الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر

           ░16▒ (بَاب: مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى...) إلى آخره
          وفي «هامش اللَّامع» قال الحافظ: هذا الباب معقودٌ للتَّرغيب في احتمال المشقَّة في طلب العلم، لأنَّ ما يُغتبط به تُحتمل المشقَّة فيه، ولأنَّ موسى ◙ لم يمنعه بلوغه مِنَ السِّيادة المحلَّ الأعلى، طلب وركوب البرِّ والبحر لأجله، فظهر بهذا مناسبة هذا الباب لما قبله.
          وكتب شيخ الهند ما تعريبه: لم يذكر المؤلِّف مقصوده بالتَّرجمة نصًّا، وجعل قصَّة موسى والخضر ♂ ترجمةً، ولكن لا يخفى أنَّه لا بدَّ أن يكون غرضه مِنْ ذكر القصَّة المذكورة إثباتَ أمرٍ ما يتعلَّق بكتاب العلم، ولا يقال لنفس القصَّة إنَّها المقصودة في هذا الموضع، فظاهر النَّظر يؤدِّي إلى أنَّه أراد به إثبات السَّفر لطلب العلم، ولكن قد عقد بعد بابين: (باب: الخروج في طلب العلم) وذكر فيه هذا الحديث أيضًا، فليس لنا إلَّا أن نقول: إنَّ غرض المؤلِّف مِنْ هذا الباب إثبات الخروج في البحر، وفي الباب الآتي إثبات الخروج مطلقًا، ولكنَّ الأحسن أن يكون المقصود مِنْ ذهاب موسى ◙ التَّعلُّم بعد السِّيادة، وفي الباب الآتي الخروج في طلب العلم هو المقصود صراحةً، فلا حاجة إلى التَّكلُّف مطلقًا، وقد صنع هذا في مواضع أخر أيضًا بأن جعل تكميل الأمر وتحقيقه المتعلِّق بالباب الأوَّل في الباب الثَّاني، فلأنَّه قد ذكر في الباب السَّابق قوله: (قد تعلَّم / أصحاب النَّبيِّ صلعم بعد(1) كبر سنِّهم) بذيل التَّرجمة مجملًا، وهاهنا أكمل ذلك استقلالًا بأنَّ موسى ◙ مع كونه سيِّد سادات العالم كم جدَّ واجتهد برغبته وشوقه لتعلُّم العلم، مع كون العلم أيضًا زائدًا على العلم الضَّروريِّ ومفضولًا عن علم كليم الله ◙، ونظرًا إلى هذه الأمور لا بدَّ أنْ قد يظنُّ أنَّه يمكن أنَّ ذهاب موسى ◙ لم يكن لغرض التَّعلُّم بل رغبةً وشوقًا في لقاء الخضر ◙، ومشاهدة علومه، فإنَّ الرَّسول صلعم أشار إلى هذا الشَّوق أيضًا بقوله: (وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى ◙ كَانَ صَبَرَ حتَّى يَقُصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا) دفعًا لهذا الظَّنِّ ذكر المؤلِّف في التَّرجمة قول الله ╡: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ...} الآية [الكهف:66].
          وفي «تراجم شيخ المشايخ» مسند الهند: مقصود الباب إثبات الرِّحلة لأجل تحصيل العلم، لأنَّها ما كانت معهودةً في زمان الصَّحابة والتَّابعين و[مَنْ] تبعهم، بل كانوا يأخذون العلم مِنْ علماء بلدانهم، فلمَّا دُوِّنت الكُتُب وانتشرت تلك في البلدان ارتحلوا مِنْ بلدٍ إلى بلدٍ، وصارت تلك عادةً فيما بينهم، فأثبت المؤلِّف أصلًا صحيحًا قويًّا. انتهى.
          وفي «هامش اللَّامع» هكذا أفاد شيخ المشايخ، ويُشكل عليه ما سيأتي قريبًا مِنْ (باب: الخروج في طلب العلم) فإنَّ المقصد الَّذِي أفاده شيخ المشايخ يناسب هذا الباب الثَّاني، والأوجه عندي في غرض هذا الباب الأوَّل جواز ركوب البحر للتَّعلُّم، لدفع ما يتوهَّم عدم الجواز مِنْ حديثٍ أخرجه أبو داود عن ابن عمر ╩ مرفوعًا: (لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إِلاَّ حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ في سَبِيلِ اللهِ)(2) فقد يتوهَّم مِنَ الحصر في الثَّلاث عدم الجواز لغيرها، ولذا يترجم المصنِّف في «كتاب البيوع» (باب: التِّجارة في البحر). انتهى.
          ثُمَّ يستشكل قوله في التَّرجمة: (في البَحْرِ إلى الخَضِر)، قال شيخ الهند ما تعريبه: إنَّ ذهاب موسى في البحر إلى الخضر خلافٌ للمشهور والمنقول، فإنَّ موسى ◙ لقي الخضر بعد السَّفر في البرِّ لا في البحر، وقد أوَّل الشُّرَّاح المحقِّقون ذلك بعدَّة تأويلاتٍ:
          1-فحملوا حرف (إلى) [في] قوله: (إلى الخضر) بمعنى: مع.
          2-أو المراد بالبحر: ناحية البحر وطرف البحر.
          3-ولكن الأسهل أن ترك(3) (إلى) و(البحر) على ظاهرهما، ويقال: إنَّه لم يذكر واو العطف قبل قوله: (إلى الخضر)، فإنَّه لا يذكر أحيانًا واو العطف اعتمادًا على فهم السَّامع، والله أعلم.
          وفي «اللَّامع» استشكل عليهم هذه الكلمة، فإنَّ ذهاب موسى في البحر لم تكن إلى الخضر.
          والجواب أنَّ كلمة (إلى) بمعنى: مع وهي كثيرةٌ، أو يقال: لمَّا أُمِر موسى بالذَّهاب إلى الخضر كان عليه أن يَصل إليه كيفما كان في البرِّ أو البحر، فلفظ (البحر) مفهومٌ مِنْ إطلاق أمره بالذَّهاب إليه، والأوَّل أولى. انتهى.
          وفي «هامشه» قال الحافظ: ظاهر التَّبويب أنَّ موسى ركب البحر لمَّا توجَّه في طلب الخضر وفيه نظرٌ، لأنَّ الَّذِي ثبت عند المصنِّف وغيره أنَّه خرج في البرِّ، وإنَّما ركب البحر في السَّفينة هو والخضر بعد أن التقيا، فيحمل قوله: (إلى الخضر) على أنَّ فيه حذفًا، أي: إلى مقصد الخضر، لأنَّ موسى لم يركب البحر لحاجة نفسه، وإنَّما ركبه تبعًا للخضر، ويحتمل أن يكون التَّقدير: ذهاب موسى في ساحل البحر، فيكون فيه حذفٌ، ويمكن أن يقال: مقصود الذَّهاب إنَّما حصل بتمام القصَّة... وإلى(4) آخر ما بسط فيه.
          وما في «اللَّامع» مِنْ قوله: إنَّ كلمة (إلى) بمعنى: مع... إلى آخره، اقتصر عليه في «التَّقرير المكِّيِّ» إذ قال: (إلى) بمعنى: مع، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء:2]، قلت: واختاره ابن المُنَيِّر أيضًا.


[1] قوله: ((بعد)) ليس في (المطبوع).
[2] عبارة باللغة الأردية معناها (باحثين)
[3] في (المطبوع): ((يترك)).
[4] في (المطبوع): ((إلى)).