مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو

          ░17▒ باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو
          فيه حديث جابر السالف قريباً، وحديث حصين ثنا عامر عن عمران بن حصين قال لا رقية إلا من عين الحديث وسلف.
          وحديث عامر الشعبي منقطع، قال (خ) في بعض نسخه: استفدنا من هذا أن حديث عمران مرسل، وحديث ابن عباس مسند.
          قلت: وهو مع إرساله موقوف، وإن كان (د) لما رواه عن مسدد بسنده، عن عمران رفعه به.
          قوله: (فذكرته لسعيد بن جبير) هو حصين بن عبد الرحمن، جاء مبيناً في بعض طرقه عند (خ).
          والعين: نظر باستحسان ويشوبه شيء من الحسد، ويكون الناظر خبيث الطبع كذوات السموم. نبه عليه ابن الجوزي، ولولا هذا لكان كل عاشق يصيب معشوقه بالعين، يقال: عنت الرجل: إذا أصبته بعينك، فهو مُعين ومعيون، والفاعل: عائن.
          ومعنى قوله: (العين حق) أي: تصيب بلا شك عاجلاً كأنها تسابق القدر.
          وقد أشكلت إصابة العين على قوم، فاعترضوا على هذا الحديث، وقالوا: كيف تعمل العين من بعد حتى تمرض؟
          والجواب: أن طبائع الناس تختلف كما تختلف طبائع الهوام، وأن ذلك بسُم يصل من أعينها في الهواء حتى يصيبه، وقال رجل عيون: إذا رأيت شيئاً يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني.
          وقد عرف أن في الناس من تلسعه العقرب فيموت العقرب، فلا ينكر أن يكون في الناس ذو طبيعة ذات ضر وسم، فإذا نظر إلى ما يعجبه فصل من عينه شيء في الهواء من السم فيصل إلى المرئي فيقتله.
          ومما يشبه هذا أن المرأة الطامث تدنو من إناء اللبن فيسوطه فيفسد اللبن، وليس ذلك إلا لشيء فصل عنها فوصل إلى اللبن، وقد تدخل البستان فتضر بكثير من العروش من غير أن تمسها، ويفسد العجين إذا وضع في البيت الذي فيه البطيخ، وثاقب الحنظل تدمع عيناه، وكذا قاطع البصل، والناظر إلى العين المحمرة، وقد يتثاءب الرجل فيتثاءب غيره(1).
          قال أبو عمر: قوله ◙ أي فيما يأتي: ((علام يقتل أحدكم أخاه)) دليل على أن العين حق، ربما قتلت وكانت سبباً من أسباب المنية.
          قوله: (لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين) دليل على أن المرء لا يصيبه إلا ما قدر له، وأن العين لا تسبق القدر ولكنها من القدر.
          قوله: (ألا بركت؟) دليل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برك العائن، فواجب على كل من أعجبه شيء أن يبرك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، والتبريك / أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه.
          ويؤمر العائن بالاغتسال، ويجبر إن أبى؛ لأن الأمر للوجوب، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، لا سيما إذا كان بسببه وهو الجاني عليه.
          والاغتسال ورد في حديث عامر بن ربيعة، وهو أنه غسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب عليه. وفي رواية: ويديه إلى المرفقين والركبتين. وفي رواية أن عامراً غسل صدره. وفي أخرى: حسى منه حسوات.
          قال أبو عمر: قال النووي: ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين، وسلف في رواية خلافه.
          قال: وداخلة إزاره هو الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن.
          قال: وظن بعضهم أن داخلة إزاره كناية عن الفرج، وجمهور العلماء على ما قدمناه، وإذا استكمل هذا منه صبه من خلفه على رأسه.
          وذكر عياض أن غسل العائن وجهه إنما هو صبة واحدة بيده اليمنى، وكذا باقي أعضائه، إنما هو صبة واحدة بيده اليمنى وكذا باقي أعضائه إنما هو صبه على ذلك العضو من القدح ليس على صفة غسل الأعضاء من الوضوء وغيره، وكذا داخلة إزاره إنما هو غمسه في القدح، أي كما سلف، ويستغفل المعين عند صبه عليه.
          وفي رواية عقيل عنه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة، ويغسل طرف قدمه اليمنى من أصول أصابعه، واليسرى كذلك. وداخلة الإزار هي المئزر، والمراد بداخلته ما يلي الجسد منه. وقيل: المراد موضعه من الجسد، وقيل: المراد مذاكيره، وقيل: وركه؛ وهو معقد الإزار.
          قال عياض: قال بعض العلماء: ينبغي إذا عرف واحد بالإصابة بالعين أن يتجنب ويحترز منه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس، ويأمره بلزوم منزله، وإن كان فقيراً رزقه ما يكفيه، فضرره أكثر من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه رسول الله من دخول المسجد لئلا يؤذي الناس، ومن ضرر المجذومة التي منعها عمر الطواف مع الناس. وما ذكره ظاهر.
          قال أبو عمر: الرجل الصالح قد يكون عائناً، وأن هذا ليس من باب الصلاح ولا من الفسق في شيء، وأن العائن لا ينفى كما زعم بعض الناس.
          قلت: ذكر القاضي الحسين أن نبيًّا عان قومه.
          قال القرطبي: لو انتهت إصابة العين إلى أن يعرف بذلك ويعلم من حاله، أنه كلما تكلم بشيء معظماً له أو متعجباً منه أصيب ذلك الشيء وتكرر ذلك بحيث يصير ذلك عادة، فما أتلفه بعينه غرمه، وإن قتل أحداً بعينه عامداً لقتله قتل به، كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفراً.
          وأما عندنا فيقتل على كل حال قتله بسحره أم لا؛ لأنه كالزنديق.
          ذهب الفلاسفة كما قال ابن العربي إلى أن ما يصيب العين من جهة العائن إنما هو صادر عن تأثير النفوس بقوتها فيه، فأول ما تؤثر في نفسها، ثم تقوى فتؤثر في غيرها. وقيل: إنما هو سم في عين العائن يصيب لفحة المعين عند التحدق إليه كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به.
          قلت: ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل الله، أجرى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص لشخص آخر بمشيئة الله {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة:102].
          لما ذكر أبو بكر الكلاباذي حديث الحارث عن علي أن جبريل قال لرسول الله: صدق بالعين؛ فإن العين حق قال: يجوز أن يكون معنى العين: العين التي تجري فيها الأحكام والأمور في الخلق، وهو القضاء القديم والقدر السابق، فكأنه قال: صدق بالعين وتحقق أن الذي أصاب منها إنما هو بقضاء الله لا أنه حدث في الوقت. فكأنه قال: صدق بالقدر.
          ويجوز أن يكون الناظر إذا نظر إلى شيء فاستحسنه حتى شغل به عن ذكر الله تعالى فلم يرجع إليه / ولا إلى رؤية صنعه أحدث الله تعالى في المنظور علة، ويكون نظر الناظر سببها، فيؤاخذه الله بجنايته بنظره إليه على غفلة من ذكر الله، كأنه هو الذي فعلها به.
          وهذا كالضرب من الضارب بالسيف فيحدث الله الجراحة في المضروب وهو يكون الجارح، وإن كان ذلك من فعل الله وليس بفعل الضارب، ولكن لما كان الضارب منهيًّا عن الضرب بغير حقه لخفة الوعيد الذي أوعده الله تعالى به واستحقه بجنايته وهو الضرب، ولذلك اللطم نهي عن نظره إلى شيء من الأشياء على غفلة، ونسيان ذكر الله، فكانت هذه جنايته، فيجوز أن يحدث الله في المنظور علة يؤاخذ الناظر بجنايتها.
          و(الحمة) بضم المهملة ثم ميم مخففة ثم هاء؛ كذا ذكره ثعلب قال: وهي سم العقرب. وقال الخطابي: هي كل شيء يلدغ أو يلسع. وقال الفراء: هي السم. وقيل: شوكة العقرب.
          قال صاحب ((المطالع)): وهو غلط، وأصله حمو أو حمي، والهاء عوض من الواو، ولامه ياء.
          وقال ابن سيده: والحمة، قال بعضهم: هي الإبرة التي تضرب بها الحية والعقرب والزنبور أو تلدغ بها، والجمع: حماة وحمى.
          وقال الجاحظ: من سمى إبرة العقرب حمة فقد أخطأ، وإنما الحمة سموم ذوات الشعر كالدبر، وذوات الأنياب والأسنان كالأفاعي وسائر الحيات، وكسموم ذوات الإبر من العقارب، وأما البيش وما أشبهه من السموم فليس يقال له: حمة. وهاهنا أمور لها سموم، ولم نسمعهم يسمون جميع السموم الحمة، وقلنا مثل ما قالوا، وانتهينا إلى حيث انتهوا.
          وقال المطرزي في ((يواقيته)): حمة بالتشديد. وعند كراع: وجمعها حمون وحمات، كما قالوا: برة وبرون وبرات، قال: وكأنها مأخوذة من حميت النار تحمى: إذا اشتد حرارتها.
          قوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة) قال الخطابي: يريد لا رقية أولى وأشفى من رقية العين، قال الجوهري: حمة العقرب، سمها وحرها، وهي بالتخفيف، وأما حمة الحر وهو معظمه فبالتشديد، وقيل: الحمة: لدغة الحية. وبخط الدمياطي: أي: من لدغة ذي حمة وهي السم كالعقرب.
          قوله: (فأفاض القوم) أي: في الكلام واندفعوا إليه.
          قال ابن بطال: في حديث [جابر] إباحة الكي والحجامة، وأن الشفاء فيهما؛ لأنه لا يدل أمته على ما فيه الشفاء لهم إلا ومباح لهم الاستشفاء به والتداوي.
          فإن قلت: ما معنى قوله: ((وما أحب أن أكتوي)) قيل: معناه والله أعلم أن الكي إحراق بالنار وتعذيب بها، وقد كان ◙ يتعوذ من فتنة النار وعذاب النار، فلو اكتوى بها لكان قد عجل لنفسه ألم ما قد استعاذ بالله منه(2).
          فإن قيل: فهل نجد في الشريعة مثل هذا مما أباحه لأمته ولم يفعله هو؟ قيل: بلى، قد أباح أكل الضب وامتنع منه، وبين علة امتناعه أنه ((لم يكن بأرض قومي)).
          ومثله عدم أكل الثوم والبصل والخضراوات المنتنة الريح، وأباحها لأمته وقال: ((إني أناجي من لا تناجي)). وكذلك أباح الكي وكرهه في خاصة نفسه.
          قوله: (لا يسترقون) فيه دليل على كراهة التداوي، وقيل: ليس فيه دليل على منع الرقية، ووجهه أن يكون تركها توكلاً على الله ورضا بالبلاء والقضاء، وهذه أرفع الدرجات، وذهب إلى هذا أبو الدرداء وغيره من الصحابة، وروي ذلك عن الصديق وابن مسعود.
          ويحتمل أن يكون كره من الرقية ما كان على مذهب التمائم التي كانوا يعلقونها، والعوذ التي كانوا في الجاهلية يتعاطونها يزعمون أنها تذهب الآفات عنهم، وكانوا يرون معظم السبب في ذلك الجن ومعونتهم، وهذا محظور محرم التصديق به، ويكره أيضاً الرقى بالعجمية؛ لأنه ربما يكون كفراً قوله يدخله الشرك.
          وقال أبو الحسن القابسي: معنى ((لا يسترقون)) يريد به: الذي كانوا يسترقون به في الجاهلية مما ليس في كتاب الله، وهو ضرب من السحر، فأما الاسترقاء بكتاب الله فقد فعله / ◙ وأمر به، وليس بمخرج عن التوكل؛ لأن الثقة بالله، والاعتماد في الأمور عليه(3)، وتفويض كل ذلك بعد استفراغ الوسع في السعي فيما بالعبد الحاجة إليه في أمر دينه ودنياه، على ما أمر به لا كما قاله بعض الصوفية أن التوكل حده الاستسلام للسباع، وترك الاحتراز من الأعداء ورفض السعي للمعايش والمكاسب، والإعراض عن علاج العلل تمسكاً بقوله: ((لا يكتوون..)) الحديث.
          ومعناه: معتقدين أن الشفاء والبرء في الكي وغيره دون إذن الله بالشفاء، وأما من اكتوى معتقداً إذا شفي أن الله هو الذي شفاه فهو المتوكل على ربه.
          قوله: (لا يتطيرون) الطيرة: التطير من الشيء، وهو أن يرى شيئاً يتشاءم به، واشتقاقه من الطير كالغراب ونحوه، وفي بعض الحديث: ((ثلاث لا يسلم منهن أحد: الظن، والطيرة، والحسد، فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ)).
          وقال الطبري: معنى ((لا يسترقون ولا يتطيرون)) والله أعلم الذين لا يفعلون شيئاً من ذلك معتقدين أن البرء إن حدث عقب ذلك كان من عند غير الله، وأنه كان بسبب الكي والرقية، وأن الذي يتطير منه لو لم يتضرر من أجله ومضى كان في مضيه إن أصابه مكروه من قبل مضيه لا من قبل الله، فأما من انصرف ومضى وهو في كلا حالتيه معتقد أنه لا ضار ولا نافع غير الله، وأن الأمور كلها بيده، فإنه غير معني بقوله: ((لا يكتوون ولا يتطيرون)).
          واختلف في التوكل كما قاله الطبري، فقالت طائفة: لا يستحق اسم التوكل حتى لا يخالط قلبه خوف شيء غير الله من سبع عاد وعدو لله كافر حتى يترك السعي على نفسه في طلب رزقه؛ لأن الله تعالى قد ضمن أرزاق العباد، والشغل بطلب المعاش شاغل عن الخدمة.
          واحتجوا بما رواه فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، عن عمران بن حصين رفعه: ((من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها)).
          وبما رواه فضيل، عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعاً: ((لو فر أحدكم من رزقه لأدركه كما يدركه الموت)).
          وقالت طائفة: حده الثقة به، والاستسلام لأمره، والإيقان بأن قضاءه عليه ماض، واتباع سنته وسنة رسوله، ومن اتباع سنته سعي العبد فيما لا بد له منه، من مطعم ومشرب وملبس؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء:8].
          ومن سنته أن يحترز من عدوه كما فعل الشارع يوم أحد من مظاهرته بين درعين وتغفره بالمغفر؛ ليتقي به سلاح المشركين، وإقعاده الرماة على فم الشعب؛ ليدفعوا من أراد إتيانه، وكصنيعه الخندق حول المدينة تحصيناً للمسلمين وأموالهم مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لا يبلغه أحد، ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم مرة إلى الحبشة وأخرى إلى المدينة؛ خوفاً على أنفسهم من مشركي مكة.
          وقد أحسن الحسن البصري حين قال للمخبر عن عامر بن عبد الله أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء حال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: لقد خاطرت بنفسك! فقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي أن يعلم الله أني أخاف شيئاً سواه: قد خاف من كان خيراً من عامر، موسى ◙ حين قيل له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص:20] الآية وقال {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا} [القصص:21] وقال: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا} [القصص:18] وقال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [طه:67] قالوا: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله عليه نفوس بني آدم، وقد طبعهم الله على الهرب مما يضرهم، وقد أمر الله عباده بالإنفاق من طيبات ما كسبوا.
          وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] فأحل للمضطر ما كان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذي أمره / باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعي في طلب ما يتغذى به حتى هلك كان لنفسه قاتلاً.
          وقد كان سيدنا رسول الله يتلوى من الجوع ما يجد ما يأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء، وهو أفضل البشر، وكان يدخر لنفسه قوت سنة حتى فتح الله عليه الفتوح.
          وقد روى أنس بن مالك أن رجلاً أتى رسول الله ببعير فقال: يا رسول الله، أعقله وأتوكل، أو أطلقه وأتوكل؟ قال: ((اعقله وتوكل)).
          وأما اعتلالهم بحديث: ((وعلى ربهم يتوكلون)) فذلك إغفال منهم، فمعنى ذلك: الذين لا يكتوون معتقدين أن الشفاء والبرء بالكي دون إذن الله بالشفاء له به، فأما من اكتوى معتقداً إذا شفاه الله بعلاجه أن الله هو الذي شفاه به فهو المتوكل على ربه التوكل الصحيح.
          ولا أحد يتقدم سيد هذه الأمة في دخول الجنة ولا يسبقه إليها، وقال: ((أنا أول من يقرع باب الجنة)).
          قالوا: وقد كوى ◙ جماعة من أصحابه، كوى أبا أمامة أسعد بن زرارة من الذبحة، وكوى سعد بن معاذ من كلمه يوم الخندق، وكوى أبي بن كعب على أكحله حين أصابه السهم يوم أحد، وكوى أبو طلحة في زمن رسول الله.
          وقال جرير بن عبد الله: أقسم علي عمر بن الخطاب لأكتوين.
          واكتوى خباب بن الأرت سبعاً على بطنه، واكتوى من الكوفة ابن عمر ومعاوية وعبد الله بن عمرو، وذلك كله ذكره الطبري بأسانيد صحاح، قال: فبان أن معنى الحديث ما قلناه، وأن الصواب في حد التوكل الثقة بالله والاعتماد عليه سلف في أول باب الطب من هو المسبوق.
          وعن ((مسدد ابن سنجر)) من رواية أم قيس عن رسول الله أنه انتهى بها إلى البقيع فقال: ((يا أم قيس، يبعث من هذه المقبرة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، كأن وجوههم القمر ليلة البدر)). فقام عكاشة.. الحديث.
          قال الإسماعيلي: في حديث أبي هريرة: كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ قال: ((أرأيت لو كان لأحدكم خيل))؟ وفي حديث ابن عباس هذا أنه لم يعرف أمته؛ فإن فيه: ((فإذا سواد قد ملأ الأرض، قيل: هذه أمتك)) فكيف وجه خروج الحديثين مع صحة إسنادهما؟
          فنقول: إن السواد الذي في الأفق الثاني غير مدرك الطرف إلا السواد والكثرة، ولا يدرك الأعيان والأشخاص حتى إذا صاروا منهم بحيث يدرك الطرف أشخاصهم عرفهم بالعلامة التي ذكرها، وقد يرى الرجل شخصاً ثانياً فيكلمه ولا يعلم أخاه، فإذا صار بالمحل الذي يتبينه عرفه حينئذ.
          قال والدي ⌂:
          (باب أي ساعة يحتجم) فإن قلت: قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] فما وجه التاء هنا؟ قلت: قرئ أيضاً بأية أرض قال الزمخشري: شبه سيبويه تأنيث أي بتأنيث كل في قولهم كلهن وعرض (خ) أنه لا كراهة في بعض الأيام أو الساعات.
          قوله: (أبو معمر) بفتح الميمين عبد الله المقعد و(ابن بحينة) مصغر البحنة بالموحدة والمهملة والنون هو عبد الله بن مالك واسم أمه: بحينة و(عمرو) هو ابن دينار و(محمد بن مقاتل) بكسر الفوقانية و(حميد) مصغر الحمد و(أبو طيبة) بفتح المهملة وإسكان التحتانية وبالموحدة اسمه نافع على الأكثر كان مولى لبني بياضة ضد السوادة.
          و(خففوا) أي: ضريبته يعني: خراجه الذي عينوا عليه و(الأمثل) أي: الأفضل و(الغمز) العصر باليد، وقيل: كانت المرأة تأخذ خرقة فتفتلها فتلا شديدا وتدخلها في حلق الصبي وتعصر عليه وربما تجرحه حتى ينفجر منه الدم.
          قوله: (سعيد) ابن عيسى بن تليد بفتح الفوقانية وكسر اللام و / بإهمال الدال المصري و(ابن وهب) هو عبد الله و(عمرو) هو ابن الحارث وهما مصريان أيضاً و(بكير) مصغر البكر ابن عبد الله بن الأشج بالمعجمتين المدني و(المقنع) بلفظ مفعول التقنيع بالقاف والنون والمهملة ابن سنان بكسر المهملة وبالنونين التابعي و(إسماعيل) هو ابن [أبي] أويس و(سليمان) بن بلال و(علقمة) بفتح المهملة والقاف وسكون اللام ابن أبي علقمة مولى عائشة و(عبد الرحمن) بن هرمز الأعرج و(عبد الله بن بحينة) بضم الموحدة وفتح المهملة واسم أبيه مالك و(لحي) بفتح اللام وتسكين المهملة وبالتحتانية وفي بعضها بالتحتانيتين مثنى و(الجمل) بفتح الجيم والميم اسم ماء، وقيل موضع، وقيل هو الجحفة.
          قوله: (الأنصاري) محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك و(هشام) هو ابن حسان القردوسي بضم القاف والمهملة وتسكين الراء بينهما وبالمهملة و(الشقيقة) هو وجع أحد شقي الرأس و(الصداع) ألم في أعضاء الرأس.
          قوله: (محمد بن بشار) بإعجام الشين و(ابن أبي عدي) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية محمد البصري و(محمد بن سواء) بفتح المهملة وخفة الواو وبالمد الضرير السدوسي مات سنة سبع وثمانين ومائة و(إسماعيل بن أبان) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة وبالنون الوراق الكوفي و(ابن الغسيل) هو عبد الرحمن مر مع الحديث آنفاً.
          قوله: (ابن أبي ليلى) بفتح اللامين عبد الرحمن و(كعب بن عجرة) بضم المهملة وسكون الجيم وبالراء و(النسيكة) الذبيحة، وفيه أن كل ما يتأذى به المؤمن وإن ضعف أذاه وإن كان محرماً يباح له إزالته فمداواة أسقام الأجسام بالطريق الأولى.
          قوله: (اكتوى أو كوى) الفرق بينهما أن الأول لنفسه والثاني أعم منه نحو: اكتسب لنفسه وكسب له ولغيره ونحوه اشتوى إذا اتخذ الشواء لنفسه، وشوى إذا اتخذ له ولغيره.
          قوله: (أبو الوليد) بفتح الواو و(اللذعة) بالمعجمة ثم المهملة من لذعته إذا أحرقته قال ابن بطال: فيه إباحة الكي؛ لأنه صلعم لا يدل الأمة إلا على ما فيه الشفاء ولا يبيح لهم الاستشفاء به. فإن قيل: ما معنى لا أحب أن أكتوي. قلنا: الكي إحراق بالنار وتعذيب بها وقد كان يتعوذ دائماً من عذاب النار فلو اكتوى بها لكان قد عجل لنفسه ما قد استعاذ بالله منه.
          فإن قيل: فهل في الشرع مثله مما أباح للأمة ولم يفعل هو بنفسه قلنا: أكل الضب على مائدته ولم يأكله.
          قوله: (عمران بن ميسرة) ضد الميمنة و(ابن فضيل) مصغر الفضل بالمعجمة محمد الضبي بالمعجمة والموحدة و(حصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وبالنون ابن عبد الرحمن و(عامر) هو الشعبي و(عمران) هو ابن حصين مصغر الحصن الخزاعي البصري كان تسلم عليه الملائكة حتى اكتوى فتركوا السلام عليه ثم ترك الكي فعادوا إلى السلام.
          قوله: (عين) هو إصابة العائن غيره بعينه وهو أن يتعجب الشخص من الشيء حين يراه فيتضرر ذلك الشيء منه و(الحمة) بضم المهملة وخفة الميم السم. الجوهري: حمة العقرب سمها وضرها وهذا موقوف على عمران غير مرفوع إليه صلعم وغرض (خ) حديث ابن عباس.
          الخطابي: لم يرد به حصر الرقية الجائزة فيهما، وإنما المراد لا رقية أحق وأولى من رقية العين والحمة لشدة الضرر فيهما وقال الشعبي فذكرته.
          قوله: (الدين معه) فإن قلت: النبي هو المخبر عن الله للخلق فأين الذين معه؟ قلت: ربما / أخبر ولم يؤمن به أحد ولا يكون معه إلا المؤمن.
          قوله: (بغير حساب) فإن قلت: هل يدخلون وإن كانوا [أصحاب معاص] ومظالم؟ قلت: الذين كانوا بهذه الأوصاف الأربعة لا يكونون إلا عدولاً مطهرين من الذنوب أو بتركه هذه الصفات يغفر الله لهم ويعفو عنهم.
          قوله: (دخل) إلى الحجرة ولم يبين للصحابة من السبعون، ويقال: أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وناظروا عليه.
          قوله: (لا يسترقون) فإن قلت: سيجيء قريباً أنه صلعم [أمر] أن يسترقي من العين، وقال: استرقوا للجارية ورقى رسول الله صلعم وأبو سعيد الخدري اللديغ؟ قلت: المأمور بها ما يكون بقوارع القرآن ونحوه، والمنهي عنها رقيا العزامين وما عليه أهل الجاهلية، وقيل: الذي فعل أو أذن فيها هو لبيان الجواز وأما المدح فهو لبيان الأولى والأفضل.
          قوله: (لا يتطيرون) أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها كما هو عادتهم قبل الإسلام و(الطيرة) ما يكون في الشر، والفأل ما يكون في الخير وكان صلعم يحب الفأل.
          قوله: (لا يكتوون) فإن قلت: كوى رسول الله صلعم سعد بن معاذ وغيره وهو أول من يدخل الجنة؟ قلت: غرضه أنهم لا يعتقدون أن الشفاء من الكي على ما كان اعتقاد الكفار.
          والتوكل هو تفويض الأمر إلى الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب، وقيل: هو ترك السعي فيما لا تسعه قدرة البشر فالشخص يأتي بالسبب ولا يرى أن المسبب منه بل يعتقد أن ترتيب المسبب عليه بخلق الله وإيجاده، ولهذا قال صلعم: ((اعقلها وتوكل)). ولبس يوم أحد درعين مع كونه من التوكل بمحل لم يبلغه أحد من خلق الله، وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ} [آل عمران:159] وحرم ترك السعي في طلب ما يتغذى به حتى لو قعد وانتظر طعاماً ينزل عليه من السماء حتى هلك كان قاتلاً لنفسه.
          وحاصله أنهم الذين يتركون أعمال الجاهلية وعقائدهم ويعتقدون عقائد أهل الإسلام ويعملون أعمالهم، فإن قلت: كل المؤمنين كذلك. قلت: ليس هذا إلا للكاملين منهم ومن تركها رضاً بقضائه، وملخصه أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله، ولا شك في فضيلة هذه الحالة ورجحان صاحبها.
          فإن قلت: فهم لا يختصون بهذا العدد؟ قلت: الله أعلم بذلك مع احتمال أن يراد بالسبعين الكثير.
          الخطابي: ليس في ثنائه على هؤلاء ما يبطل جواز الرقية. ويحتمل أن المكروه منها ما كان على مذهب التمائم التي كانوا يعلقونها في الرقاب ويزعمون أنها دافعة للآفات ويرون ذلك من قبل الجن، وهذا النوع يحرم التصديق به والعمل عليه، وأما الطيرة فلا خفاء فيها فإن الخير والشر كلاهما مضافان إلى الله تعالى، أقول: وكذا في البواقي إذ لا مؤثر إلا الله.
          قوله: (عكاشة) بضم المهملة وتخفيف الكاف وتشديدها وبالمعجمة ابن محصن بكسر الميم وإسكان المهملة الأولى وفتح الثانية الأسدي و(سبقك) أي في الفضل إلى منزلة أصحاب هذه الأوصاف الأربعة فكره صلعم أن يقول إنك لست من هذه الطبقة فجاوبه بكلام مشترك؛ أي: سبقك هو إلى هذه الحالة الرفيعة حين كان من أهل تلك الصفات، وهذا من معاريض الكلام إذ ظاهره مشعر بأنه سبقك في السؤال عنها، وقيل: يحتمل أن يكون سبقك عكاشة بوحي أنه يجاب فيه، ولم يحصل / ذلك للآخر، وقال الخطيب: هذا الرجل سعد بن عبادة، وقيل أن الرجل الثاني كان منافقاً فأراد صلعم الستر عليه والإبقاء عليه، ولعله أن يتوب فرده ردًّا جميلاً ولو صح هذا بطل قول الخطيب.
          الزركشي:
          (أبو طيبة) بطاء مهملة فمثناة فموحدة، قيل في اسمه: نافع.
          (وكلم مواليه) بفتح الياء في الأفصح، ويجوز إسكانها كقوله: أعط القوس باريها.
          (بالغمز من العذرة) الغمز رفع اللهاة بالإصبع.
          (لحي جمل) بفتح اللام وكسرها مفرداً هي عقبة الجحفة، وقيل: على سبعة أميال من السقيا. قال القاضي: ورواه بعض رواة (خ): ((لحيي)) مثنى، وفسره فيه في حديث محمد بن بشار ماء يقال له: لحيي جمل.
          (أو لذعة نار) بالذال المعجمة والعين المهملة: هو الخفيف من إحراق النار، يريد: الكي، وهذا مما أغفله القاضي في ((المشارق)).
          (ولا رقية إلا من عين أو حمة) بتخفيف الميم، أي: من لدغة ذي حمة كالعقرب ونحوها، والمراد بها: السم أو حدته.
          (عكاشة) بتشديد الكاف، ويقال بتخفيفها، والأول أشهر، انتهى كلام الزركشي.
          أقول:
          قوله: (وسط رأسه) الوسط بالسكون يقال: في ما كان متفرق الأجزاء غير متصل كالناس والدواب وغير ذلك فإن كان متصل الأجزاء بالدار والرأس فهو بالفتح، وقيل: كلما يصلح فيه بين فهو بالسكون وما لا يصلح فيه بين فهو بالفتح، وقيل: كل منهما يقع موقع الآخر، وكأنه الأشبه ويحتمل أنه احتجم وسط رأسه ولم يحلق شيئاً من شعره ويحتمل أنه حلق والأصل الإحرام.
          أقول: وقيل الوسط بالسكون هو جاء في الوسط وبالتحريك هو ما بين الأول والآخر؛ أي جزء كان كما يقول جاء في وسط النهار هو وقت استواء الشمس في كبد السماء ووسط النهار بالسكون في أي جزء من أجزائه سواء كان قبل الزوال أو بعده.
          والمحجمة بالكسر الآلة التي يجتمع فيها الدم عند الامص والمحجم مشرط الحجام.
          أقول: فإن قلت: هذا الحديث محرض على ترك الكي والحديث الآخر وهو قوله إن يكن الشفاء ففي شرطة محجم الحديث، وهو محرض على الكي فكيف يكون الجمع بينهما؟ قلت: ربما يكون معنى الحديث الأول أنهم لا يكتوون مع وجود دواء آخر لمرض عرض بالمكتوي وفي الثاني لمن لا يجد دواء إلا ذلك بأفعاله وهو قولهم آخر الدواء الكي، وذلك إذا انحصر الدواء فيه، وسلف له أجوبة أخرى.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: ومن أكل وينظر إليه كلب أو سنور قيل: إنه يخرج من عينيه شيء يتصل بالمأكول، فيتضرر الآكل به ولهذا قيل ينبغي أن لا يأكل أحد شيئاً وعين تنظره أو تطعمه مما يأكل)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: هو ◙ مقطوع بأنه لا يذوق النار ولا يفتن بها وإنما كان يدعو بذلك تعليماً للأمة الذين يمكن أن يعذبوا بالنار فقوله لكان عجل لنفسه إلى آخره فيه نظر.
فإن قلت: سلمنا ذلك في حقه فكيف أمر بالكي وكوى جماعة من الصحابة سعد بن معاذ وأسعد بن زرارة وعمران بن حصين؟ قلت: يحتمل أن يكون أنه لا يجب الكي إذا كان بغير علة حاضرة يوافقها الكي غالباً)).
[3] في هامش المخطوط: ((أقول: والتوكل لا يمنع استعمال الأسباب العادية في حصول المقاصد والأمور المطلوبة للتوكل)) ألا ترى قوله ◙ لصاحب الناقة ((اعقلها وتوكل أي: لا تكله على العقل بل على الله تعالى فوكل بعد العقل)).