مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الدواء بالعسل

          ░4▒ باب الدواء بالعسل
          وقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} [النحل:69].
          ثم ساق فيه حديث عائشة كان ◙ يعجبه الحلواء والعسل.
          واختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ}، فقال بعضهم: على القرآن وهو قول مجاهد وقال آخرون: العسل. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وهو قول الحسن وقتادة، وهو أولى بدليل حديثي الباب.
          وقال قتادة في حديث أبي سعيد: ((صدق القرآن وكذب بطن أخيك)) وفي (خ) عن قتادة: ((صدق الله)). وقال بعضهم المعنى: فيه شفاء لبعض الناس، وتأولوا الآية وحديثي جابر وأبي سعيد على الخصوص، وقالوا: الحجامة وشرب العسل والكي إنما هو شفاء لبعض الأمراض دون بعض. ألا ترى قوله: ((أو لذعة بنار توافق الداء)) فشرط ◙ موافقتها للداء فدل هذا أنها إذا لم توافق الداء فلا دواء فيها.
          وقد جاء في القرآن ما لفظه لفظ العموم والمراد به الخصوص كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] / يريد: المؤمنين، كقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179]؛ أي: خلقنا. وقال تعالى في بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] ولم تؤت ملك سليمان، ومثله كثير.
          وقال المازري: هذا الكلام من بديع صناعة الطب، وذلك أن سائر الأمراض الامتلائية إما أن تكون دموية أو صفراوية أو سوداوية أو بلغمية، فالأول: شفاؤه إخراج الدم، والباقي: الإسهال بما يليق بالخلط منها، فكأنه نبه بالعسل على المسهلات وبالحجامة على الفصد ووضع العلق وغيرهما فيأتي معناهما.
          وقد قال بعضهم: الفصد يدخل في قوله: ((شرط محجم))، وإذا أعيا الداء فآخر الطب الكي، فذكره في الأدوية عند غلبة الطباع لقوي الأدوية وأجيب: لا ينفع الدواء المشروب، فيجب أن يقابل ما في كلامه من هذه الأساليب وتعقيبه بقوله: ((لا أحب أن أكتوي)) إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه ولا يؤخذ الشفاء إلا فيه؛ لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي(1).
          ثم أجاب عن شبهه من الحد واعترض، وأن هذا الذي أصابه الإسهال حصل من امتلاء وهيضة فدواؤه تركه والإسهال أو تقويته، فلما أمره ◙ بشرب العسل فزاد منه فزاده فزاد منه إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، فيكون الخلط الذي كان بالرجل يوافق منه شرب العسل.
          والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمن والغذاء المتقدم والتدبير المألوف وقوة الطباع(2). والإسهال يعرض من ضروب كثيرة محلها كتب أهله، منها: الإسهال الحادث من التخم والهيضات، وهم مجمعون في مثل هذا على أن تترك الطبيعة وفعلها وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية وأما حبسها فضرر عندهم واستعجال مرض.
          ولسنا نستظهر على قول رسول الله بأن تصدقه الأطباء؛ بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم وصدقناه حتى يوجدوا المشاهدة لصحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلامه وتخريجه على ما يصح، وكذا القول في الماء للمحموم، فإنهم قالوا عنه ما لم يقل، وهو لم يقل أكثر من قوله: ((أبردوها بالماء)) ولم يبين الصفة والحالة فمن أين لهم أنه أراد الانغماس؟ قلت: قد ذكر الانغماس عدة أيام في جرية الماء، والحديث إسناده جيد والأطباء مسلمون أن الحمى الصفراوية قدم صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرد، ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فغير بعيد أن يكون ◙ أراد هذا النوع من الحمى، فلا يبقى للملحد إلا أن يتقول الكذب ويعارض كذبه بنفسه، وهذا مما لا يلتفت إليه.
          وقال ابن بطال: قوله ((صدق الله وكذب بطن أخيك)) يدل أن الكلام لا يحمل على ظاهره، ولو حمل على ظاهره لبرئ المريض عند أول شربة، فلما لم يبرأ دل على أن الألفاظ مفتقرة إلى معرفة معانيها وليست على ظواهرها.
          وقال ابن الجوزي: يجاب عما اعترض على قوله لصاحب الإسهال ((اسقه عسلاً)) من أربعة أوجه:
          1- أنه تأول الآية وهي: {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ}(3) [النحل:69]، ولم يلتفت إلى اختلاف الأمراض.
          2- أنه ما كان يذكره ◙ من الطب على مذاهب العرب وعاداتهم كما في حديث إبراد الحمى بالماء.
          3- أن العسل كان يوافق ذلك الرجل، فقد قال الخطابي: كان استطلاقه من الامتلاء وسوء الهضم.
          قلت: عند أبي نعيم أنه كان هيضة، ومعناهما قريب.
          4- أن يكون أمره بطبخ العسل قبل سقيه وهو / يعقد البلغم.
          وذكر ابن سعد عن علي: إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، فتشتري به عسلاً، فيشربه بماء السماء، فيجمع الله له الهنيء المريء والماء المبارك والشفاء.
          وقال ابن مسعود: عليكم بالشفاء من القرآن والعسل، وقال الربيع بن خثيم: ما للمريض عندي إلا العسل ولا للنفساء إلا التمر.
          وذكر الموفق البغدادي في كتابه ((الأربعين الطبية)) منفعة العسل، فما ذكر أنه يمنع من لسع الهوام ذوات السموم ومن عضة الكلب الكلب ولم يخلق لنا شيء فيه معانيه، ولا أفضل منه ولا مثله وأنفع للمشايخ وأرباب العثالة ومضرته للصفراويين ودفع مضرته بالخل ونحوه، وهو في أكثر الأمراض أنفع من السكر، وقد كان ◙ يشرب كل يوم قدح عسل ممزوجاً بماء على الريق، وهي حكمة عجيبة في حفظ الصحة، ولا يعقلها إلا العالمون.
          وروى أبو نعيم من حديث الزبير بن سعيد الهاشمي بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء)).
          قال الموفق: وقد كان بعد ذلك يفتدي بخبز الشعير مع الملح أو الخل ونحوه، فلا تضره لما يسبق من شربه العسل على الريق، وقد كان يراعي أموراً في حفظه الصحة، منها هذا، ومنها تقليل الغذاء وشرب المنقوعات والتطييب والادهان والاكتحال، فكان يغذي الدماغ بالمسك والقلب، وروح الكبد والقلب بماء العسل، ويقلل الغذاء الأرضي الجسماني وينفذه بالنقيع فما أتقن هذا التدبير وأفضله.
          وأسلفنا كلام ابن بطال في قوله: (صدق الله وكذب بطن أخيك) وذكر الخطابي احتمالين:
          أحدهما: أن يكون أخبر عن غيب أطلعه الله عليه وأعلمه بالوحي أن شفاءه في العسل فكرر عليه الأمر بسقيه ليظهر ما وعد به.
          الثاني: أن يكون قد علم أن ذلك النوع من المرض يشفيه العسل.
          ذكر ابن الأثير في ((جامعه)) عن ابن عمر أنه كان إذا خرجت به قرحة أو شيء لطخ الموضع بالعسل، ويقرأ الآية، وكان يقول: عليكم بالشفاء من القرآن والعسل.
          والعسل يذكر ويؤنث، ذكره أبو حنيفة في ((النبات)) ويجمع عسولاً وأعسلاً وعسلاناً وعسلاً، إذا أردت فرقاً منه وضروباً، وله أسماء فوق المائة منها: المأذي والسلوى والذوب والذواب والشهد والنسيل والنسيلة والطرم وجنى النحل ولعاب النحل وريقه ومجاجه.
          ذكر ابن الجوزي أن النهي عن الكي على خمسة أضرب: كي الصحيح لئلا يسقم كفعل الأعاجم، وكثير من العرب يعظمون أمره على الإطلاق، ويقولون: أنه يحسم الداء، وإذا لم يفعل عطب صاحبه، فالنهي عنه إذا لذلك، ويكون للإباحة لمن طلب الشفاء، ورجاء البرء من فضله عند الكي، فيكون سبباً لا علة.
          وقد يكون نهى عنه في علة علم أن الكي لا ينجع فيها، وقد كان عمران بن حصين به علة الباسور، فيحتمل أن يكون نهاه عن الكي في موضع من البدن لا يؤمن فيه الخطر.
          وكي الجرح إذا نفذ، والعضو إذا قطع، فهذا مأمور به كما يؤمر باتقاء الحر والبرد، وكي لا يدري هل ينجع فيه أم لا كما في الدواء؟ فهذا يخرج المتوكل عن توكله، وعندنا أن ترك التداوي في مثل هذا الحال أفضل.
          وقال ابن التين: هو نهي كراهة لما يخاف أن يتراقى إليه، يدل عليه قوله بعدها: ((وما أحب أن أكتوي))، وحديث: ((لا يكتوون)) محمول على من اتخذه عادة وإلا فقد اكتوى الصحابة، وهم أفضل هذه الأمة.
          قال الخطابي: هذه القسمة / في التداوي منتظمة جملة ما يتداوى به، وذلك أن الحجم يستفرغ الدم، وهو أعظم الأخلاط وأنجحها شفاء عند الحاجة إليه، والعسل مسهل.
          وأما الكي، فإنما هو في الداء العضال، والخلط الباغي الذي لا يقدر على حسم مادته إلا به، وقد وصفه الشارع ثم نهى عنه كراهة لما فيه من الألم الشديد، وقد كوى الشارع سعد بن معاذ على أكحله.
          وقال الداودي: كوى أسعد بن زرارة من الذبحة، وأمر بالكي وقال: إن فيه شفاء.
          قوله: (أو لذعة نار) يقال: لذعته النار لذعاً؛ أي: أحرقته.
          قوله: (إن كان في شيء من أدويتكم أو يكون في شيء من أدويتكم خير ففي كذا).
          قال ابن التين: صوابه: أو يكن؛ لأنه مجزوم بـ(إن)، ولعل هذا قبل أن يعلم أن لكل داء شفاء.
          قوله: (أخي يشتكي بطنه فقال: اسقه عسلاً) قال ابن التين: يجوز أن يكون شكوى أخيه من برد أو فضل بلغم فينفعه العسل، وقيل: لبركة أمره ◙ له، فيكون خاصًّا بذلك الرجل.
          قوله: (فبرأ) هو بفتح الراء ويجوز برئ، ذكرهما ابن التين.
          قال والدي ⌂:
          (كتاب الطب) هو علم يعرف به أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول عنه الصحة لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة.
          قوله: (ما أنزل الله) أي: ما أصاب أحداً بداء إلا قدر له دواء، والمراد بإنزاله: إنزال الملائكة الموكلين بمباشرة مخلوقات الأرض من الداء والدواء.
          فإن قلت: نحن نجد كثيراً من المرضى يداوون ولا يبرؤون؟ قلت: إنما جاء ذلك من الجهل بحقيقة المداواة أو بتشخيص الداء لا لفقد الدواء، والله أعلم.
          قوله: (محمد بن المثنى) ضد المفرد و(أبو أحمد) هو محمد بن عبد الله الزبيري منسوباً إلى مصغر الزبير بالزاي والموحدة والراء و(عمر بن سعيد بن أبي حسين) مصغراً النوفلي و(عطاء بن أبي رباح) بفتح الراء وتخفيف الموحدة وبالمهملة.
          قوله: (بشر) بالوحدة المكسورة (ابن المفضل) بفتح المعجمة الشديدة و(خالد بن ذكوان) بفتح المعجمة وإسكان الكاف وبالنون المدني و(الربيع) مصغر ضد الخريف (بنت معوذ) بفاعل التعويذ بالمهملة والواو والمعجمة (ابن عفراء) مؤنث الأعفر بالمهملة والفاء والراء الأنصارية.
          فإن قلت: الحديث لا يدل إلا على أحد جزأي الترجمة؟ قلت: الجزء الأخير يعلم منه بالقياس.
          قوله: (الحسين) بالتصغير قال الكلاباذي: هو ابن محمد بن زياد بالتحتانية القباني بفتح القاف وتشديد الموحدة وبالنون النيسابوري، كان يلزم (خ) ويهوى هواه لما وقع بنيسابور ما وقع وهو أحد أركان الحديث وحفاظ الدنيا، وقال الحاكم: هو ابن يحيى بن جعفر البيكندي بالموحدة والتحتانية والنون والمهملة.
          و(أحمد بن منيع) بفتح الميم وكسر النون وبالمهملة البغوي بالموحدة والمعجمة والواو و(مروان) و(سالم بن عجلان الأفطس) كلاهما جزريان بالجيم والزاي والراء.
          قوله: (محجم) بكسر الميم الآلة التي يجتمع فيها دم الحجامة عند المص، ويراد به هاهنا الحديدة التي يشرط بها موضع الحجامة يقال شرط الحاجم إذا ضرب على موضع الحجامة لإخراج الدم.
          قوله: (رفع الحديث) أي: رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلعم و(القمي) بضم القاف وشدة الميم، يعقوب بن عبد الله بن سعد منسوباً إلى قم بلد بعراق العجم و(سريج) تصغير: السرج بالمهملة والراء والجيم ابن يونس أبو الحارث البغدادي مات سنة خمس وثلاثين ومائتين.
          وفيه إثبات الطب والتداوي وهذه القسمة تنتظم معظم جملة أنواع التداوي؛ لأن الأمراض الامتلائية دموية، / وصفراوية، وبلغمية، وسوداوية، فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم، وإن كانت من الثلاثة الباقية فشفاؤها بالمسهل اللائق بكل خلط منها فكأنه نبه بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على إخراج الدم، وأما الكي فإنما هو في الداء العضال والخلط الذي لا يقدر على حسم مادته إلا به وآخر الدواء الكي، وقد وصفه صلعم ثم نهى عنه نهي كراهة لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، وقد اعترض بعض الناس فقال: إذا كان الشفاء في الكي فلا معنى للنهي عنه؟ قلت: النهي من أجل أنهم كانوا يرون أنه يحسم الداء ويبرئه، فنهى أمته عنه على ذلك الوجه وأباح استعماله على معنى طلب الشفاء من الله تعالى والترجي للبرء بما يحدث الله من صنيعه أو النهي إذا استعمل على سبيل الاحتراز من حصول المرض، وقبل الاضطرار إليه أو إذا كان ألمه زائداً على ألم المرض مع أنه نهي تنزيه لا ينافي الجواز.
          وقال الصوفية: كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره فلا حاجة إلى التداوي، والجواب: أن التداوي أيضاً بقدر الله وهو كالأمر بالدعاء والنهي عن الإلقاء في التهلكة مع أن الأجل لا يتغير، والمقدورات لا تتقدم ولا تتأخر. قال ابن بطال: فيه رد على المتصوفة الذين قالوا: الولاية لا تتم إلا إذا رضي بما نزل عليه من البليات.
          قوله: (يعجبه) فإن قلت كيف دل على الترجمة؟ قلت: الإعجاب أعم من أن يكون على سبيل الدواء والغذاء.
          و(عبد الرحمن) هو ابن سليمان بن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أي: مغسولهم عند شهادته لجنابة به و(عاصم بن عمر بن قتادة) الأنصاري و(اللذعة) بالمعجمة ثم المهملة من لذعته النار إذا أحرقته و(يوافق الداء) يحتمل تعلقه باللذعة وتعلقه بالأمور الثلاثة.
          قال ابن بطال: قالوا: الحجامة والعسل والكي إنما هو شفاء لبعض الأمراض دون بعض ألا ترى أنه صلعم شرط موافقتها للداء فدل أنها إذا لم توافقه فلا دواء فيها.
          قوله: (وما أحب أن أكتوي) فيه إشارة إلى تأخير العلاج بالكي حتى يضطر لما فيه من استعجال الألم الشديد، وقد كوى رسول الله صلعم أبي بن كعب يوم الأحزاب وسعد بن معاذ(4).
          قوله: (عياش) بفتح المهملة وشدة التحتانية وبالمعجمة ابن الوليد بفتح الواو و(عبد الأعلى) ابن عبد الأعلى و(سعيد) بن أبي عروبة و(قتادة) السدوسي الأكمه و(أبو المتوكل) هو علي الناجي بالنون والجيم الخفيفة والياء الشديدة و(أبو سعيد) الخدري و(صدق الله) أي حيث قال: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} [النحل:69] والعرب تستعمل الكذب بمعنى: الخطأ والفساد فتقول: كذب سمعي: أي: زل ولم يدرك ما سمعه وكذب بطنه حيث ما صلح لقبول الشفاء وزل عن ذلك و(برأ) الحجازيون يقولون برأت من المرض، وغيرهم برئت بالكسر.
          النووي: اعترض بعض الملاحدة فقال: العسل مسهل فكيف يسقي لصاحب الإسهال، وهذا جهل من المعترض وهو كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} [يونس:39] فإن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة، ومنها: الإسهال الحادث من الهيضة، وقد أجمع الأطباء أن علاجه: بأن تترك الطبيعة وفعلها وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت. فيحتمل أن يكون إسهاله من الهيضة فأمره بشرب العسل معاونة إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، فالمعترض جاهل ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء، بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم، وقد يكون ذلك من باب التبرك، ومن دعائه وحسن أثره، ولا يكون ذلك حكماً عامًّا / لكل الناس، وقد يكون ذلك خارقاً للعادة من جملة المعجزات.
          الخطابي: اعلم أن الطب على نوعين الطب القياسي وهو طب يونان الذي يستعمل في أكثر البلاد وطب العرب والهند وهو طب التجارب، وأكثر ما وصفه النبي صلعم إنما هو على مذهب العرب إلا ما خص به من العلم النبوي من طريق الوحي فإن ذلك يخرق كل ما تدركه الأطباء وتعرفه الحكماء وكل ما قاله أو فعله حسن وصواب عصمه الله تعالى أن يقول إلا صدقاً وأن يفعل إلا حقا.
          الزركشي:
          (في شرطة محجم) بكسر الميم؛ أي: استفراغ الدم، وإنما خصه بالذكر؛ لأن غالب إخراجهم الدم بالحجامة، وفي معناها: إخراجه بالفصاد.
          (أو شربة عسل) أي: بأن يدخل في المعجونات المسهلة التي تسهل الأخلاط التي في البدن.
          (أو كية بنار) وفي رواية: ((أو كية نار))، وهو يصلح للدواء الذي لا تقدر على حسم مادته إلا به، انتهى كلام الزركشي.
          أقول:
          قوله: (داء هو العيب) وقد يستعمل الداء بمعنى: الإثم، كما استعمل في العيب وقد نقل الداء من الأجسام إلى المعاني، يقول فيه داء الحسد والبغضاء.
          قوله: (وأنهى أمتي عن الكي) الأحاديث التي جاءت في الكي تضمنت أربع أنواع: أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه ولا تعارض هاهنا بحمد الله، فإن فعله يدل على جوازه وعدم محبته لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة.
          قال القرطبي: قد صح أنه ◙ اكتوى من الجرح الذي أصابه يوم أحد، واكتوى سعد بن معاذ وأبي بن كعب وعمران بن حصين وأسعد بن زرارة فهؤلاء وهؤلاء من السبعين ألفاً.
          أقول:
          هذا فصل يناسب أن يذكر هنا قال الشيخ الإمام أحمد بن أبي القاسم بن خليفة الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة في ((طبقات الأطباء)) قال: قالت الحكماء: أن المطالب نوعان: خير ولذة، وهذان الشيئان إنما يتم حصولهما للإنسان بوجود الصحة؛ لأن اللذة المستفادة من هذه الدنيا، والخير المرجو في الدار الأخرى لا يصل الواصل إليها إلا بدوام صحته وقوة منته(5)، وذلك إنما يتم بالصناعة الطبية؛ لأنها حافظة للصحة الموجودة ورادة للصحة المفقودة، فوجب إذ كانت صناعة الطب من الشرف بهذا المكان أن يكون الاعتناء بها أشد، والرغبة في تحصيل قوانينها الكلية والجزئية آكد وأجد.
          قال الباب الأول في كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها، أقول: إن الكلام في تحقيق هذا المعنى يفسر لوجوه: أحدها: بعد العهد به، فإن كل ما بعد عهده وخصوصاً ما كان من هذا القبيل فإن النظر فيه عسر جدًّا الثاني: أننا لم نجد للقدماء وذوي الآراء الصادقة قولاً واحداً سادًّا في هذا متفقاً عليه فنتبعه. الثالث: أن المتكلمين في هذا لما كانوا فرقاً وكانوا كثيرين الاختلاف جداً بحسب ما وقع إلى كل واحد منهم أشكل التوجه أي أقوالهم هو الحق، وقد ذكر جالينوس في تفسيره لكتاب الإيمان أن البحث فيما بين القدماء عن أول من وجد صناعة الطب لم يكن بحثاً يسيراً ولنبدأ أولاً بإثبات ما ذكره مع ما ألحقناه في جهة الحصر لهذه الآراء المختلفة.
          وذلك أن القول في وجود صناعة الطب ينقسم إلى قسمين أوليين: فقوم: يقولون بقدمه، وقوم يقولون بحدوثه، فالذين يعتقدون حدث الأجسام يقولون أن صناعة الطب محدثة؛ لأن الأجسام التي يستعمل فيها الطب محدثة، والذين يعتقدون القدم يعتقدون في الطب قدمه ويقولون: أن صناعة الطب قديمة.
          وأما أصحاب الحديث فينقسم قولهم إلى قسمين / : فبعضهم يقول أن الطب خلق مع خلق الإنسان، أو كان من أجل الأشياء التي بها صلاح الإنسان، وبعضهم يقول وهم الجمهور أن الطب استخرج بعد.
          وهؤلاء أيضاً ينقسمون قسمين:
          فمنهم من يقول: إن الله ألهم الناس وأصحاب هذا الرأي على ما يقوله جالينوس وأبقراط وجميع أصحاب القياس وشعراء اليونانيين، ومنهم من يقول أن الناس استخرجوها وهؤلاء قوم من أصحاب التجربة وأصحاب الحيل وثاسلس المغالط وفيلّن وهم أيضاً مختلفون في الموضع الذي به استخرجت وبماذا استخرجت فبعضهم يقول أن أهل [مصر] استخرجوها، وبعضهم يقول أن هرمس استخرج سائر الصنائع والفلسفة والطب وبعضهم يقول أن أهل فولولس استخرجوها من الأدوية التي ألقتها القابلة لامرأة الملك فكان به برؤها، وبعضهم يقول أن أهل مورسيا وأفروجيا استخرجوها وذلك أن هؤلاء أول من استخرج الزمر، وكانوا يشفون بتلك الألحان والإيقاعات آلام النفس ويشفي آلام النفس ما يشفى به البدن.
          وبعضهم يقول أن المستخرج لها الحكماء من أهل قو وهي الجزيرة التي كان بها أبقراط وآباؤه، أعني اسقليبيوس وقد ذكر كثير من القدماء أن الطب ظهر في ثلاث جزائر في وسط الإقليم الرابع أحدها: يسمى رودس، والثانية تسمى: قنيدس، والثالثة تسمى قوّ ومن هذه الجزيرة كان أبقراط.
          وبعضهم يرى أن المستخرج لها الكلدانين، وبعضهم يقول أن المستخرج لها السحرة من أهل اليمن، وبعضهم يقول بل السحرة من بابل أو السحرة من فارس، وبعضهم يقول أن المستخرج لها الهند، وبعضهم يقول بل المستخرج لها الصقالبة، وبعضهم يقول أن المستخرج لها أقريطش الذي ينسب الأفتيمون إليهم وبعضهم يقول أهل طور سيناء(6).
          فالذين قالوا إن الطب من الله قال بعضهم: هو إلهام بالرؤيا واحتجوا بأن جماعة رأوا في الأحلام أدوية استعملوها في اليقظة فشفتهم من أمراض صعبة وشفت كل من استعملها، وقال قوم: ألهمها الله الناس بالتجربة ثم زاد الأمر في ذلك وقوي، والذين قالوا: إن الله خلق صناعة الطب احتجوا في ذلك بأن لا يمكن في هذا العالم الجليل أن يستخرجه عقل إنسان وهذا الرأي هو رأي جالينوس.
          وهذا نص ما ذكره في تفسيره لكتاب الإيمان لأبقراط، ووجدت في كتاب الشيخ موفق الدين أسعد بن إلياس بن مطران الذي ببستان الأطباء كلاماً نقله عن أبي جابر المغربي وهو هذا قال: سبب وجود هذه الصناعة وحي وإلهام، والدليل على ذلك أن هذه الصناعة موضوعة للعناية بأشخاص الناس، إما لأن تفيدهم الصحة عند المرض، وإما لأن يحفظ الصحة عليهم ويمتنع أن يعني الصناعة بالأشخاص بذاتها دون أن تكون مقرونة بعلم أمر هذه الأشخاص التي خصت العناية بها.
          ومن البين أن الأشخاص ذوات مبدأ لوقوعها تحت العدد، وكل معدود فأوله واحد يكثر، ولا يجوز أن يكون إشخاص الناس إلى ما لا نهاية؛ لأن خروج ما لا نهاية له إلى الفعل / محال.
          قال ابن المطران: ليس كل ما لا نقدر على حصره فلا نهاية له، بل قد يكون له نهاية ضعف عن حصرها، وليذكر أقساماً في مبدأية هذه الصناعة فأحد الأقسام في ذلك أن قد يكون حصل لهم شيء منها عن الأنبياء والأصفياء بما خصهم الله به من التأييد الإلهي.
          روى ابن عباس عن النبي صلعم أنه قال: ((كان سليمان بن داود إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسمك؟ فإن كانت لعرس عرست وإن كانت لدواء كتبت)).
          وقال قوم من اليهود: إن الله تعالى أنزل على موسى ◙ شفى الأشفية.
          والصابئة تقول أن الشفاء كان يؤخذ من هياكلهم على يد كهانهم وصلحائهم بعضهم بالرؤيا وبعض بالإلهام، ومنهم من قال أنه كان يوجد مكتوباً في الهياكل لا يعلم من كتبه، ومنهم من قال أنه كانت تخرج يد بيضاء مكتوب عليها الطب وقيل عنهم أن شيئاً أظهر الطب وأنه ورثه عن آدم.
          وأما المجوس فإنها تقول أن زرادشت الذي يدعي أنه نبيهم جاء بكتب زعموا أنها جلدت باثني عشر ألف جلد جاموس علوم أربعة آلاف منها طب.
          وأما نبط العراق والسورانيون والكلدانيون والكسدانيون وغيرهم من أصناف النبط القدم فيدعى لهم أنهم مبادئ صناعة الطب وأن هرمس الهرامسة المثلث بالحكمة كان منهم ويعرف علومهم فخرج عنهم إلى مصر وبث في أهلها العلوم والصنائع وبنى الأهرام والبرابي ثم انتقل العلم منهم إلى اليونانيين.
          هذا آخر ما نقلته من طبقات الأطباء ملخصاً، وأن كل ما ذكرته من هذا الفصل من لا معرفة له بهذا الفن فقد ينشط له من له إلمام به والله أعلم.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن قد قال ◙: ((لا يعذب بالنار إلا خالقها)) ولكل تعذيب فكيف دواء وأمر به وكوى به غيره؟ قلت: هذا ليس تعذيباً بل دواء)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: والبلدة أيضاً)).
[3] في هامش المخطوط: ((أقول: ذكر أن بعض العلماء كان كلما أصابه مرض عمد إلى العسل فشربه حتى قيل أنه وضع على دمل حصل له)).
[4] في هامش المخطوط: ((أقول: وأسعد بن زرارة كما سلف فهؤلاء ثلاثة كواهم ◙)).
[5] لعل الصواب: ((بنيته)).
[6] في هامش المخطوط: ((أقول: طور سيناء كلمة سريانية تفسير: طور جبل، وسنيا بتقديم النون على الياء العوسجة، ولما عربت قدمت الياء على النون فقيل طور سيناء أي جبل العوسجة)).