مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الفأل

          ░44▒ باب الفأل
          فيه حديث أبي هريرة وقال: ((الكلمة الصالحة)).
          وحديث أنس مرفوعاً: ((لا عدوى ولا طيرة)).
          قال الخطابي: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل مأخوذ من طريق حسن الظن بالله تعالى، والطيرة إنما هي بطريق الاتكال على شيء سواه.
          وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل، فقال: هو أن يكون مريضاً فيسمع: يا سا[لم]، أو يكون غائباً فيسمع: يا واجد.
          قلت: وكان النبي صلعم يسأل عن اسم الأرض والجبل والإنسان(1)، فإن كان حسناً سُر به واستبشر، وإن كان سيئاً ساءه ذلك، وسيأتي هذا في فصل.
          وزعم بعض المعتزلة أن قوله: ((لا طيرة)) يعارض قوله: ((الشؤم في ثلاث))، وهو تعسف وبعد عن العلم، فحديث الطيرة مخصوص بحديث الشؤم، فكأنه قال: لا طيرة إلا في هذه الثلاثة لمن التزم الطيرة، يوضحه حديث زهير بن معاوية، عن عبيد بن حميد، عن عبد الله بن أبي بكر أنه سمع أنساً يقول: قال رسول الله: ((لا طيرة، والطيرة على من تطير، وإن تكن في شيء ففي الدار والمرأة والفرس))، أخرجه ابن حبان في ((صحيحه)).
          فبان بهذا الحديث أن الطيرة إنما يلزم من نظر بها وأنها في بعض الأشياء دون بعض، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يقولون الطيرة في هذه الثلاثة فنهاهم ◙ عن الطيرة فلم ينتهوا فبقيت في الثلاثة التي كانوا يلتزمون التطير فيها ومثله قوله تعالى: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس:18] قال: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19] أي: حظكم من الخير والشر معكم ليس هو من شؤمنا، وقد قال ◙: ((ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق)).
          وفي ((علل الدارقطني)) من حديث أبي ذر مرفوعاً: ((من خرج من بيته ثم رجع من الطيرة رجع كافراً)) وقال: الأشبه وقفه.
          وقد قال ◙: في الدار اتركوها نميمة وإنما قال ذلك لقوم علم منهم أن الطيرة والتشاؤم غلب عليهم وثبت في نفوسهم لأن إزاحة ما يثبت في النفس عسير وليس في قوله: ((دعوها / دهمة)) أمر منه بالنظر كيف.
          وقد قال: ((لا طيرة)) وإنما أمرهم بالتحول عنها لما قد جعل الله في غرائز الناس من استثقال ما نالهم فيه الشر وإن كان لا سبب له في ذلك، وحب من جرى لهم الخير على يديه، وإن لم يردهم به، وكان الشارع يستحب الاسم الحسن والفأل الصالح، وقد جعل الله تعالى في فطرة الناس محبة الكلمة الحسنة والفأل الصالح والأنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبشرى والمنظر الأنيق، وقد يمر الرجل بالماء الصافي فيعجبه وهو لا يشربه وبالروضة المنثورة فتسره وهي لا تنفعه.
          وفي بعض الحديث أنه ◙ كان يعجبه الأترج والفاغية وهي نور الحناء، وهذا مثل إعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن، وعلى حسب هذا كانت كراهيته للاسم القبيح، كبني النار وبني حزن وشبهه، وقد كان كثير من أهل الجاهلية لا يرون الطيرة شيئاً ويمدحون من كذب بها.
          وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير فقال ابن عباس: ما عندها لا خير ولا شر.
          قال ابن الأثير: الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن، وهي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تطير، يقال: تطير طيرة، وتخير خيرة، ولم يجئ من المصادر هكذا غير هذين، وأصل التطير فيما يقال هو التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، ومنه الحديث: ((الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)) كذا جاء مقطوعاً ولم يذكر المستثنى فحذف اختصاراً واعتماداً على فهم السامع.
          وقيل: إن قوله: ((وما منا)) من قول ابن مسعود أدرجه في الحديث. وإنما جعلها من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعاً أو يدفع عنهم خيراً إذا عملوا بموجبه، فكأنهم أشركوه مع الله في ذلك.
          قوله: (ولكن الله يذهبه بالتوكل) معناه: إذا خطر له عارض التطير فتوكل على الله وسلم إليه ولم يعمل بذلك الخاطر لم يؤاخذ به.
          قوله هنا: (الشؤم في ثلاث) وفي رواية: ((إن كان الشؤم في شيء ففي)) كذا مع قوله: ((لا طيرة)) قال ابن الجوزي: غلطت عائشة على من روى هذا الحديث، وقالت: إنما كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في كذا وكذا. وهو رد صريح بخبر رواه ثقات، والصحيح أن المعنى: إن خيف من شيء أن يكون سبباً لما يخاف شره ويتشاءم به فهذه الأشياء، لا على سبيل الذي يظنه أهل الجاهلية من الطيرة والعدوى. وقال الخطابي: لما كان الإنسان لا يستغني عن هذه الأشياء الثلاثة، ولكن لا يسلمن من عارض مكروه فأضيف إليها الشؤم إضافة محل.
          والشؤم مهموز: نقيض اليمن، تقول: ما أشأم الرجل. قال الجوهري: والعامة تقول: ما أشأمه.
          ويسمى كل محذور ومكروه مشؤماً ومشأمة، والشؤمى: الجهة اليسرى، وأصحاب المشأمة: الذين سلك بهم طريق النار؛ لأنها على الشمال. وقيل: لأنهم مشائيم على أنفسهم. وقيل: لأنهم أخذوا كتابهم بشمالهم.
          ونقل ابن التين عن معمر أنه سمع من يقول: شؤم المرأة أن لا تلد، والدابة إذا لم يغز عليها، والدار جار السوء قال: إنه حسن؛ لأنه ◙ نفى الشؤم والطيرة، فقال: ((لا شؤم ولا طيرة)) قال: وقيل: لم يسمع الراوي الحديث، وأوله: ((إن الجاهلية تقول الشؤم في ثلاث)) فحكى ما سمع، وقيل: يكون الشؤم لقوم دون قوم.
          والفأل مهموز، وجمعه: فئول.
          قال الخطابي: وإنما صار خير أنواع هذا الباب لأن مصدره عن نطق وبيان، فكأنه خبر جاءك عن غيب، وأما سنوح / الطير وبروحها فليس فيه شيء من هذا المعنى، وإنما هو تكلف من المتطير، وتعاط لما لا أصل له في نوع علم وبيان؛ إذ ليس للطير والبهائم نطق ولا تمييز يستدل بنطقها على مضمون معانيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل، فلذلك تركت واستؤنس بالفأل. ومعنى سنوحها وبروحها أن الأول: ما ولاك ميامنه، وذلك إذا مر من مياسرك إلى ميامنك، والعرب تتيمن به، وتتشاءم بالسارح؛ لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف إليه. وفي المثل: من لي بالسانح بعد البارح.
          حكى ابن العربي في تأويل قوله: ((لا طيرة)) قولين: هل معناه الإخبار عما تعتقده الجاهلية، أو الإخبار عن حكم الله الثابت في الثلاثة؛ بأن الشؤم فيها عادة أجراها الله تعالى، وقضاء أنفذه يوجده حيث شاء فيها متى شاء.
          قال: والأول ساقط؛ لأن الشارع لم يبعث ليخبر عن الناس ما كانوا يعتقدونه، وإنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعلموه ويعتقدوه.
          روى (ت) صحيحاً عن أنس أنه ◙ كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا نجيح، يا راشد. وهذا من التفاؤل.
          ولأبي داود عن بريدة أنه ◙ كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث غلاماً سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها، فإن أعجبه فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رئي كراهة ذلك في وجهه.
          وفي رواية: ((من عرض له من هذه الطيرة شيء، فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).
          وروى قاسم بن أصبغ أن بريدة لما رآه رسول الله وهو قاصد المدينة، قال: ((ما اسمك))؟ قال: بريدة. فالتفت إلى أبي بكر، فقال: ((برد أمرنا وصلح)) فقال: ممن، قال: من أسلم، فقال لأبي بكر: ((سلمنا))، ثم قال: ((ممن؟)) قال: من بني سهم، فقال: ((أخرج سهمنا)).
          وروى ابن صاعد في ((مناسكه)) عن أبي حدرد أن رسول الله قال يوم الحديبية: ((من يسوق إبلنا؟)) فقال رجل: أنا. قال: ((ما اسمك؟)) قال: فلان. قال: ((اجلس)) فقام آخر، فقال: ((ما اسمك؟)) قال: ناجية. قال: ((سقها)).
          وعند الزمخشري: ((ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تكهن له)).
          وعن أبي هريرة: سمع النبي صلعم كلمة فأعجبته فقال: ((أخذنا فألك من فيك)).
          وعن قبيصة مرفوعاً: ((العيافة والطيرة والطرق من الجبت)).
          وأنشد المبرد في ((كامله)):
لا يعلم المرء ليلاً ما يصبحه                     إلا كواذب مما يخبر الفأل
والفأل والزجر والكهان كلهم                     مُضللون دون الغيب أقفال
          ولما سار عامر بن إسماعيل صاحب السفاح في طلب مروان بن محمد اعترضه بالفيوم ناس، فسأل رجلاً منهم عن اسمه فقال: منصور بن سعد من سعد العشيرة. فتبسم تفاؤلاً به، فظفر بمروان في تلك الليلة.
          وقال بشير غلام حرب الراوندي للمنصور يوم قتل أبي مسلم: يا أمير المؤمنين، رأيت اليوم ثلاثة أشياء تطيرت لأبي مسلم منها. قال: وما ذاك؟ قال: ركب فوقعت قلنسوته عن رأسه، وكبا به فرسه، وسمعته يقول: إني مقتول وإنما أخادع نفسي، فإذا رجل ينادي في الصحراء: لآخر اليوم آخر الأجل بيني وبينك. فقال المنصور: الله أكبر، ذهب أجله وانقطع من الدنيا أثره فكان كذلك.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: ويؤيد هذا قصة الحديبية لما كان سهيل قال ◙: قد سهل لكم من الأمر الحديث)).