مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب أجر الصابر في الطاعون

          ░31▒ باب أجر الصابر في الطاعون
          فيه حديث عائشة أنها سألت النبي صلعم عن الطاعون، الحديث سلف في التفسير، وفي ذكر بني إسرائيل، ويأتي في النذور.
          وهذه الخرجة من عمر سنة سبع عشرة، ذكر خليفة بن خياط أن خروج عمر إلى الشام هذه المرة كان في السنة المذكورة يتفقد فيها أحوال الرعية، وكان قد خرج قبل ذلك سنة ست عشرة لما حاصر أبو عبيدة بيت المقدس فقال أهله: يكون الصلح على يد عمر، فخرج لذلك.
          و(سرغ) بسين مهملة مفتوحة ثم راء مهملة ساكنة ثم غين معجمة: مدينة بالشام، كما قاله أبو عبيد البكري. افتتحها أبو عبيدة هي واليرموك والجابية والرمادة متصلة، وقال الحازمي: هي أول الحجاز وآخر الشام، بين المعنية وتبوك من منازل حاج / الشام، وعبارة ابن التين أنه موضع بأدنى الشام إلى الحجاز.
          قال أبو عمر: قيل إنه واد بتبوك، وقيل: بقرب تبوك.
          قال صاحب ((المطالع)): وعن ابن وضاح تحريك الراء، وهو من المدينة على ثلاثة عشر مرحلة.
          في حديث: المشاورة فيما ليس فيه نص ودليل على أن الاختلاف لا يوجب حكماً، وإنما يوجب النظر، وأن الإجماع هو الذي يوجب الحكم والعمل.
          وفيه: إثبات المناظرة والمجادلة عند الخلاف في النوازل والأحكام.
          وفيه: الانقياد لحديث رسول الله.
          وفيه: أن الحديث يسمى علماً، ويطلق ذلك عليه.
          وفيه: أن الخلق يجرون في قدر الله وعلمه، أن أحداً منهم لا يخرج عن حكمه وإرادته.
          وفيه: أن العالم قد يجد عند من هو دونه في العلم ما لا يجد عنده؛ لأن عمر فوق عبد الرحمن في العلم والفقه والدنو من الشارع، وقد وجد عنده في هذا الباب ما لم يكن عند عمر، وقد جهل محمد بن سيرين رجوع عمر من الطاعون ولم يعرفه، وقال: إنما رجع لأنه أخبر أن الصائفة لا تخرج العام.
          وفيه: أن الحاكم لا ينفذ قضاء ولا يفصل حكماً إلا من مشورة من يحضره من علماء موضعه، وبهذا كان يكتب عمر إلى القضاة: أنه لم يبلغ من علم عالم أن يجتزئ به حتى يجمع بين علمه وعلم غيره وتمثل:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد                     أشيرا على القوم ما تريان
          وذكر سيف، عن سهل بن يوسف بن سهل بن مالك الأنصاري، عن أبيه، عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري: بعث رسول الله معاذاً معلماً لأهل اليمن وحضرموت، فقال: ((إنك تقدم على قوم أهل كتاب..)) الحديث.
          وفيه: ((.. ولا تقضين إلا بعلم، وإن أشكل عليك أمر فسل واستشر، فإن المستشير معان والمستشار مؤتمن، وإن التبس عليك فقف نبين لك أو تكتب إلى، ولا تصرمن قضاء فيما لم تجده في كتاب الله أو سنتي إلا عن ملأ)).
          وفيه: دليل عظيم على ما كان عليه القوم من الإنصاف في العلم والانقياد إليه.
          وفيه: استعمال خبر الواحد وقبوله وإيجاب العمل به، وهو أصح وأقوى ما يروى من جهة الأثر في خبر الواحد؛ لأن ذلك كان لمحضر من الصحابة في أمر قد أشكل عليهم، فلم يقولوا لعبد الرحمن أنت واحد فلا يجب قبوله إنما يجب قبول خبر الكافر.
          قال أبو عمر: ما أعظم ضلال من قاله، والله تعالى يقول: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فلو كان العدل إذا جاء بنبأ يتثبت في خبره ولم ينفذ لاستوى الفاسق والعدل.
          وهذا خلاف القرآن العظيم، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وقد قال القاضي أبو بكر: أجمع الصحابة على تقديم خبر الواحد على قياس الأصول.
          قال ابن التين: وإنما رجع عمر إلى رأي المشيخة لأنه ترجح عنده على رأي من خالفهم ممن أمره بالدخول؛ لأنه جمع بين الحزم والأخذ بالحذر، وأما ما يروى من ندمه على الرجوع فلا يصح عنه شيء من ذلك، وكيف يندم وقد ظهر له الحق بحديث ابن عوف؟!
          قال ابن عبد البر: وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: الطاعون فتنة على المقيم وعلى الفار، فأما الفار فيقول: فررت ونجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت. وكذا، فر من لم يجيء أجله وأقام من جاء أجله.
          وقال الأصمعي: هرب بعض البصريين من الطاعون، فركب حماراً وسار هاربا نحو سفوان(1) / فسمع حادياً يحدو خلفه:
لن يسبق الله على حمار                     ولا على ذي ميعةٍ طيار
أو يأتي الحتف على مقدار                     قد يصبح الله أمام الساري
          فرجع.
          قال المدائني: ويقال: إنه قل ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت.
          قال أبو عمر: ولم يبلغني أن أحداً من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكر المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب منه فطعن فمات بالسيالة.
          قال المدائني: ولما وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان خرج هارباً، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها سكر، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك، فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال: طالب بن مدرك. فقال: أوه ما أراني راجعاً إلى الفسطاط. فمات في تلك القرية.
          وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} [البقرة:243] قال: كانوا أربعين ألفاً خرجوا فراراً من الطاعون فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم الله تعالى. وهذا النبي حزقيل، فيما قاله ابن قتيبة في ((معارفه)).
          في ((مسند أحمد)) حديث جابر رفعه: ((الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف))، وفي رواية له: ((ومن صبر كان له أجر شهيد)).
          قال الطبري في حديث سعد الدلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها، وتجنب المرجفات قبل هجومها، وإن غلبه الصبر وترك الجزع بعد نزولها.
          وذلك أنه ◙ نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فراراً منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها سبيله في ذلك سبيل الطاعون.
          وهذا المعنى نظير قوله ◙: ((لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا العافية، وإذا لقيتموهم فاصبروا)).
          فإن قلت: الأجل لا بد من استيفائه، فما حكمة النهي عن الدخول وعن الخروج؟
          قلت: حذر أن يظن أن الهلاك كان من أجل القدوم، والنجاء من الفرار كما سلف، وهو نظير الدنو من المجذوم والفرار منه مع الإعلام بأن لا عدوى.
          وقال بعض العلماء فيما حكاه ابن الجوزي: إنما نهى عن الخروج؛ لأن الأصحاء إذا خرجوا هلكت المرضى، فلا يبقى من يقوم بحالهم، فخروجهم لا يقطع بنجاتهم، وهو قاطع بهلاك من بقي، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأكثر أهل العلم على منع القدوم عليه ومنع الخروج فراراً منه.
          وفي قوله: ((فراراً منه)) جواز الخروج منه لا على وجه الفرار منه، وكذا الداخل، كما نبه عليه بعض العلماء(2).
          وقال عروة بن رويم: بلغنا أن عمر كتب إلى عامله بالشام: إذا سمعت بالطاعون قد وقع عندكم فاكتب لي حتى أخرج إليه.
          وحديث العرنيين لما استوخموا المدينة أمرهم أن يخرجوا منها، حجة لمن أجاز الفرار من أرض الوباء والطاعون، لكن ليس كما توهم، وذلك أن القوم شكوا إلى رسول الله أنهم كانوا أهل ضرع ولم تلائمهم المدينة فاستوخموها؛ لمفارقتهم هواء بلادهم، فهم الذين استوخموا المدينة خاصة دون سائر الناس، فأمرهم ◙ بالخروج منها.
          وفيه: أن من قدم إلى بلدة ولم يوافقه هواؤها / أنه مباح له الخروج منها والتماس موضع أفضل هواء منها، وليس ذلك بفرار من الطاعون، وإنما الفرار منه إذا عم الموت في البلدة الساكنين فيها والطارئين عليها، وفي ذلك جاء النهي.
          فائدة:
          نقل ابن الصلاح في بعض مجاميعه عن الزهري أن من قدم أرضاً فأخذ من ترابها فجعله في مائها ثم شرب عوفي من وبائها.
          قوله: (وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) دليل أنه يجوز الخروج منها لا على قصد الفرار منه كما سلف إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل أيضاً إذا أيقن أن دخوله لا يجلب إليه قدراً لم يكن قدره الله عليه فمباح له الدخول.
          وروى القاسم عن عبد الله بن عمر أن عمر قال: اللهم اغفر لي رجوعي من سَرْغ.
          وحديث عائشة يفسر قوله ◙: ((الطاعون شهادة، والمطعون شهيد)) يبين أن الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه، ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعله إن مات فيه فهو شهيد، وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث.
          وسلف أن الوباء يمد ويقصر، وهو مرض عام يفضي إلى الموت غالباً، وعند الأطباء هو آفة تعرض للهواء فتفسد بفساده الأمزجة.
          قوله: (ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح) قال الداودي: فيه دليل أن الفتح فتح مكة؛ لأن أبا سفيان ومن أسلم معه من مهاجرة الفتح.
          قوله: (إني مصبح على ظهر) أي: سفر. قال الجوهري: الظهر: طريق البر.
          قوله: (نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله) يريد: أن القدر بالموت لا بد أن يدركنا، فنفر من قدر يقع في أنفسنا منه شيء إلى قدر لا يقع في أنفسنا منه شيء.
          قوله: (له عدوتان): أي: شاطئين وحافتان، وهي بضم العين وكسرها، وقرئ بهما في قوله تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} [الأنفال:42] وقال أبو عمرو: العدوة بالضم والكسر: المكان المرتفع.
          قوله: (إحداها خصبة) قال ابن التين: ضبط بفتح الخاء، وكسر الصاد في بعض الكتب. وفي بعضها بالسكون. وفي ((الصحاح)): الخصب بالكسر: نقيض الجدب، يقال: بلد خصب، وجدب بفتح الجيم وسكون الدال: ضد الخصب.
          قوله قبل: (لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه) قال كراع: كان الشام على خمسة أجناد: الأردن، وحمص، ودمشق، وفلسطين، وقنسرين، على كل ناحية أمير، ولم يمت عمر حتى جمع الشام كله لمعاوية.
          قوله: (فقال عمر لما قال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله) فيه قولان:
          الأول: لعاقبته.
          الثاني: هلا تركت هذه الكلمة لمن قل فهمه.
          وروى ابن جرير أن عمر قال لأبي عبيدة في هذا الحديث: أشككت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أشاكاً كان يعقوب ◙ حيث قال لبنيه: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف:67]؟ فقال عمر: والله لأدخلنها. فقال أبو عبيدة: والله لا تدخلها، فرده.
          قوله: (لا يدخل المدينة المسيح ولا الطاعون) فيه فضل ظاهر للمدينة.
          قلت: وسبب عدم الدخول أنه في الأصل رجز وعذاب، وإن كان شهادة فببركة مجاورته ◙ بها دفع عنهم ألمه، وقد دعا / بنقل الحمى عنها إلى الجحفة، وهي طهور، وسيأتي أن الحرق والغرق شهادة، وقد استعاذ ◙ منهما.
          وأما قول عائشة: (قدمنا المدينة وهي وبئة) فلعله كان قبل استيطان المدينة، أو المراد به الوخم، وقد ورد أن الطاعون لا يدخل مكة أيضاً(3)، وإسناده ضعيف. وفي ((المعارف)) لابن قتيبة أنه لم يقع بالمدينة ولا بمكة طاعون قط.
          قلت: أما المدينة فنعم، وأما مكة فدخلها سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
          قال والدي ⌂:
          (باب من خرج من أرض).
          قوله: (يزيد) من الزيادة (ابن زريع) مصغر الزرع؛ أي: الحرث و(سعيد) أي: ابن أبي عروبة بفتح المهملة وضم الراء و(عكل) بضم المهملة وإسكان الكاف وباللام و(عرينة) تصغير العرنة بالمهملة والراء وبالنون قبيلتان و(أهل ضرع) أي: أهل المواشي و(أهل ريف) بكسر الراء؛ أي: أهل أرض فيها زرع و(استوخموا) يقال بلدة وخمة إذا لم توافق ساكنها و(الذود من الإبل) ما بين الثلاث إلى العشرة، وأما شرب الأبوال فإنما كان للمداواة أو كان قبل تحريمها و(الطلب) جمع الطالب مر مراراً.
          قوله: (الطاعون) وهو بثر مؤلم جدا يخرج غالباً من الآباط مع لهيب واسوداد حواليه وخفقان القلب والقيء. الجوهري: هو الموت من الوباء.
          قوله: (حفص) بالمهملتين ابن عمر و(حبيب) ضد العدو (ابن أبي ثابت) ضد الزائل قال حبيب فقلت لإبراهيم: أنت سمعت أسامة يحدث سعداً أي ابن أبي وقاص أحد العشرة به وسعد لا ينكر ذلك فقال نعم.
          قوله: (عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل) بفتح النون والفاء الهاشمي قتله السموم سنة تسع وتسعين و(سرغ) بفتح المهملة وتسكين الراء وبالمعجمة منصرفاً وغير منصرف، قرية في طريق الشام مما يلي الحجاز.
          قوله: (الأجناد) قيل: المراد به أمراء مدن الشام الخمس، وهي فلسطين، والأردن، وحمص، وقنسرين، ودمشق و(أبو عبيدة) مصغر العبد (ابن الجراح) بالجيم وشدة الراء، اسمه: عامر أحد العشرة المبشرين بالجنة و(الوباء) بالمد والقصر. قال الخليل: هو الطاعون، وقال آخرون: هو المرض العام فكل طاعون وباء دون العكس، والوباء الذي وقع بالشام في زمان عمر كان طاعوناً وهو طاعون عمواس بفتح المهملة، وهي قرية معروفة بالشام.
          قوله: (المهاجرون الأولون) هم الذين صلوا إلى القبلتين، و(بقية الناس) أي: بقية الصحابة وإنما قال كذلك تعظيماً لهم؛ أي: كأن الناس لن يكونوا إلا الصحابة قال الشاعر:
          هم القوم كل القوم يا أم خالد
          وعطف أصحاب على الناس عطف على الناس عطف تفسيري و(تقدمهم) من الإقدام بمعنى: التقديم، والغرض أنا لا نرى أن نجعلهم قادمين عليه و(مشيخة) جمع: الشيخ و(مهاجرة الفتح) هم الذين هاجروا عام الفتح، وقيل هم مسلمة الفتح(4).
          قوله: (مصبح) بإسكان الصاد أي: مسافر في الصباح راكباً على ظهر الراحلة راجعاً إلى المدينة فأصبحوا راكبين متأهبين للرجوع إليها.
          قوله: (قدر الله) القضاء هو عبارة عن الأمر الكلي الإجمالي الذي حكم الله به في الأزل، والقدر: عبارة عن جريان ذلك الكلي ومفصلات ذلك المجمل التي حكم بوقوعها واحداً بعد واحد في الأزل، قالوا هو المراد بقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر:21].
          قوله: (لو غيرك قالها) جزاؤه محذوف أي: قال غيرك لأدبته وذلك / لاعتراضه على مسألة اجتهادية وافقه عليها أكثر الناس من أهل الحل والعقد أو لم يعجب منه وإنما العجب من قولك مع ما أنت عليه من العلم والفضل.
          قوله: (عدوتان) بضم المهملة وكسرها طرفان و(الخصبة) بكسر الصاد وسكونها و(الجدبة) بسكون الدال وكسرها؛ يعني: الكل بتقدير الله سواء ندخل أو نرجع، فرجوعنا أيضاً بقدر الله فعمر ☺ استعمل الحذر وأثبت القدر معاً فعمل بالدليلين الذين كانت تتمسك كل طائفة به من التسليم للقضاء والاحتراز عن الإلقاء في التهلكة و(عبد الرحمن) هو ابن عوف و(لا تقدموا) بفتح الدال أي ليكون أسكن لقلوبكم وأقطع للوسوسة و(لا تخرجوا) أي: لئلا تكونوا قد عارضتم القدر وادعيتم الحول والقوة في الخلاص منه وفي لفظ (فراراً) دليل على جواز الخروج لغرض آخر لا بقصد الفرار منه وحمد الله تعالى على موافقة اجتهاده واجتهاد معظم أصحابه حديث رسول الله صلعم.
          قال ابن بطال: فإن قيل لا يموت أحد إلا بأجله، ولا يتقدم ولا يتأخر فما وجه النهي عن الدخول والخروج؟ قلنا: لم ينه عن ذلك حذراً عليه إذ لا يصيبه إلا ما كتب الله عليه، بل حذراً من الفتنة من أن يظن أن هلاكه كان من أجل قدومه عليه، وأن سلامته كانت من أجل خروجه فنهى عن الدنو من المجذوم مع علمه بأنه لا عدوى.
          فإن قلت: إذنه صلعم للذين استوخموا المدينة بالخروج حجة لمن أجاز الفرار؟ قلت: لم يكن ذلك فراراً من الوباء، إذ هم كانوا مستوخمين خاصة دون سائر الناس، بل للاحتياج إلى الضرع ولاعتيادهم المعاش في الصحارى.
          وفيه أن على المرء التدبر في المكاره قبل وقوعها، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وعليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها. النووي: كان رجوع عمر ☺ لأنه أحوط، ولرجحان طرف الرجوع بكثرة القائلين به ولم يكن تقليداً للمشيخة؛ لأن اجتهاده أدى إليه وساعده بعض المهاجرين والأنصار مع ما كان للمشيخة من السن والخبرة وكثرة التجارب وسداد الرأي.
          وفيه خروج الإمام بنفسه لمشاهدة أحوال رعيته وإزالة ظلم المظلوم، وكشف الكرب، وتخويف أهل الفساد وإظهار شعائر الإسلام، وتلقي الأمراء والمشاورة معهم، والاجتماع بالعلماء، وتنزيل الناس منازلهم، والاجتهاد في الحروب، وقبول خبر الواحد، وصحة القياس وجواز العمل به، اجتناب أسباب الهلاك.
          قوله: (عبد الله بن عامر العنزي) بفتح المهملة وسكون النون وبالزاي، المدني الصحابي الصغير و(نعيم) مصغر النعم (المجمر) بلفظ فاعل الإجمار بالجيم والراء كان يجمر العود في المسجد و(المسيح) هو الدجال و(عاصم) هو الأحول و(حفصة) بالمهملتين و(يحيى) أي: ابن سيرين أخو حفصة؛ أي بأي مرض مات أخوك يحيى.
          قوله: (سمي) بضم المهملة وخفة الميم وشدة التحتانية مولى أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي و(أبو صالح) هو ذكوان و(المبطون) أي: الذي مات بمرض البطن (شهيد) أي: له ثواب الشهادة و(المطعون) الذي مات بالطاعون.
          اعلم أن الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد الدنيا والآخرة: بأن لا يغسل ولا يصلى عليه في الدنيا وله الثواب في الآخرة وهو من قاتل لإعلاء كلمة الله تعالى / وشهيد الدنيا بأن لا يغسل ولا يصلى عليه ولم يكن له الثواب وهو من قاتل للرياء والغنيمة، وشهيد الآخرة فيغسل ويصلى عليه وله الثواب في الآخرة كالمبطون. القاضي البيضاوي: من مات بالطاعون أو بوجع البطن ملحق بمن قتل في سبيل الله لمشاركته إياه في بعض ما يناله من الكرامة بسبب ما كابده من الشدة لا في جملة الأحكام والفضائل، وقال: وإنما نهى عن الدخول في الوباء فإنه تهور وإقدام على خطر، وعن الخروج منه فإنه فرار من القدر، ولئلا يضيع المرضى ممن يتعهدهم، والموتى ممن يجهزهم وأحد الأمرين تأديب وتعليم والآخر تفويض وتسليم.
          قوله: (إسحاق) قال الغساني: لعله ابن منصور و(حبان) بفتح المهملة وشدة الموحدة وبالنون الباهلي و(داود بن أبي الفرات) بضم الفاء وتخفيف الراء وبالفوقانية المروزي و(عبد الله بن بريدة) مصغر البردة بالموحدة الأسلمي التابعي البصري القاضي بمرو و(يحيى بن يعمر) بلفظ مضارع العمارة بالمهملة بضم الميم وفتحها المروي قاضيها.
          قوله: (رحمة) فإن قلت: ما معناها، قلت: هو وإن كان محنة صورة لكنها رحمة من حيث أنها تتضمن مثل أجر الشهيد فهو سبب الرحمة لهذه الأمة.
          قوله: (في يده) مما تنازع الفعلان في بلده و(النضر) بسكون المعجمة ابن شميل مصغر الشمل و(داود) أي: ابن أبي الفرات.
          الزركشي:
          (سرغ) بفتح السين المهملة وإسكان الراء بعدها غين معجمة، وحكى القاضي أيضاً فتح الراء، قرية بوادي تبوك قريب من الشام، ويجوز صرفه وتركه.
          (مشيخة) بفتح الميم وكسر الشين جمع شيخ.
          (لو غيرك قالها) خلاف الجادة، فإن ((لو)) خاصة بالفعل، وقد يليها اسم مرفوع معمول لمحذوف يفسره ما بعده كقولهم: ((لو ذات سوار لطمتني)) ومنه هذا، وجواب ((لو)) محذوف، وفي تقديره وجهان:
          أحدهما: لو قالها غيرك لآذيته لاعتراضه علي في مسألة اجتهادية واتفق عليها الأكثر.
          والثاني: لو قالها غيرك لم أتعجب منه، وإنما العجب من قولك مع فضلك.
          (فلا تقدموا) بفتح التاء والدال؛ أي: لا تدخلوا، وبضم التاء وكسر الدال من الإقدام.
          (فراراً منه) مفعول لأجله.
          (حفصة بنت سيرين قالت: قال لي أنس بن مالك: يحيى بما مات؟) وفي نسخة: ((بم مات))، وهي أفصح، والمراد به: يحيى بن أبي عمرة كما رواه (م)، وليس لحفصة عن أنس في الصحيحين غير هذا، انتهى كلام الزركشي.
          أقول:
          ذكر صاحب ((الغرر الواضحة)) في باب الجبن قال: هرب رجل من الطاعون إلى النجف، وكان بالكوفة فكتب إليه شريح القاضي أما بعد، فإن الفرار لن يبعد أجلاً ولن يكثر رزقاً، وإن المكان الذي أنت فيه ليعين من لا يعجزه هرب ولا يفوته طلب، وإن المكان الذي خلفته لا يعجل أحداً إلى حمامه ولا نظله شيئاً من إيانه وإن النجف من ذي قدره لقريب، وهذا الطاعون يسمى الجارف.
          وكان في شوال سنة تسع وستين(5) هلك في مدة ثلاثة أيام مائتا ألف وعشرة آلاف باب فيه لأنس بن مالك ثلاثة وثمانون ولداً ولعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أربعون ولداً.


[1] في هامش المخطوط: ((هي بفتحتين وآخره نون، ماء على قدر مرحلة من البصرة به ماء كثير قاله ياقوت)).
أقول: ذكر صاحب ((الغرر الواضحة)) لما وقع الطاعون بالكوفة وعبد الرحمن بن أبي ليلى على حمار لطلب النجاة فسمع منشداً:
لن يسبق الله على حمار
الأبيات،((فرجع إلى الكوفة ففيه تفسير ما أبهمه الأصمعي)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: وهذا عادة كل أهل القرى والبراري إذا دخلوا أي مدينة كانت يضجرون من الإقامة بها)).
[3] في هامش المخطوط: ((أقول: وقيل إنه دخلها بعد العشرين وثمانمائة في زماننا)).
[4] في هامش المخطوط: ((أقول: يتعين أن يكون الثاني لأن أبا سفيان منهم، وهو من مسلمة الفتح لا من مهاجرة سنة الفتح فليعلم ذلك)).
[5] في هامش المخطوط: ((أقول: قال ابن كثير في سنة خمس وستين وقيل سنة أربع وستين وقيل سنة تسع وستين وهو أشهر)).