شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تبارك وتعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}

          ░2▒ بابُ قَولِه تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الإسراء:110]
          فيه: جَرِيرٌ، قَالَ النَّبيُّ صلعم(1): (لَا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ). [خ¦7376]
          وفيه: أُسَامَةُ: (جَاءَ النَّبيَّ صلعم رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إلى ابْنِهَا في الْمَوْتِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شيء عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ، فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبيُّ صلعم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا في شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإنَّما يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ). [خ¦7377]
          غرضُه في هذا الباب إثبات الرَّحمة وهي صفة مِن صفات ذاتِه لا مِن صفات أفعالِه، والرَّحمن وصف(2) نفسَه تعالى وهو متضمن لمعنى الرَّحمة كتضمُّن وصفِه لنفسِه بأنَّه عالم وقادر وحي وسميع وبصير ومتكلِّم ومريد للعلم والقدرة والحياة والسَّمع والبصر والكلام والإرادة، الَّتي جميعُها صفات ذاتِه لا صفات أفعالِه، لقيام الدَّليل على أنَّه تعالى لم يزل ولا يزال حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا متكلِّمًا مريدًا، ومِن صفات ذاتِه أيضًا(3) الغضب والسَّخط، والمراد برحمتِه تعالى إرادتُه لنفع مَن سبق في علمِه أنَّه ينفعُه ويثيبُه على أعمالِه، فسمَّاها رحمة، والمراد بغضبِه وسخطِه إرادتُه لإضرار مَن سبق في علمِه إضرارُه وعقابُه على ذنوبِه فسمَّاها غضبًا وسخطًا، ووصف نفسَه بأنَّه راحم ورحيم ورحمن وغاضب وساخط بمعنى أنَّه مريد لما تقدَّم ذكرُه. وإنَّما لم يعرف بعض العرب الرحمن مِن أسماء الله تعالى أنَّ أسماءه كلَّها واجب استعمالُها ودعاؤُه بها سواء، لكون كلِّ اسم منها راجعًا إلى ذات واحدة، وهو الباري ╡ وإن دلَّ كلُّ واحد منها على صفة مِن صفاتِه تعالى يختصُّ الاسم بالدِّلالة عليها، وأمَّا الرَّحمة الَّتي جعلها الله تعالى في قلوب عبادِه يتراحمون بها فهي مِن صفات أفعالِه، ألا تراه صلعم قد وصفَها بأنَّ الله تعالى خلقَها في قلوب عبادِه، وجَعْلُه لها في القلوب خلق منه تعالى لها فيها، وهذه الرَّحمة رقَّة على المرحوم، والله يتعالى عن أن(4) يوصف بذلك.


[1] في المطبوع: ((قال ◙)).
[2] زاد في المطبوع: ((به)).
[3] قوله: ((أيضاً)) ليس في المطبوع.
[4] في المطبوع: ((والله تعالى أن)).