مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب السحر، وقول الله تعالى {ولكن الشياطين كفروا}

          ░47▒ باب السحر
          وقول الله تعالى: {وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ} [البقرة:102] إلى آخره.
          قوله: (تسحرون): يعمون.
          قلت: وحكى الثعلبي: (فأنى تسحرون): تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته.
          وقال ابن عطية: السحر هنا مستعار، وهو تشبيه لما وقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال عن مواضعها ما يقع من المسحور، عبر عنه بذلك.
          وقال فرقة: (تسحرون) تمنعون.
          ثم ساق حديث عيسى بن يونس.. الحديث بطوله.
          ثم قال: تابعه أبو أسامة.. إلى آخره.
          وذكر الدارقطني في ((علله)) من هذه المتابعات متابعة الليث وابن عيينة وأبي أسامة وأبي ضمرة، وأسند (خ) متابعة أبي أسامة قريباً في باب السحر أيضاً عن عبيد بن إسماعيل عنه، وأبي ضمرة عن / إبراهيم بن المثنى عنه، وابن عيينة عن عبد الله بن محمد. الحديث سلف في الجهاد.
          ثم السحر له حقيقة عندنا وعند مالك وأبي حنيفة، وقد يمرض من يفعل به ويموت ويتغير عن طبعه خلافاً لمن نفاه وقال إنه تخييل وشعوذة، والحجة عليه هذه الآية؛ لأنه جعلهم كفرة بتعليمه، فثبت أن له حقيقة، فإذا تاب قبلت توبته عندنا، خلافاً لمالك، قال: ولا يستتاب، وإن قال: تبت فلا تقبل منه، قالوا: لأنه مستسر فلم تقبل كالزنديق؛ ولأن علمه به وفعله له كفر عملاً بالآية السالفة، فلا تكفر؛ أي: بتعلمه والآلام الحاصلة بفعل الله، واعتقاد أنه من فعله وأنه قادر عليه كفر. وبقول مالك قال أحمد، وروي قتله عن عمر وعثمان وابن عمر وحذيفة وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين.
          وقال الشافعي: لا يقتل إلا أن يقتل بسحره، وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها: تنكل ولا تقتل.
          وقرأ الحسن وابن عباس: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102]، بكسر اللام.
          والحديث يدل على أنهما من الملائكة، وأبعد من قال: إن ما في (وما أنزل) نافية، وهو مذهب علي بن سليمان، وقال: المعنى: وما أنزل السحر على الملكين، ويكون {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أن يعلما ولم ينزل عليهما، ولا يصح، كما قاله الزجاج؛ لأن ما جاء في الحديث والتفسير في قصة الملكين أشبه.
          وقال غيره: لم يتقدم أحد قال هذا، ولا ما يدل عليه فينفى، والحجة لمن قاله أن تكون الشياطين قالت ذلك.
          قال أبو إسحاق: ومن جعل ما جحداً جعل هاروت وماروت من الشياطين وجمعاً على الجنس، أو لأن التثنية جمع.
          وقال الحسن: هاروت وماروت علجان من أهل بابل.
          وقال علي: الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء. وعلى هذا أكثر اللغويين.
          قوله: زريق بتقديم الزاي على الراء.
          قوله: (شعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته) أي: أجابني فيما دعوته، يسمى الدعاء استفتاء؛ لأن الداعي طالب والمجيب مسعف، فاستعير أحدهما للآخر.
          قوله: (جاءني رجلان) أي: ملكان في صورة رجلين، وظاهره يقتضي أن يكون يقظة، وإن كان مناماً فرؤياه وحي.
          قوله: (في مشط ومشاطة) المشط بضم الميم وكسر الشين المعجمة وضمها ومرجل وقيلم بفتح القاف؛ ذكره الزاهد في ((يواقيته)) والمشط: بيت صغير مشط الذئب، والمشط: سلاميان في ظهر القدم، ومشط الكتف: العظم العريض. فله عدة معان على غير الآلة المعروفة.
          قال القرطبي: ويحتمل أنه ◙ سحر في أحد هؤلاء الأربعة.
          قال ابن سيده في ((محكمه)): والمشط: سمة من سمات البعير تكون في العين والخد والفخذ، والمسبحة: سبحة فيها أسنان وفي وسطها هراوة يقبض ويعطى بها الحب.
          وأما الجف فبجيم مضمومة ثم فاء، وهذا هو المشهور. وقال أبو عمر: روي بالباء الموحدة. قال الهروي: أي: في جوفه. قال: وجف البئر: جوانبها، وهو من أعلاها إلى أسفلها وقال النووي: أكثر نسخ / بلادنا عليه، وفي بعضها بالفاء، وهما بمعنى واحد وهو الغشاء الذي يكون على الطلع(1)، وإذا انشق الجب ظهر، ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيد في الحديث بقوله: ((طلعة ذكر))، بإضافة (طلعة) إلى (ذكر).
          وذكر القرطبي أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع هو الغشاء الذي يكون عليه، وبالباء قال شمر: أراد به داخل الطلعة إذا خرج منها الكذى، يقال: داخل الركية من أسفلها إلى أعلاها جب، وقد قيل فيه: إنه من القطع؛ يعني: ما قطع من شعورها، وعبارة ابن بطال: قال المهلب: الجف: غشاء الطلع. وقال أبو عمرو الشيباني: شيء سفر من جذوع النخل.
          قوله: (في بئر ذروان) كذا في (خ)، وفي بعض نسخه: ((ذي أروان))، وهو ما في (م).
          وقال القتيبي عن الأصمعي: إنه الصواب، وهو واد بالمدينة في بني زريق من الخرزج. وفي الدعوات منه: ذروان في بني زريق. وعند الأصيلي عن أبي زيد: ذي أوان، من غير راء، وهو وهم كما قاله في ((المطالع))، إنما هو ذو أوان موضع آخر على ساعة من المدينة، وبه بني مسجد الضرار.
          وقال ابن التين: ذروان ضبط في بعض الكتب بفتح الراء، وهو الذي قرأته، في بعضها بسكونها، وهو أشبه في العربية؛ لأن حروف العلة إذا تحركت وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً.
          وفي كتاب البكري: هو بئر أروان، بالهمز مكان الذال.
          قال الأصمعي: وبعضهم يخطئ فيقول: ذروان.
          قوله: (كأن ماءها نقاعة الحناء) هو بضم النون ثم قاف. والحناء ممدود جمع حناءة، ونقاعتها حمراء، أخبر ◙ بلون مائها.
          وقال الداودي: هو الماء الذي يكون من غسالة الإناء الذي تعجن فيه الحناء.
          قوله: (كرهت أن أثور على الناس شرا) قيل: إن السحر إذا أخرج تعلمه من لا يتقي الله. وقيل: إن لبيداً منافق، فربما احتمى له قومه إن هو طولب. وقيل: إنه حليف ليهود، وهو ما في (خ)، وللنسائي: رجل من اليهود.
          وقال ابن الجوزي: وهذا يدل على أنه أسلم وهو منافق.
          قال الداودي: وفيه أنه يخشى من السحر إذا استخرج على سائر الناس، وأن دفنه يذهب مضرته.
          قوله: (كأن رءوس نخلها رؤوس الشياطين) يعني: أن السحر عمل في النخل حتى صار أعلاها وأعلا طلعها كأنه رؤوس الشياطين كأنه ذلك وهو الحيات.
          وقال الفراء في الآية فيه من العربية ثلاثة أوجه:
          1- أنه يشبه طلعها في قبحه برؤوس الشياطين؛ لأنها موصوفة بالقبح.
          2- أن العرب تسمي بعض الحيات شيطاناً، وهو معروف قبيح الوجه.
          3- يقال إنه نبت قبيح يسمى بذلك. قال غيره: وهو باليمن يقال له الأشرقان.
          فإن قلت: كيف شبه بها ونحن لم نرها؟
          قلت: على من قال هي نبت أو حيات ظاهر، وعلى الثالث أن المقصود ما وقع عليه التعارف من المعاني، فإذا قيل: فلان شيطان، فقد علم أن المعنى: خبيث قبيح، والعرب إذا قبحت مذكراً شبهته بالشياطين، وإذا قبحت مؤنثاً شبهته بالغول، ولم ترها.
          والشيطان نونه أصلية، ويقال: زائدة.
          قال القرطبي: هذه الأرض التي فيها النخيل والبئر خراب لا تعمر لرداءتها فبئرها معطلة ونخلها مهملة.
          وتغير ماء البئر إما لردائته وطول إقامته وإما لما خالطه ما ألقي فيه.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: طلع الذكر يؤكل إذا كان غضاً أول ما يظهر من قلب النخلة فإذا كبر وحسن تؤبر به الأنثى ولا تنتفع به بوجه من الوجوه، والأنثى طلعها لا يؤكل وإنما يصير بلحاً ثم يرطب)).