أهل الرِّدَّة، وقيل: الدَّاعي عُمرُ، دعاهم لقتال المشركين.
          وسائر الأحاديث فيها إثبات كلامِه ╡، وقد مرَّ القول على أنَّه صفة قائمة به لا تصحُّ(12) مفارقتُها له، وأنَّه لم يزل متكلِّمًا، ولا يزال كذلك.
          وأمَّا قولُه: (يُؤْذِيْنِي ابنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ) قد تقدَّم في باب(13) قولِه: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:58]أنَّ الأذى لا يلحق بالله ╡ وإنَّما يلحق مَن تتعاقب عليه الحوادث ويلحقُه العجز والتَّقصير عن الانتصار، والله يتعالى عن ذلك، فوجب أن يرجع الأذى المضاف إليه ╡ إلى أنبيائِه ورسلِه، والمعنى يؤذي ابنُ آدم أنبيائي ورسلي بسبِّ الدَّهر لأنَّ ذلك ذريعة إلى سبِّ خالق الدَّهر ومُصرِّف أقضيتِه وحوادثِه.
          وقولُه: (وَأَنَا الدَّهْرُ) أي أنا(14) أفعل ما يجري به الدَّهر مِن السَّرَّاء والضَّرَّاء، ألا ترى قولَه تعالى: (بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ) فالأيَّام واللَّيالي ظروف للحوادث، فإذا سببتم الدَّهر وهو لا يفعل شيئًا فقد وقع السَّبُّ على الله تعالى، وقد بيَّنتُ هذا الحديث بأكثر مِن هذا في كتاب الأدب في باب: لا تسبُّوا الدَّهر.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا قولُه تعالى: (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) فهو كقولِه تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[النحل:8]ممَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا توهَّمَه قلب بشر، هو على الحقيقة ما لا يعلمُه بشر ممَّن له الأذن والقلب والبصر، فتخصيصُه (قَلْبِ بَشَرٍ(15)) بأن لا يعلمُه يدلُّ والله أعلم أنَّه يجوز أن يخطر على قلوب الملائكة، ألا ترى أنَّه(16) أفردنا بالمخاطبة في قولِه تعالى(17): {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فدلَّ على جواز أن يعلمَه غيرُنا.
          وقولُه في حديث أبي هريرة: (لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنَ الخَلْقِ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَ: مَهْ(18) فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ. فَقَالَ تَعَالَى: أَلَا تَرْضَيْنَ) الحديث.
          فلا تعلُّق فيه لمَن يقول بحَدَث كلامِه تعالى مِن أجل أنَّ الفاء في قولِه (فَقَالَ) توجب في الظَّاهر كون قولِه تعالى عقيب قول الرَّحم، وذلك مقتضٍ للحدث لقيام الدَّليل على أنَّ الله تعالى لم يزل قائلًا متكلِّمًا قبل أن يخلق خلقَه بما لا أوَّل له مِن الأزمان، وإذا كان ذلك كذلك وجب حمل قولِه تعالى على معنى إفهامِه تعالى إيَّاها معنى كلامِه الَّذي لم يزل به متكلمًا وقائلًا، وعلى هذا المعنى يحمل نحو هذا اللَّفظ إذا أتى في الحديث.
          وقد يحتمل أن يكون تعالى يأمر ملكًا مِن ملائكتِه بأن يقول للرَّحم هذا القول عنه تعالى، وأضافَه إليه إذْ كان قول الملك عن أمرِه تعالى له، ويدلُّ على صحَّة هذا التَّأويل رواية مَن روى في حديث الشَّفاعة: ((فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ)) بترك إسناد القول إليه تعالى(19) جاءت هذه الرِّواية في الباب بعد هذا.
          وقولُه للرَّحم: (مَهْ) فمعنى مه في لسان العرب الزَّجر والرَّدع، فمحال توجُّه ذلك إلى الله ╡، فوجب توجهُّه إلى مَن عاذت الرَّحم بالله ╡ مِن قطيعتِه(20) إيَّاها.
          وقولُه: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) لا يتوجَّه إلَّا إلى المؤمنين خاصَّة أي أنا عند ظنِّ عبدي المؤمن بي، وفي القرآن آيات تشهد أنَّ عبادَه المؤمنين وإن أسرفوا على أنفسِهم أنَّه عند ظنِّهم به مِن المغفرة والرَّحمة، وإن أبطأت حينًا وتراخت وقتًا لإنفاذ ما حتم به على مَن سبق عليه إنفاذ الوعيد تحلَّة القسم لأنَّه قد كان له أن يعذِّب بذنبٍ واحد أبدًا كإبليس، فهو عند ظنِّ عبدِه، وإن عاقب(21) برهة فإن كان ظنُّه به ألَّا يعذبَه برهة ولا تحلَّة فإنَّه كذلك يجدُه كما ظنَّ إن شاء الله فهو أهل التَّقوى وأهل المغفرة.
          وأمَّا حديث الَّذي لم يعمل خيرًا قط ففيه دليل على أنَّ الإنسان لا يدخل الجنة بعملِه ما لم يتغمدْه الله برحمتِه كما قال صلعم. وفيه أنَّ الإنسان يدخل الجنَّة بحسن نيَّتِه في وصيتِه لقولِه: (خَشِيْتُكَ يَا رَبْ).
          وفيه أنَّ مَن جهل بعض الصِّفات ليس(22) بكافر خلافًا لبعض المتكلِّمين لأنَّ الجهل بها هو العلم، إذ لا يُبلَغُ(23) كُنْهُ صفاتِه تعالى، فالجاهل بها هو المؤمن حقيقة، / ولهذا قال بعض السلف: عليكم بدين العذارى، أفترى العذارى يعلمن حقيقة صفات الله تعالى.
          وللأشعري(24) في تأويل هذا الحديث قولان: كان قولُه الأوَّل: أنَّ(25) مَن جهل القدرة أو صفة مِن صفات الله تعالى فليس بمؤمن، وقولُه في هذا الحديث: (لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ) لا يرجع إلى القدرة وإنَّما يرجع إلى معنى التَّقدير الَّذي هو بمعنى التَّضييق كما قال تعالى في قصة يونس: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}[الأنبياء:87]، أي لن نضيَّق عليه، ثم رجع عن هذا القول وقال: لا يخرج المؤمن مِن الإيمان بجهلِه صفةً(26) مِن صفات الله تعالى قدرة كانت أو سائر صفات ذاتِه تعالى إذ(27) لم يعتقد في ذلك اعتقادًا يقطع على(28) أنَّه الصَّواب والدِّين المشروع، ألا ترى أنَّ الرَّجل قال: لئن قدر الله عليه ليعذِّبنَّه فأخرج ذلك مخرج الظنِّ دون القطع على أنَّه تعالى غير قادر على جمعِه وإحيائِه إخراج خائف مِن عذاب ربِّه ذاهل العقل.
          يدل على ذلك قولُه مجيبًا لربِّه لمَّا قال له: (لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ) فأخبر بالعلَّة الَّتي لها فعل ما فعل، ويدلُّ على صحَّة هذا قَولُ(29) مَن روى قولَه: ((لَعَلِّي أَضِلُّ اللهَ)) و: لعل، في كلام العرب موضوعة لتوقُّع مخوف لا يقطع على كونِه ولا على انتفائِه، ومعنى قوله ((لَعَلِّي أَضِلُّ اللهَ)) لعلِّي أخفى عليه وأغيب، وكان الواجب في اللُّغة: لعلي أضل على الله، وحذف حرف الجر، وذلك مشهور في اللُّغة كما قال الشاعر:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْبا
          والمعنى أستغفر الله(30) مِن ذنب، ومَن كان خائفًا عند حضور أجلِه فجدير أن تختلف أحوالُه لفرط خوفِه، وينطق بما لا يعتقدُه(31)، ومَن كان هكذا فغير جائز إخراجُه مِن الإيمان الثَّابت له إذ لم يعتقد ما قاله دينًا وشرعًا، وإنَّما يكفر مَن اعتقدَه تعالى على خلاف ما هو به وقطع على أنَّ ذلك هو الحق، ولو كفر مَن جهل بعض صفات الله تعالى لكفر عامَّة النَّاس؛ إذ لا نكاد(32) نجد مَن يعلم منهم(33) أحكام صفات ذاتِه، ولو اعْتَرَضْتَ جميع العامَّة وكثيرًا مِن الخاصَّة وسألتهم: هل لله تعالى قدرة أو علم أو سمع أو بصر أو إرادة، وهل قدرتُه متعلِّقة بجميع ما يصحُّ كونُه معلومًا لما عرفوا حقيقة ذلك؟ فلو حكم بالكفر على مَن جهل صفة مِن صفات الله تعالى لوجب الحكم به على جميع العامَّة، وأكثر الخاصَّة وهذا محال.
          والدَّليل على صحَّة قولنا حديث السَّوداء، وأنَّ النَّبيَّ صلعم قال لها: ((أَيْنَ اللهُ؟ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ: مَنْ أَنَا؟ فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ: أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) فحكم لها بالإيمان ولم يسألها عن صفات الله تعالى وأسمائِه، ولو كان عِلْمُ(34) ذلك شرطًا في الإيمان لسألَها عنه كما سألها عن أنَّه رسول الله صلعم، وكذلك سأل(35) أصحاب رسول الله صلعم عُمَرَ بن الخطاب وغيرِه النَّبيَّ صلعم عن القدر، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل أَلِأَمرٍ(36) مستأنف أم لأمر قد سبق؟ فقال صلعم: ((بَلْ لِأَمْرٍ قَدْ سَبَقَ، قَالَ: فَفِيْمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟! فَقَالَ صلعم: اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) وأعلمَهم أنَّ ما أخطأهم لم يكن ليصيبَهم، ومعلوم أنَّهم كانوا قبل سؤاله مؤمنين، ولا يسع مسلمًا أن يقول غير ذلك فيهم، ولو كان لا يسعُهم جهل القدرة وقدم العلم لعلَّمَهم ذلك مع شهادة التَّوحيد، ولجعلَه عمودًا سادسًا للإسلام، وهذا بيِّن.
          وأمَّا حديث أبي هريرة في الرَّجل الَّذي واقع الذَّنب مرَّة بعد مرَّة ثم استغفر ربَّه فغفر له، ففيه دليل على أنَّ المُصِرَّ في مشيئة الله تعالى إن شاء عذَّبَه وإن شاء غفر له مغلِّبًا لخشيتِه الَّتي جاء بها وهي اعتقادُه، وأنَّ له ربًّا خالقا يعذبُّه ويغفر له واستغفارُه إيَّاه على ذلك، يدلُّ على ذلك قولُه: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}[الأنعام:160]، ولا حسنة أعظم مِن توحيد الله ╡ والإقرار بوجودِه والتَّضرُّع إليه(37) في المغفرة.
          فإن قيل: إنَّ(38) استغفارَه ربَّه توبة منه، ولم يكن مُصِرًّا ! قيل له: ليس الاستغفار أكثر مِن طلب غفرانِه تعالى، وقد يطلب الغفران المُصِرُّ والتَّائب، ولا دليل في الحديث على أنَّه قد كان تاب ممَّا سأل الغفران منه لأنَّ حدَّ(39) التَّوبة الرُّجوع عن الذَّنب والعزم على ألَّا يعود إلى مثلِه والاستغفار لا يفهم منه ذلك، وبالله التوفيق.


[1] في المطبوع: ((قالَ)).
[2] في المطبوع: ((لأهله لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ)).
[3] قوله: ((وربما قال: أذنب ذنباً)) ليس في المطبوع.
[4] في المطبوع: ((عَلِمَ)).
[5] في المطبوع: ((واعتذروا فأعلم)).
[6] في المطبوع: ((الخروج)).
[7] في المطبوع: ((فأنزل الله على: سيقول المخلفون)) كذا.
[8] قوله: ((الآية، فهذا معنى قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ})) ليس في المطبوع.
[9] في المطبوع: ((لرسوله)).
[10] من هذا الموضع عادت مقابلة (ص) على أوراق من المخطوط وردت في نهاية المخطوط.
[11] في (ز): ((بعدهم)) والمثبت من (ص).
[12] في المطبوع: ((يصح)).
[13] قوله: ((باب)) ليس في (ص).
[14] قوله: ((أنا))ليس في المطبوع.
[15] قوله: ((فهو كقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.... فتخصيصه قلب بشر)) ليس في (ص).
[16] زاد في المطبوع: ((إذا)).
[17] في المطبوع: ((بقوله)).
[18] قوله: ((فقال: مه)) ليس في (ص).
[19] في (ص): ((إلى الله تعالى)).
[20] في المطبوع: ((قطعه)).
[21] في المطبوع: ((عاقبه)).
[22] في المطبوع: ((فليس)).
[23] في المطبوع: ((يبلغ)).
[24] قوله: ((أفترى العذارى....وللأشعري)) ليس في (ص) وبيض له.
[25] قوله: ((أنَّ)) ليس في (ص) وبعدها بياض.
[26] في المطبوع: ((بصفة)).
[27] في المطبوع: ((إذا)).
[28] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[29] في المطبوع: ((القول)).
[30] قوله: ((أستغفر الله)) ليس في المطبوع.
[31] في المطبوع: ((يعتقد)).
[32] في المطبوع: ((يكاد)).
[33] في (ص): ((منهم من يعلم)).
[34] قوله: ((علم)) ليس في (ص).
[35] كذا في (ز) وفي المطبوع: ((سؤال)) وهو الأولى للسياق.
[36] في (ص): ((لأمر)).
[37] قوله: ((إليه)) ليس في (ص).
[38] في المطبوع: ((فإن)).
[39] قوله: ((حدَّ)) ليس في المطبوع.