الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب العلم قبل القول والعمل

           ░10▒ (باب: العِلْمُ قبل القَوْلِ والعَمَل)
          كتب الشَّيخ في «اللَّامع»: دلالة الآيات على تقدُّم العلم على التَّكلُّمِ به / وعظًا والعمل بمقتضاه ظاهرة، فإنَّه لمَّا كان أفضل والمناط كان هو الأولى بالتَّقديم مِنْ غيره، وكذلك في الرِّوايات الموردة والآثار وما(1) يظهر بتأمُّلٍ فيها. انتهى.
          وفي «هامشه»: اختلفوا في غرض المؤلِّف عن هذه التَّرجمة، قال الكرمانيُّ: يريد أنَّ الشَّيء يُعْلَم أوَّلًا، ثُمَّ يُقَال ويُعْمَل به، فالعلم مُقَدَّمٌ عليهما بالذَّات، وكذا مقدَّمٌ عليهما بالشَّرف، لأنَّه عمل القلب وهو أشرف أعضاء البدن. انتهى.
          وقال السِّنديُّ: الظَّاهر أنَّ مراده بيان تقدُّم العِلم على القول والعمل شرفًا ورتبةً لا زمانًا. انتهى.
          والأوجه عندي أنَّ المصنِّف أراد التَّقَدُّم الزمانيَّ، وإليه يشير كلام الشَّيخ مِنْ قوله: تقدَّم العلم على التَّكلُّم به وعظًا وهو المراد بالقول وعلى العمل بمقتضاه، ودِلالة ما أورد المصنِّف في هذا الباب على هذا المعنى ظاهرةٌ لا خفاء فيه، فغرض المصنِّف عندي دفع ما يُتَوهَّم مِنَ الوعيدات على العلم بلا عملٍ أنَّ المقَصِّر في العمل لا ينبغي له تحصيل العلم، فأثبت المصنِّف في هذا الباب أنَّ العلم مِنْ حيث هو [هو] مقدَّمٌ على العمل ذاتًا، وأمَّا ترك العمل به بعد ذلك فأمرٌ آخر موجبٌ للخسارة والوعيدات المترتِّبة(2) عليه، وهو الظَّاهر مِنْ كلام أكثر الشُّرَّاح.
          قال الحافظ: قال ابن المُنَيِّر: أراد به أنَّ العلم شرطٌ في صحَّة القول والعمل، فلا يعتبران إلَّا به، فهو متقدِّمٌ عليهما، فنبَّه المصنِّف على ذلك حتَّى لا يَسبق إلى الذِّهن مِنْ قوله: إنَّ العلم لا ينفع إلَّا بالعمل تهوين أمر العلم والتَّساهل في طلبه. انتهى... إلى آخر ما في «هامش اللَّامع».
          وفي «تراجم شيخ الهند» ما تعريبه: لقد ذكر المؤلِّف في هذا الباب في التَّرجمة عدَّة آياتٍ وأحاديث وأقوال الصَّحابة، واكتفى بها ولم يذكر حديثا مسندًا، ويظهر منها تأكيد فضيلة العلم والتَّعليم والتَّبليغ، وجاء بقوله: (إنَّما العلم بالتَّعلُّم)، والمراد كما أنَّ مدار القول والعمل على العلم، هكذا العلم موقوفٌ على التَّعلُّم، فلذا يجب بذل الجِدِّ والجهد في تحصيله، ثُمَّ المراد بالقبليَّة في التَّرجمة التَّقدُّم الزَّمانيُّ كما هو الظَّاهر، أو المراد تقدُّم الشَّرف والرُّتبة كما يترشَّح مِنَ النُّصوص والأقوال المذكورة، والأوجه أن نجعل القبليَّة عامَّةً بالمعنيين المذكورين، فالحاصل أنَّ التَّعلُّم أهمُّ وأقدم مِنَ التَّعليم والعمل كليهما، والله أعلم. انتهى.
          ولو أريد في التَّرجمة بالقبْليَّة التَّقدُّم الشَّرفيُّ فلا يبعد عندي أن يكون إشارةً إلى خلافيَّةٍ شهيرةٍ تقدَّمت في أوَّل الكتاب مِنْ (فضل العلم على العمل) ثُمَّ لم يذكر المصنِّف في هذا الباب حديثًا مسندًا، واقتصر على ما ورد(3) مِنَ الآيات والآثار وغير ذلك، فإمَّا أن يكون بياضًا أو تعمَّد ذلك اكتفاءً بما ذكر، كما في «الفتح».
          والأوجه عندي أنَّه أراد بذلك الإشارة إلى الرِّوايات الواردة في الباب كما ذكرته في أوَّل «كتاب العلم»، وقد تقدَّم الكلام مبسوطًا في المقدِّمة في الفائدة الرَّابعة مِنَ الفصل الثَّالث على أبواب لم يذكر فيها حديثٌ، وفي «تقرير مولانا محمد حسن المكِّيِّ».
          قوله: (يُرَبِّي النَّاس بِصِغَارِ الْعِلْمِ...) إلى آخره، بأن يُعَلِّم أوَّلًا بالصَّرْف ثُمَّ النَّحو ثُمَّ المعاني ثُمَّ الحديث ثُمَّ التَّفسير، وهكذا يرتقي مِنْ صغار العلوم إلى كبارها، كما يؤاكل الطَّبيب أو الأمُّ لطفلها أوَّلًا اللَّبن ثُمَّ الخبز ثُمَّ اللَّحم. انتهى.
          وبسط الكلام على هذا القول في «اللامع» و«هامشه» أشد البسط، وفيه عن «الفتح» والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها، وقيل يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((كما)).
[2] في (المطبوع): ((المرتبة)).
[3] في (المطبوع): ((أورد)).