مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم

          ░55▒ باب ما يذكر في سم النبي صلعم
          رواه عروة عن عائشة عن النبي صلعم.
          ثم ساق حديث أبي هريرة لما فتحت خيبر.. الحديث، سلف في المغازي.
          قال ابن بطال: ولا أعلم خلافاً فيمن سم طعاماً أو شراباً لرجل فلم يمت به أنه لا قصاص فيه، ولا حد، وفيه العقوبة الشديدة، قدر ما يراه الإمام في ذلك.
          فإن قلت: كيف وجب فيه العقوبة والشارع لم يعاقب من وضع له فيه السم فيها؟
          قلت: كان ◙ لا ينتقم لنفسه ما لم تنتهك حرمات الله، وكان يصبر على أذى المنافقين واليهود، وقد سحره لبيد بن الأعصم، وناله من ضرر السحر ما لم ينله من ضرر السم في الشاة، ولم يعاقب الذي سحره؛ لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه أنه لا يناله مكروه، وأن لا يموت حتى يبلغ دينه، ويصدع بتأدية شريعته، وكان معصوماً من ضرر الناس، قال تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وغيره من الناس بخلاف ذلك.
          فهذا الفرق بينه وبين غيره، واختلف فيمن سم طعاماً أو شراباً لرجل فمات / منه، فذكر ابن المنذر عن الكوفيين: إذا سقاه سمًّا أو جربه به فقتله فلا قصاص عليه وعلى عاقلته الدية، وقال مالك: إذا استكرهه فسقاه سما فقتله فعليه القود(1).
          قال الكوفيون: ولو أعطاه إياه فشربه هو لم يكن عليه فيه شيء، ولا عاقلته من قبل أنه شربه هو، وقال الشافعي: إذا جعل السم في طعام رجل أو شرابه فأطعمه أو سقاه غير مكره له، ففيه قولان:
          أحدهما: أن عليه القود، وهو أشبههما.
          وثانيهما: أن لا قود عليه، وهو آثم، لأن الآخر شربه، وإن خلطه فوضعه فأكله الرجل فلا عقل ولا قود ولا كفارة، وقيل: يضمن.
          وفي حديث أبي هريرة الدليل الواضح على صحة نبوة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام من وجوه.
          منها: إخباره عن الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله بذلك، وذلك معرفته بأبيهم، وبالسم الذي وضعوه له في الشاة، وفيها تصديق اليهود له حين أخبرهم بأبيهم.
          ومنها: قول اليهود له: إن كنت نبيا لم يضرك، فرأوا أنه لم يقتله السم وتمادوا في غيهم ولم يؤمنوا لما رأوا من برهانه في السم وفي إخباره عن الغيب.
          وهذا الحديث يشهد بمباهتة اليهود وعنادهم للحق.
          قوله: (هل أنتم صادقوني؟) كذا في الأصول، وفي بعضها: ((صادقي))، وذكره ابن التين باللفظ الأول وقال: صوابه في العربية الثاني أصله صادقونني؛ لأن النون تحذف للإضافة فيجتمع حرفا علة سبق الأول منهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، مثل قوله تعالى: {مَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] وقوله ◙ لورقة: ((أو مخرجي هم)).
          وقولهم: (صدقت وبررت) هو بكسر الراء الأولى، قلت: وحكي فتحها.
          وقولهم: (نكون فيها يسيراً ثم يخلفوننا فيها) أي: يدخلون مكاننا، ومنه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59].
          ذكر هنا أنه ◙ علم بالسم ولم يذكر أنه علم به قبل الأكل أو بعده، وفي رواية أخرى: أهدت امرأة شاة مسمومة، فأكل منها هو وبعض أصحابه فمات بعضهم من ذلك السم وأمسك الله نفس نبيه إلى أن قال: ((ما زالت أكلة خيبر تعاهدني فهذا أوان انقطاع أبهري)) ويحتمل أن يكون الذي سألهم أهل المرأة أو غيرهم ويحتمل أن يكون في بعض الروايتين وهم، انتهى كلام ابن الملقن ⌂.
          أقول:
          قوله: (أنه ◙ علم بالسم) ولم يذكر أنه علم به فيه إشكال وذلك أنه إذا علم بالسم كيف جاز له أن يقدم على أكل المسموم ويلقي نفسه إلى التهلكة وقد منع الله تعالى عنه؟ قلت: أراد الله أن يجمع له بين أبواب النبوة والشهادة، أو أنه اعتقد أن السم في بعض أعضاء الشاة لا في كلها، أو ظن أنه سم لا يقتل.
          واستشكلت شيئاً آخر في هذا الحديث وهو قولها: إن كنت نبيًّا لم يضرك وقد ضره بدليل قوله ((ما زالت أكلة خيبر تعاهدني)) الحديث قلت: معنا قولها لم يضرك أي في الحال(2).
          فإن قلت: قال تعالى {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وسلف أن معناه من القتل لا من الأذى والجرح والشج والسحر والخنق والرمي بالحجارة وغير ذلك من الكلام الخشن مثل قول ذي الخويصرة اعدل ونحوه وهاهنا قد حصل أمر أكل السم القتل ولولاه ما / حصل له ثواب الشهادة قلت: لم أر أحداً ذكر هذا السؤال وإنما خطر لي هذا الاستشكال حتى بلوغي إلى شرح هذا الحديث.
          ويحتمل أن يجاب أنه ليس قتلاً صريحاً وإنما كان بعد مدة طويلة في لباس المرض الذي حصل له وحصل في أثناء مرض موته انقطاع أبهره مضافاً إلى مرض موته والله أعلم بحقيقة ذلك هذا بما قدرت أن أوجهه فمن ظهر له وجه أحسن من هذا فليلحقه هنا والله يوفق.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن يقتل بالسم شخصاً فشربه آخر فهل يلزمه شيء أم لا؟ الظاهر أن لا يلزمه شيء لأنه لم يقصده بعينه وإنما قصده غيره، قلت: قصدت أخت مرحب اليهودية بالسم في الشاة سيد الأولين والآخرين، فأكله البراء بن معرور ومات منه وقيل أن النبي صلعم قتلها به فالحديث يشعر بأنه يلزمه القصاص سواء فقد شخصاً بعينه أو لا)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: ويحتمل أن يقال أن الله عصم رسوله إلى أن بلغ الرسالة وكمل أمر الدين فانقطع أبهره ليحوز أجر الشهادة)).