الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب كتابة العلم

           ░39▒ (باب: كِتَابَةِ الْعِلْمِ)
          وإيراد هذا الباب السَّابق في غاية الحسن، فإنَّه لمَّا حذَّر في الباب السَّابق عن الكذب على النَّبيِّ صلعم، فلعلَّ بعض الهمم متقاصرةٌ(1) عن نقل الأحاديث وإشاعتها مخافة الوقوع في الكذب، فيفوت به المقصود الأعظم وهو التَّبليغ والتَّعليم، وقد نبَّه المصنِّف في الكذب في كثيرٍ مِنْ أبوابه على الاهتمام بالتَّعليم والتَّبليغ والاعتناء لهما(2)، فأورد المصنِّف هذه التَّرجمة بعده، ليبيِّن بهما طريقةً يسلم بها الرَّجل عن الوقوع في الكذب، مع تحصيل المقصود، بأن يكتب ما يسمع مِنَ الأحاديث والعلم، ثُمَّ ينقله، والله أعلم.
          كتب الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع»: دفع بذلك ما يتوهَّم مِنْ / روايات النَّهي عن الكتابة مَنعها بأنَّه كان في أوَّل الأمر، ثُمَّ رخَّص فيها. انتهى.
          وفي «هامشه» قال الحافظ: طريقة البخاريِّ في الأحكام الَّتي يقع فيها الاختلاف ألَّا يجزم فيها بشيءٍ، بل يوردها على الاحتمال، وهذه التَّرجمة مِنْ ذلك، لأنَّ السَّلف اختلفوا في ذلك تركًا وعملًا، وإن كان الأمر قد استقرَّ، والإجماع انعقد، على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على مَنْ خَشِيَ النِّسيان ممَّن يتعيَّن عليه تبليغ العِلم. انتهى.
          قلت: وهذا الأصل الَّذِي ذكره الحافظ أصل مطَّردٌ مِنْ أصول الإمام، كما تقدَّم في أصل(3) الخامس والثَّلاثين، لكنَّ الأوجه عندي هاهنا أنَّ المصنِّف أشار بذكر الرِّوايات الواردة إلى استحبابها، كما اختاره شيخ الهند في «تراجمه» إذ قال: لمَّا كانت الكتابة ممَّا لا بدَّ منها لبقاء العلم وحفظه وإشاعته، نبَّه المصنِّف بالتَّرجمة إلى استحسانها، بل رغب العلماء إلى الكتابة إشارةً. انتهى.
          وقال شيخ المشايخ في «تراجمه» غرض المصنِّف أنَّ كتابة الحديث وإن كانت ممنوعةً في عهده صلعم كيلا يختلط بالقرآن غيره، أو لئلَّا يتَّكل النَّاس على الكتابة مِنَ الحفظ، ثُمَّ شاع التَّدوين والتَّأليف، فله أصلٌ في الحديث وقصص الصَّحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص أدلَّةٌ عليه وشاهداتٌ. انتهى.
          قلت: وبسطت المسألة في مقدِّمة «الأوجز» أشدَّ البسط، وكانت المسألة خلافيَّةً شهيرةً في السَّلف، وكانت فيها ثلاث(4) مذاهب: المنع والإباحة والمحو بعد الكتابة، كما بسطت أقوالهم وأسماء قائليها في مقدِّمة «الأوجز» ثُمَّ استقرَّ الأمر على جواز الكتابة، وقد تقدَّم في كلام الحافظ الإجماع على ذلك، وفي «توضيح مقدِّمة القَسْطَلَّانيِّ» لعبد الهادي بعد نقل الاختلاف في ذلك: ثُمَّ أجمعوا بعد ذلك وزال الاختلاف. انتهى.
          وكذا حكى الإجماع على ذلك السيوطي كما في مقدمة «الأوجز».


[1] في (المطبوع): ((متقاصر)).
[2] في (المطبوع): ((بهما)).
[3] في (المطبوع): ((الأصل)).
[4] في (المطبوع): ((ثلاثة)).