شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}

          ░32▒ بَابُ قَولِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية، وَقَوْلِهِ(1):{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[سبأ:23]وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ. وَقَالَ تعالى: {مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ}[البقرة:255]
          وَقَالَ مَسْرُوقٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}[سبأ:23].
          وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: (يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ).
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبيَّ صلعم: (إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ في السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا، لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ). [خ¦7481]
          قال علي بنُ المَدِيْنِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[سبأ:23].
          وَقَالَ عِكْرِمَة مرَّةً عن أبي هريرة يرفعُه: أنَّه قرأ: فُرِّغَ(2).
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ). [خ¦7482]
          وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَقُولُ اللهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ). [خ¦7483]
          وفيه: عَائِشَةَ: (مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ على خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ في الْجَنَّةِ). [خ¦7484]
          قال المُهَلَّب: استدلَّ البخاري بقولِه تعالى: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ}[سبأ:23]. ولم يقل: ماذا خلق ربكم، على أنَّ قولَه تعالى قديم قائم بذاتِه، صفة مِن صفاتِه، لم يزل موجودًا به(3) ولا يزال، وأنَّه لا يشبه كلام المخلوقين، وليس بذي حروف، خلافًا للمعتزلة الَّتي نفت كلام الله تعالى، وقالت: إنَّ كلامَه كناية عن الفعل والتَّكوين، قالوا: وهذا سائغ في كلام العرب، ألا ترى أنَّ الرَّجل يعبِّر عن حركتِه بيده فيقول: قلت بيدي هكذا، وهم يريدون حرَّكت يدي، ويحتجَّون بأنَّ الكلام لا يعقل منَّا إلا بأعضاء ولسان، والباري تعالى لا يجوز أن يكون له أعضاء وآلات الكلام إذ ليس بجسم.
          فردَّ البخاري عليهم بقولِه صلعم: (إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، فَزِعَتِ المَلَائِكَةُ وَضَرَبَتْ بِأَجْنِحَتِهَا فَكَانَ لَهَا صَوتٌ، كَأَنَّهُ سِلسِلَةٌ عَلَى صَفْوانٍ خُضْعَانًا) لقولِه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ}[سبأ:23]، أي أذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا للَّذي فوقَهم: ماذا قال ربُّكم؟ فدلَّ ذلك على أنَّهم سمعوا قولًا لم يفهموا معناه مِن أجل فزعِهم، فقالوا: ماذا قال ربُّكم؟ ولم يقولوا: ماذا خلق ربُّكم، وأكَّد ذلك بما حكاه عن الملائكة أيضًا؟ {قَالُوا الْحَقَّ}[سبأ:23]، والحق إحدى صفتي القول الَّذي لا يجوز على الله غيرُه لأنَّه لا يجوز على كلامِه الباطل.
          ولو كان القول منه خلقًا وفعلًا لقالوا حين سألوا ماذا قال، أخلق خلقًا كذا، إنسانًا أو جبلًا أو شيئًا مِن المخلوقات، فلمَّا وصفوا قولَه بما يوصف به الكلام مِن الحق لم يجزْ أن يكون القول بمعنى الخلق والتَّكوين، وكذلك قولُه لآدم: (يَا آدَمُ) وهو كلام مسموع، ولو كان بمعنى الخلق والتَّكوين ما أجاب بـ(لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ) الَّتي هي(4) جواب المسموعات، وكذلك قول عائشة: (وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا) هو كلام وقول مسموع مِن الله تعالى ولو كان خلقًا لما فهم منه عن ربِّه له بالبشرى.


[1] قوله: ((وقوله)) ليس في المطبوع.
[2] كذا في (ز) بالراء المهملة والغين المعجمة، وفي المطبوع: ((فُزِّعَ)). قال الحافظ في ((فتح الباري)) (13/ 459): ((فرغ هو بالرَّاء المهملة والغين المعجمة وزن القراءة المشهورة، وقد ذكرت في تفسير سورة سبإ مَن قرأها كذلك، ووقع للأكثر هنا كالقراءة المشهورة، والسياق يؤيد الأول)).
[3] قوله: ((به)) ليس في المطبوع.
[4] في (ز) وهمًا: ((هو)) والصواب المثبت. نسخ أخرى