الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم؟

           ░44▒ (باب: ما يستحبُّ للعالم...) إلى آخره
          قال السِّنديُّ: قيل: الظَّرف يعني(1): (إذا سُئِل) متعلِّقٌ بما بعده وليس بسديدٍ، أو يلزم أنَّ الباب موضوعٌ لبيان ما يستحبُّ للعالم مطلقًا وليس كذلك، كيف ولو كان كذلك لكان اللَّازم أنَّ جميع ما يستحبُّ / للعالم هو أن يكل العِلم إلى الله إذا سئل: أيُّ النَّاس أعلم؟ وهذا فاسدٌ، وإنَّما هو موضوعٌ لبيان ما يستحبُّ له حين السُّؤال، فالوجه أنَّ الظَّرف متعلِّقٌ بيستحبُّ، وأمَّا قوله: فيكل جزاء شرطٍ محذوفٍ، حُذف صونًا للكلام عن صورة التَّكرار مع ظهور القرينة، وهذا شائعٌ كثير، ومثل هذه الفاء تسمَّى فاءً فصيحةً، والتَّقدير: إذا سئل أيُّ النَّاس أعلم؟ فيكل العِلم إلى الله، بمعنى: فليَكِل مِنْ وضع الخبر موضع الإنشاء، والجملة الشَّرطيَّة لبيان ما يستحبُّ له حين السُّؤال(2). انتهى.
          وفي «تراجم شيخ الهند»: يعني أنَّه لا يستحبُّ للعالم أن يقول: أنا أعلم إذا سئل أيُّ النَّاس أعلم؟ ولو تحقَّق كونه أعلم النَّاس، بل يستحبُّ أن يجيب بقول: الله أعلم، وهذا الأمر واضحٌ مِنْ حديث الباب، ويظهر مِنْ هذا أنَّ غرض المؤلِّف ☼ أن ينبغي للعلماء أن يتحلَّوا بالتَّواضع دائمًا خصوصًا مِنْ جهة العِلم، فيلاحظوا نقصان أنفسهم وكمال الرَّبِّ ╡، ولمَّا أنَّ أسباب الكِبر والعُجب تكثر فيهم فينبغي لهم الاحتياط الشَّديد. انتهى.
          وكتب الشَّيخ في «اللَّامع»: قوله: (باب: ما يستحبُّ...) إلى آخره، وإن كان يجوز له الحكم بناء على الظَّاهر إلَّا أنَّه اسْتُبْعِدَ مِنْ موسى على نبيِّنا و╕، لكونه أرفع شأنًا مِنْ أن يظنَّ بنفسه شيئًا مِنَ الكمال، وكان فيه فتح باب الكبر والإعجاب سيَّما بني إسرائيل، فإنَّهم فرسان هذا الميدان وحملة ألوية الزَّهو والطُّغيان، وإنَّما بدر موسى إلى مقالته لما علم أنَّ الرَّسول هو صفوة الله مِنْ عباده، ولذلك اختير للإرسال إلى بلاده، وكان مصيبًا في [ظنِّه] ذلك، إلَّا أنَّ ذلك لا يستلزم إلَّا الأعلميَّة(3) في عِلم الأحكام والشَّرائع، مع أنَّ للكريم تبارك وتعالى في خليقته صنائع وبدائع، وكأنَّ(4) الظَّاهر مِنْ قوله: (أنا أعلم) هو الإطلاق، وكونه كذلك في كلِّ نوعٍ مِنَ العلوم، فعوتب على ذلك، فلعلَّ أحدًا أعلمُ منه باعتبار بعض العلوم، وإن كان له الفضل فيما هو أعلى أقسام العلوم، أي: علم الشَّريعة، ثُمَّ إنَّ اتَّباع موسى ◙ له لم يكن إلَّا بأمرٍ منه تبارك وتعالى، فكان الخضر على حقٍّ فيما يصنعه قطعًا، ومع ذلك فلم يمكن لموسى ◙ صبرٌ على ما كان يصنعه، فلا حجَّة لمتصوِّفة زماننا في ترك الاعتراض عليهم فيما يأتوننا مِنَ الأمور المنكرة شرعًا، وذلك لأنَّ خضرًا كان نبيًّا، ولو سُلِّم عدمه لكان في أمره تعالى باتِّباعه كفايةً، فعلم أنَّه مصيبٌ يقينًا، وانتفى اليقين فيما نحن فيه، فلا يجوز لأحدٍ مِنْ أهل العلم السُّكوت على منكرٍ يأتون به، ولا يجوز لهم أن يرتكبوه أيضًا إلَّا أن يكون أحدٌ يخرج عن حيطة الاختيار على نفسه، فيرتفع عنه التَّكليف الشَّرعيُّ التحاقًا بالمجانبين. انتهى.
          قلت: وممَّا ينبغي أن يفتَّش الفرق بين هذه والتَّرجمة الآتية (باب: قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85])، إذ قال شيخ الهند: في غرضها أيضًا التَّواضع.


[1] في (المطبوع): ((أعني)).
[2] قال ابن منظور في «لسان العرب» قال أبو عبيدة معناه أمتحيرون أنتم في الإسلام حتى تأخذوه من اليهود؟ وقال ابن سيده يعني أمتحيرون؟ وقيل معناه أمترددون ساقطون؟ وإنه لمتهوك لما هو فيه أي يركب الذنوب والخطايا, الجوهري التهوك مثل التهور، وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة وغير روية, والتهوك التحير, ابن الأعرابي الأهكاء المتحيرون، وهاكاه إذا استصغر عقله, والمتهوك الذي يقع في كل أمر. لسان العرب10/508
[3] في (المطبوع): ((الأعملية)).
[4] في (المطبوع): ((وكان)).