شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {ونضع الموازين القسط}

          ░58▒ بَابُ قَوْله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}[الأنبياء:47]وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَأقَواْلَهُمْ تُوزَنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَيُقَالُ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ، وَهُوَ الْعَادِلُ، فَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِرُ.
          قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ). [خ¦7563]
          قال الزَّجَّاج: القسط: العدل، المعنى: ونضع الموازين ذوات القسط، وقسط مثل عدل مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط وموازين قسط.
          وأجمع أهل السنَّة على الإيمان بالميزان، وأنَّ أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأنَّ الميزان لها(1) لسان وكفَّتان وتمثَّل الأعمال بما يوزن، وخالف ذلك المعتزلة وأنكروا الميزان وقالوا: الميزان عبارة عن العدل، وهذا(2) خلاف لنصِّ كتاب الله تعالى، وقول رسول الله صلعم.
          قال المُهَلَّب: فأخبر الله تعالى أنَّه يضع الموازين لتوزن أعمال العباد بها، فيريهم أعمالَهم ممثَّلة في الميزان لأعين العاملين ليكونوا على أنفسِهم شاهدين قَطْعًا لحججِهم وإبلاغًا في إنصافِهم مِن(3) أعمالِهم الحسنة، وتبكيتًا لمَن قال: إنَّ الله لا يعلم كثيرًا ممَّا يعملون، وتقصِّيًا عليهم لأعمالِهم المخالفة لما شرع لهم، وبرهانًا على عدلِه على جميعِهم، وأنَّه لا يظلم مثقال حبَّة مِن خردل حتى يعترف كلٌّ بما قد نسيَه مِن عملِه، ويميز ما عساه قد احتقرَه مِن فعلِه، ويقال له عند اعترافِه: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا.
          وقولُه: (ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ) يدل أنَّّ تسبيح الله تعالى وتقديسَه مِن أفضل النَّوافل وأعظم الذَّخائر عنده ╡، ألا ترى / قولَه صلعم: (حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ).
          وقول البخاري: (وَيُقَالُ: القِسْطُ مَصْدَرُ المُقْسِطِ) فإنَّما أراد المصدر المحذوف الزَّوائد، كالقدر مصدر قدرت إذا حذفت زوائده، قال الشاعر:
وَإِنْ يَهْلِكْ فَذَلِكَ كَانَ قَدْرِي
          بمعنى: تقديري، محذوف زوائده وردَّه إلى الأصل، ومثلُه كثير، وإنَّما تحذف العرب زوائد المصادر لتردَّ الكلام إلى أصلِه وتدلُّ عليه، ومصدر المُقْسِط الجاري على فعله الإقساط.
          تمَّ الكتاب بحمد الله وعونه وصلواتُه على خير خلقِه محمد صلعم، وكان الفراغ مِن نسخِه في اليوم المبارك في اليوم الثامن مِن شهر شعبان المكرَّم سنة ثمانين وسبع مئة على يد كاتبه العبد الفقير إلى رحمة الله علي بن عمر بن عبد الله الإمام غفر الله له ولوالديه ولناسخه ولمستنسخه وللناظر فيه ولمن دعا له بخاتمة الخير عند منتهى الجل له ولجميع المسلمين والمسلمات وصلى الله على سيدنا محمد سيِّد السَّادات وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
أَثَابَ اللهُ كَاتِبَهُ مُحِبًّا                     لأَصْحَابِ النَّبيِّ مع النَّبيِّ
وأَسْكَنَهُ بِذَلكَ دَارَ عَدْنٍ                     جِوَارَ اللهِ ذو العَرْشِ العَلِيِّ(4). /


[1] في المطبوع: ((له)).
[2] في المطبوع: ((وهو)).
[3] في (ص): ((عن)).
[4] في (ص): ((تم الكتاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وافق الفراغ منه على يد أضعف عباد الله وأرجاهم لثوابه العبد الفقير إلى رحمة الله: أبو بكر بن أبي الفضل بن عامر الحلبي عفا الله عنه ورحمه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين، وكان الفراغ من نسخه لعشر خلون من شهر شعبان المبارك من شهور سنَّة ثمان وسبعين وستمائة حامداً لله ومصلياً على نبيه وخير خلقه محمد وآله وصحبه)).