مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: من البيان سحرًا

          ░51▒ باب من البيان سحر
          فيه حديث ابن عمر أنه قال: قدم رجلان من الشرق الحديث.
          وسلف في النكاح، والرجلان: عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر وقد سلفا.
          واختلف في تأويله، فقال قوم من أصحاب مالك: إن هذا الحديث خرج على الذم للبيان، وقالوا: على هذا يدل مذهب مالك واستدلوا في إدخاله هذا الحديث في باب ما يكره من الكلام، وقالوا: إنه ◙ شبه البيان بالسحر، والسحر مذموم محرم قليله وكثيره، وذلك لما في البيان من التفيهق وتصوير الباطل في صورة الحق، وقال ◙: ((أبغضكم / إلي الثرثارون المتفيهقون)).
          وقد فسره عامر بنحو هذا المعنى، وهو راوي الحديث عن رسول الله صلعم، وكذلك فسره صعصعة بن صُوحان وقال: أما قوله ((إن من البيان سحراً))، فالرجل يكون عليه الحق فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق وهو عليه.
          وقال آخرون: هو كلام خرج على مدح البيان، واستدلوا بقوله في الحديث: ((فعجب الناس لبيانهما)) قالوا: والإعجاب لا يقع إلا بما يحسن ويطيب سماعه. قالوا: وتشبيهه بالسحر مدح له؛ لأن معنى السحر: الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك، وكان ◙ أميز الناس بفصل البلاغة لبلاغته، فأعجبه ذلك القول واستحسنه، فلذلك شبهه بالسحر، قالوا: وقد تكلم رجل في حاجة عند عمر بن عبد العزيز وكان في قضائها مشقة بكلام رقيق موجز، وتأنى لها وتلطف، فقال عمر بن عبد العزيز: هذا السحر الحلال.
          وكان زيد بن إياس يقول للشعبي: يا مبطل الحاجات. يعني: أنه يشغل جلساءه بحسن حديثه عن حاجتهم.
          وأحسن ما يقال في ذلك: أن هذا الحديث ليس بذم للبيان كله ولا بمدح للبيان كله، ألا ترى قوله: ((إن من البيان لسحراً)) ومن للتبعيض، وقد شك المحدث إن كان قال: ((إن من البيان)) أو ((إن من بعض البيان)) وكيف يذم البيان كله وقد عدد الله به النعمة على عباده فقال: {خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4] ولا يجوز أن يعدد على عباده إلا ما فيه عظيم النعمة عليهم، وما ينبغي إدامة شكره عليه، فإذا ثبت أن بعض البيان هو المذموم، وهو الذي خرج عليه لفظ الحديث، وذلك الاحتجاج للشيء الواحد مرة بالفضل ومرة بالنقص، وتزيينه مرة وعيبه أخرى.
          ثبت أن ما جاء به من البيان مزيناً للحق ومساءله فهو ممدوح، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: هذا هو السحر الحلال، ومعنى ذلك أنه يعمل في استمالة النفوس ما يعمل السحر من استوائها، فهو سحر على معنى التشبيه لا أنه السحر الذي هو الباطل الحرام.
          وقال ابن التين: الفصاحة حسنة، وهي منحة من الله تعالى، قال ◙: ((أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)).
          قال والدي ⌂:
          (باب السحر) وهو أمر خارق للعادة صادر عن نفس شريرة لا تتعذر معارضته، وأنكر قوم حقيقته وأضافوا ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقيقة لها. وقال أكثر الأمم من العرب، والروم، والهند، والعجم بأنه ثابت وحقيقته موجودة وله تأثير، والاستحالة في العقل في أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام ونحوه على وجه لا يعرفه كل أحد، وأراد (خ) إثباته، ولهذا أكثر في الاستدلال عليه بالآيات الدالة عليه والحديث صريح في المقصود، وفي أنه ممرض حيث قال شفاني الله.
          فإن قلت: إذا جاز خرق العادة على يد الساحر فبماذا يتميز عن النبي؟ قلت: بالتحدي وتعذر المعارضة أو بأن السحر لا يظهر إلا على يد الفاسق، أو بأنه يحتاج إلى الآلات والأسباب، والمعجزة لا تحتاج إليها.
          قوله: (عيسى بن يونس) ابن أبي إسحاق السبيعي و(زريق) بضم الزاي وفتح الراء وسكون التحتانية وبالقاف و(لبيد) بفتح اللام وكسر الموحدة وبالمهملة ابن الأعصم بالمهملتين و(يخيل) بلفظ مجهول مضارع التخييل و(يفعل) أي يباشر النساء و(ذات يوم) بالرفع، وفي بعضها: بالنصب / ولفظ ذات مقحم للتأكيد. قال الزمخشري: هو من باب إضافة المسمى إلى اسمه.
          قوله: (لكنه) فإن قلت: هو للاستدراك فما المستدرك منه؟ قلت: أما وهو عندي، أي كان عندي لكن لم يكن مشتغلاً بي بل بالدعاء، وأما كان يخيل إليه أنه يفعل؛ أي: كان التخيل في الفعل لا في القول والعلم إذ كان دعاؤه وفهمه على الوضع الصحيح والقانون المستقيم.
          قوله: (مطبوب) أي: مسحور، وقيل: الطب من الأضداد و(المشط) فيه لغات ضم الميم وإسكان الشين وضمها وكسر الميم بإسكانها و(المشاطة) ما يخرج من الشعر بالمشط و(المشاقة) بالضم وخفة المعجمة والقاف، ما يغزل من الكتان و(الجف) بضم الجيم وشدة الفاء، وعاء طلع النخل وهو الغشاء الذي يكون عليه ويطلق على الذكر والأنثى، ولهذا قيده بقوله ذكرٍ، وفي بعضها: جب بالموحدة بدل الفاء وهما بمعنى واحد، وأما التاء في طلعة ونخلة فللفرق بين الجنس ومفرده كتمرة وتمر.
          قوله: (ذروان) بفتح المعجمة وسكون الراء وبالواو والنون، وفي بعضها: ذي أروان. بفتح الهمزة وإسكان الراء، وهي بئر بالمدينة في بستان بني زريق و(الحناء) بالمد و(النقاعة) بضم النون وخفة القاف، وفي بعضها: بالتشديد وبالمهملة، الماء الذي ينقع فيه الحناء.
          قوله: (كان رؤوس نخلها) في كونها وحشة المنظر سمجة الأشكال، وهو مثل في استقباح الصورة.
          قوله: (شرا) مثل تعلم المنافقين السحر من ذلك ويؤذون المسلمين به، وهذا من باب ترك مفسدة لخوف مفسدة أعظم منها.
          قوله: (أبو أسامة) هو حماد بن أسامة و(أبو ضمرة) بفتح المعجمة وإسكان الميم وبالراء أنس بن عياض بالمهملة وخفة التحتانية وبالمعجمة الليثي المدني و(ابن أبي الزناد) بكسر الزاي وبالنون، عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان مفتي بغداد و(ابن عيينة) سفيان.
          قوله: (الموبقات) أي: المهلكات، وثبت في الصحيح: اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات. فهذا الذي في الكتاب مختصر من مطول، ولهذا ذكر الاثنتين فقط، هو من قبيل قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:97].
          قوله: (سليمان) أي: ابن بلال و(ثور) بلفظ الحيوان المعروف ابن زيد الديلي المدني و(أبو الغيث) بفتح المعجمة وإسكان التحتانية وبالمثلثة، سالم مولى عبد الله بن مطيع.
          فإن قلت: الموبقات جمع وأقله ثلاثة على الأصح، ولم يذكر إلا الشرك والسحر؟ قلت: هو مختصر من الحديث الثابت المذكور آنفاً.
          وفيه دلالة على أن السحر من الكبائر، وحجة على من قال: الكبيرة معصية موجبة للحد.
          قوله: (طب) أي: سحر و(يؤخذ) بالمعجمتين من التفعيل أي: يحبس الرجل عن مباشرة المرأة وهذا هو المشهور بعقد الرجل. الجوهري: الأخذة بالضم الرقية كالسحر أو خرزة تأخذ بها النساء الرجال من التأخيذ(1)، وقال (التنشير) من النشرة، بضم النون وسكون المعجمة وهي كالتعويذ والرقية، يعالج به المجنون ينشر عنه تنشيراً، وكلمة (أو) تحتمل أن تكون شكا وأن تكون نوعاً شبيهاً باللف والنشر بأن يكون الكل في مقابلة الطب، والتنشير / في مقابلة التأخيذ.
          قال ابن بطال: هل يسأل الساحر عن حل السحر عن المسحور، فقال الحسن البصري: لا يجوز إتيان الساحر مطلقاً، وقال ابن المسيب وغيره: ذلك فيما إذا أتاه وسأل منه أن يضر من لا يحل ضرره. وأما الإتيان للحل فهو نفع له، وقد أذن الله لذوي العلل في المعالجة سواء كان المعالج ساحراً أم لا.
          قال: وفي كتب وهب بن منبه أن الحل ويسمى النشرة أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي وذوات قل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.
          قوله: (ابن عيينة) سفيان و(ابن جريج) بضم الجيم الأولى عبد الملك و(الراعوفة) بالراء والمهملة والفاء، حجر في أسفل البئر وقيل في أعلا البئر يقوم عليه المستسقي.
          قوله: (أفلا تنشرت) وفي بعضها أفلا أي: تنشرت بزيادة كلمة التفسير وفي بعضها أفلا أتي بنشره بلفظ مجهول ماضي الإتيان، ولفظ النشرة بضم النون وسكون المعجمة وهي الرقية التي بها تحل عقد الرجل عن مباشرة الأهل.
          وهذا يدل على جواز النشرة وأنها كانت مشهورة عندهم، ومعناها اللغوي ظاهر فيها وهو نشر ما طوى الساحر وتفريق ما جمعه، والمراد من الناس إما مطلق أو مقيد بلبيد بن الأعصم، إذ لما كان ظاهر الإسلام؛ لأنه كان منافقاً لم يرد صلعم إثارة الإيذاء عليه.
          قوله: (عبيد) مصغر ضد الحر و(يخيل إليه) أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القديمة عليهن فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يتمكن من ذلك، وقيل: كان يخيل إليه، ولكن لم يكن يعتقد صحة ما يتخيله قيل: كان السحر جارياً على جسده وجوارحه لا على عقله وقلبه، فيتخيل بالبصر لا بالبصيرة وليس فيه قدح فيما يتعلق بالنبوة حاشاه من ذلك ومر في كتاب بدء الخلق في باب صفة إبليس(2).
          وقال بعضهم: قيل: تجويز مثله يمنع الثقة بالشرع قلنا: هو معصوم بالمعجزات عما يتعلق بالتبليغ وأما في غيره مما يتعلق بأمور الدنيا فلا يبعد أن يخيل إليه منه ما لا حقيقة له ولا نقص له بذلك.
          الخطابي: قيل لو جاز أن يكون للسحر في الأنبياء تأثير لم يؤمن أن يؤثر ذلك في الوحي والجواب أن الأنبياء بشر جاز عليهم من العلل والأعراض ما جاز على غيرهم وليس تأثير السحر فيهم بأكثر من القتل والسم وقد قتل زكريا ويحيى وأمثالهم ولم يكن ذلك دافعاً لفضيلتهم وإنما هو ابتلاء من الله تعالى وأما ما يتعلق بالنبوة فقد عصمه الله من أن يلحقه الفساد، وإنما كان يتخيل إليه أن يفعل الشيء ولا يفعله في أمر النساء خصوصاً إذا كان قد أخذ عنهن بالسحر لا في غيره فلا نقص فيما أصابه منه على شريعته والحمد لله على ذلك.
          قوله: (لا) فإن قلت: المفهوم من الحديث الأول أنه ما استخرجه حيث قال أفلا استخرجته ومن الثاني أنه استخرجه حيث قال فاستخرج، ومن الثالث أنه لم يستخرجه إذ قال لا قلت المراد من الاستخراج هو الاستخراج عن موضعه، ومن عدم الاستخراج عدم التنشير، ولهذا قال: أفلا تنشرت أو عدم الاستخراج من البئر.
          قال ابن بطال: مدار هذا الحديث على هشام بن عروة وأصحابه / مختلفون في الاستخراج فعيسى ابن يونس لم يذكر أنه صلعم جاوب عائشة على الاستخراج بشيء وحقق أبو أسامة جوابه بالنفي.
          و(أبو سفيان) فهو نقل السؤال إلى التنشير والوهم على أبي أسامة في أنه لم يستخرجه ويشهد لذلك أنه لم يذكر النشرة في حديثه فوهم، فحمل رد جوابه صلعم على الاستخراج فالزيادة من سفيان مقبولة لا سيما وهو أضبط حيث حقق الاستخراج وذكر النشرة.
          قال: وفيه وجه آخر يحتمل أن يحكم بالاستخراج لسفيان ولأبي أسامة بعدم استخراج صورة ما في الجف من المشط وما ربط به لئلا يراه الناس فيتكلموا به إن أرادوا استعمال السحر فهو مستخرج من البئر غير مستخرج من الجف.
          قوله: (رجلان) اسم أحدهما الزبرقان بالزاي وبالموحدة والراء والقاف واسم الآخر عمرو و(من المشرق) أي من نجد.
          قوله: (لسحر) أي هو تشبيه بالسحر في خلب العقول من حيث أنهما خارقان للعادة.
          وقال المالكية: هذا الحديث خرج على الذم للبيان لا على المدح؛ لأنه شبه بالسحر والسحر مذموم مر الحديث في النكاح في باب الخطبة.
          الزركشي:
          (تسحرون: تعمون) بضم أوله وإسكان ثانيه وفتح ثالثه، ومنهم من يفتح ثانيه ويشدد ثالثه، والذي حكاه الثعلبي: ((يسحرون)) أي: يخدعون ويصرفون عن طاعته وتوحيده.
          (مطبوب) مسحور كنوا به كما كنوا بالسليم عن اللديغ.
          (فكرهت أن أثور) بفتح المثلثة وتشديد الواو المكسورة.
          (والمشاقة) مشاقة الكتان، كذا قاله (خ)، وقال غيره: إنما هي بمعنى المشاطة، والقاف تبدل من الطاء.
          (اجتنبوا الموبقات: الشرك) يجوز نصب الشرك ورفعه، وكذا ما بعده، فالرفع على خبر مبتدأ مضمر؛ أي: منهن، والنصب على البدل، وتقديره: واجتنبوهما، وجاز الحذف لأن الموبقات سبع ثبتت في حديث آخر واقتصر منها على ثنتين تأكيداً لأمرهما.
          (يؤخذ عنها) بتشديد الخاء المعجمة؛ أي: يحبس عنها حتى لا يصل إلى جماعها.
          (والأخذة) بضم الهمزة: رقية الساحر.
          (أويحل عنه) بضم الياء وفتح الحاء.
          (أو ينشر) بتشديد الشين من النشرة بالضم، ونصيفه، وهي ضرب من الرقى والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسًّا من الجن، سميت به لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء؛ أي: يكشف ويزال.
          (حليف ليهود، كان منافقاً) هذه الرواية تدل على أن قوله فيما سبق: ((اليهودي)) إنها نسبه بالحلف، وقال أبو الفرج: هذا يدل على أنه كان قد أسلم نفاقاً.
          (تحت راعوفة) هة صخرة تترك في أصل البئر عند حفرة ثابتة ليجلس عليها مستقيه أو الماتح متى احتاج، وقيل: حجر على رأس البئر يستقى عليه، وفي بعض روايات (خ): ((رعوفة)) بغير ألف، وروي بالثاء المثلثة والمشهور الفاء.
          (هلا تنشرت) يحتمل أن يكون من النشرة، وهي معالجة السحر بنوع من الرقى، ويمكن أن يكون من النشر، ومعناه: الإخراج، أي: استخرجت الدفين ليراه الناس، فكره النبي صلعم لما في إظهاره من الفتنة.
          أقول:
          قوله: (مشاطة) هي الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط.
          و(جف) الجف والجب وعاء الطلع وهو الغشاء الذي يكون فوقه ويروى الجب بالباء.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن قلت: هل يجوز أن يتعلم الإنسان من السحر ما يدفع به ضرر السحر ويعلم أنه سحر قاتل أم لا وينفع بذلك المسلمين المسحورين؟ قلت: ظاهر الآية دال أنه لا يجوز تعلم ما يضر وما يفرق به بين المرء وزوجه.
فإن قلت: فكيف يعلم أن.....)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن قلت: قال تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وقد أثر السحر فيه ومنعه عن إتيان نسائه وحصل له الضرر في يديه وتخيله، قلت: المراد من العصمة القتل فإنه قد شج وكسرت رباعيته)).