مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الجذام

          ░19▒ باب الجذام
          وقال عفان: ثنا سليم بن حيان.. إلى آخره.
          هذا تعليق صحيح، وعفان شيخه، وأخرجه أبو نعيم من حديث عمرو بن مورق، ومن حديث وعلة بن وثاب، عن محمد بن علي، عن ابن عباس مرفوعاً: ((فروا من المجذوم كما تفرون من الأسد))، وفي رواية: ((لا تديموا النظر إلى المجذومين)).
          ولابن حبان من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول الله: ((إنا قد بايعناك فارجع)).
          ولأبي نعيم من حديث الحسن بن عمارة، عن أبيه، عن ابن أبي أوفى أنه ◙ قال: ((كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين)).
          ولابن ماجه من حديث فاطمة بنت الحسين، عن ابن عباس مرفوعاً: ((لا تديموا النظر إلى المجذوم)).
          فإن قلت: كيف نعمل بحديث (د) عن جابر أنه ◙ أخذ بيد مجذوم فأدخله معه في القصعة ثم قال: ((كل بسم الله وثقة بالله وتوكلاً عليه)).
          قال (ت) فيه: غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد، عن المفضل بن فضالة، والمفضل هذا شيخ مصري والمفضل بن فضالة شيخ آخر مصري أوثق من هذا وأشهر، وروى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد، عن ابن بريدة أن عمر أخذ بيد مجذوم، وحديث شعبة أشبه عندي وأصح.
          وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي الزناد أن عمر قال لمعيقيب: ادنه، فلو كان غيرك ما قعد مني إلا قيد الرمح، وكان مجذوماً.
          قلت: وهو المجذوم المذكور في حديث جابر، نبه عليه ابن بشكوال عن أبي مسلم صالح بن أحمد بن صالح عن أبيه: لم ينبذ أحد من الصحابة إلا هذا كان به الجذام، وأنس به وضح.
          قلت: وقيل إنه عالجه عمر بالحنظل حتى برئ، وهو الذي سقط من يده خاتم رسول الله ببئر أريس زمن عثمان.
          وقال المحب في ((أحكامه)): لم يكن في الصحابة أحد مجذوم غيره.
          وروى محمد بن عبد السلام الخشني بإسناد صحيح إلى ابن بريدة قال: كان سلمان يصنع الطعام الخبز واللحم من عطائه، ويقعد مع المجذومين.
          قلت: لا معارضة؛ لأمور:
          1- تقديم الأول؛ لصحتها.
          2- أن أخذه بيده وقوله: ((كل بسم الله)) ليس فيه أنه أكل معه، وإنما أذن له ولم يأكل هو؛ ذكره الكلاباذي.
          3- أراد تعلم أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن الله يجعل مخالطة المريض بها للصحيح سبباً لإدامة مرضه، ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب، ففي الحديث الأول نفي ما كان يعتقده الجاهل من أن ذلك يعدي بطبعه، ولهذا قال: ((فمن أعدى الأول))؟! وفي قوله: ((فر من المجذوم)) أعلم أن الله جعل ذلك سبباً لذلك، فحذر من الضرر الذي يغلب وجوده عند وجوده بفعل الله، أو يكون قائله لمن ضعفت منته، والثاني قاله من قويت منته وزاد يقينه، فيخاطب كل إنسان بما يليق بحاله، وهو يفعل الحالتين تارة معاً بما فيه من التسوية والتشريع وتارة بما يغلب عليه من القوة الإلهية.
          وقد ذكر ابن أبي شيبة ما يؤيد ما ذكرناه / وهو قوله: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن مسلم، عن الوليد بن عبد الله أن نبي الله مر على مجذوم، فخمر أنفه، فقيل: يا رسول الله، أليس قلت: ((لا عدوى ولا طيرة))؟ قال: ((بلى)).
          وقال أبو بكر بن الطيب: زعم الجاحظ عن النظام أن قوله: ((فر من المجذوم)) معارض قوله: ((لا عدوى))، وهذا جهل وتعسف من قائله؛ لأن قوله: ((لا عدوى)) مخصوص، ويراد به شيء دون شيء، وإن كان الكلام ظاهره العموم، فليس ينكر أن يخص العموم بقول آخر له أو استثناء، فيكون قوله: ((لا عدوى)) المراد به: إلا من الجذام والبرص والجرب، فكأنه قال: لا عدوى إلا ما كنت بينته لكم أن فيه عدوى وطيرة، فلا تناقض في هذا إذا رتبت الأخبار على ما وصفناه.
          وقال الطبري: اختلف السلف في صحة هذا الحديث، فأنكر بعضهم أن يكون ◙ أمر بالبعد من ذي عاهة، جذاماً كان أو غيره، وقالوا: قد أكل مع مجذوم وأقعده معه، وفعله أصحابه المهديون.
          وعن عكرمة أنه تنحى من مجذوم، فقال له ابن عباس: لعله خير مني ومنك.
          وعن عائشة أن امرأة سألتها: أكان رسول الله قال في المجذومين: فروا منه فرارك من الأسد؟ فقالت عائشة: كلا والله، ولكنه قال: ((لا عدوى)) وقال: ((فمن أعدى الأول))؟ وكان مولى لي أصابه ذلك الداء فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي.
          قالوا: وقد أبطل الشارع العدوى، ثم ذكر حديث جابر السالف.
          وقال آخرون بتصحيح هذا الخبر وقالوا: أمره بالفرار منه واتقاء مؤاكلته ومشاربته، فغير جائز لمن علم أمره بذلك إلا الفرار من المجذوم، وغير جائز إدامة النظر إليهم؛ لنهيه عن ذلك. رد لمن قال ذلك.
          والصواب عندنا ما صح به الخبر عنه أنه قال: ((لا عدوى))، وأنه لا يصيب نفسا إلا ما كتب عليها، فأما دنو عليل من صحيح فإنه غير موجب للصحيح علة وسقماً، غير أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو من صاحب الجذام والعاهة التي يكرهها الناس، لا أن ذلك حرام، ولكن حذار أن يظن الصحيح أنه إذا نزل به ذلك الداء يوماً إنما أصابه لدنوه منه فيوجب له ذلك الدخول فيما نهى عنه ◙ وأبطله من أمر الجاهلية في العدوى، وليس في أمره بالفرار من المجذوم خلاف لأكله معه؛ لأنه كان يأمر بالأمر على وجه الإلزام أحيانا، وعلى وجه الإباحة أخرى، ثم يترك فعله؛ ليعلم بذلك أن أمره به لم يكن على وجه الإلزام، وكان ينهى عن الشيء على وجه الكراهة والتنزيه أحياناً، وعلى وجه التأديب أخرى ثم يفعله؛ ليعلم به ذلك أن نهيه لم يكن على وجه التحريم.
          وقال غيره: قال بعض العلماء: هذا الحديث على أنه يفرق بين المجذوم وبين امرأته إذا حدث ذلك به وهي عنده لموضع الضرر، إلا أن ترضى بمقامها عنده.
          قال: ويمنع أيضاً من المسجد والدخول بين الناس والاختلاط بهم، كما روي عن عمر أنه مر بامرأة مجذومة تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمة الله، اقعدي في بيتك ولا تؤذي الناس.
          وقال مطرف وابن الماجشون في الجذمى إذا كانوا يسيراً لا يخرجون عن قرية ولا حاضرة ولا السوق، وإن كثروا رأينا أن يتخذوا لأنفسهم موضعاً كما صنع مرضى مكة / عند التنعيم منزلتهم وفيه جماعتهم، ولا أرى أن يمنعوا من الأسواق لتجارتهم وللنظر والمسألة إذا لم يكن إمام عدل يرزقهم، ولا يمنعوا من الجمعة، ويمنعوا من غيرها.
          قال ابن حبيب: والحكم بتنحيتهم إذا كثروا أعجب إلي، وهو الذي عليه الناس.
          زعم ابن سيده أن الجذام سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها، ورجل أجذم ومجذم: نزل به الجذام(1).
          وعند الأطباء: هي علة تحدث من انتشار السوداء في جميع البدن فتفسد مزاج الأعضاء وهيئاتها، وربما تقرح وهي كسرطان عام للبدن، وسببه شدة حرارة الكبد ويبوستها أو البدن كله، وتعين على انسداد المسام فينحبس الحار الغريزي ويبرد الدم ويغلظ، ويسمى: داء الأسد؛ لأنه يجهم وجه صاحبه ويجعل سجيته كسجية الأسد.
          وزعم عيسى بن دينار أن قوله: ((لا عدوى)) ناسخ لقوله: ((لا يورد ممرض على مصح)) كما ذكره بعد من حديث أبي هريرة، وأنكر أبو هريرة حديثه الأول، قلنا: ألم تحدث أنه لا عدوى، فرطن بالحبشية. قال أبو سلمة: فما رأيته نسي حديثاً غيره.
          وقيل: إنما نهى المصح أن يجعل ماشيته مع المريضة لئلا يصيبها داء فيكذب الحدث فيأثم؛ قاله سحنون وأبو عبيد، ودليله قوله: ((فمن أعدى الأول؟)).
          ومعنى: ((لا عدوى)): نفي لما كانت العرب في الجاهلية تقول: إن المرض يعدي، ويتحول منه إلى الصحيح، وأن دواءه أن يكوى الصحيح فيبرأ المجروب، وكذبهم بقوله: ((لا عدوى)).
          وقيل: المراد به بعض الأدواء والعاهات كالطاعون يقع ببلد فيهرب منه خوفاً من العدوى خلاف الجذام فإنه تشتد رائحته وتؤذي.
          وقال الداودي: يريد النهي عن الاعتداء، ولعل بعض من أجلب على إبله إبلاً جرباً أراد تضمين المحل، فاحتج عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما أصابها ما قدر لها وما لم يكن ينجو منه؛ لأن العجماء جبار.
          ويحتمل أن يكون قال ذلك على ظنه ثم تبين له خلاف ذلك.
          قوله: (ولا هامة) قال أبو عبيد: يقول: عظام الموتى فتصير هامة فتطير، وكانوا يسمون ذلك الطائر: الصدى.
          وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بالهامة إذا وقفت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحد من أهل داري. وقاله مالك أيضاً.
          وقال القزاز: هي طائر من طير الليل. وإنما نفى ◙ قولهم في الجاهلية: إذا قتل أحد ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة لا تزال تقول: اسقوني، حتى يؤخذ بثأره. وقاله الجوهري وابن فارس.
          قال أبو عبد الملك: قال أبو زيد: الهامة مشددة، وأهل اللغة على خلاف هذا، بل هو عندهم مخفف.
          قوله: (ولا صفر) قال (خ): هو داء يأخذ البطن، قال ابن وهب ومطرف: كان الجاهلية يقولون: الصفا التي في الجوف تقتل صاحبها، فرد ◙ ذلك بقوله: ((ولا صفر)) يعني: أنه لا يعدي ولا يقتل أحداً، وإنما يموت بأجله، وهذا اختيار ابن حبيب / وأبي عبيد.
          وقال مالك وغيره: كانوا يجعلون المحرم صفراً ويستحلونه، وهو النسيء. وقيل: هي حيات تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وكانوا يقولون: هي أعداء من الجر[ب]، فنهى الشارع عن ذلك.
          قوله: (وفر من المجذوم) هو مثل: ((لا يوردن ممرض على مصح)) ووجه فراره منه أنه يؤذي برائحته، وربما نزع الولد إليه، ولذلك جعل به الخيار بالنسبة إلى النكاح.
          وقيل: إنما أمره به؛ لأنه إذا رآه صحيح البدن عظمت حسرته ونسي نعمة ربه، فأمر أن يفر منه لئلا يكون سبباً للزيادة في محنة أخيه وبلائه.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: عليه العمل في غالب البلاد خلا مصر، فإن الجذمى مخالطين الناس في جميع أحوالهم، نسأل الله العافية)).