التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث

          ░56▒ (بَابُ شُرْبِ السُّمِّ وَالدَّوَاءِ بِهِ، وَبِمَا يُخَافُ مِنْهُ وَالْخَبِيثِ).
          5778- ذكر حديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺: (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا).
          5779- ثمَّ قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو بَكْرٍ، أَخبرنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: مَنْ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ).
          وهذا سلف قريبًا [خ¦5769]، و(مُحَمَّدٌ) هو ابن سَلَامٍ، و(أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ) بفتح الباء، مولى امرأةِ عَمْرو بن حُرَيثٍ الشَّيْبَانيَّة، انفرد به البُخَارِيُّ، مات بعد وكيعٍ بخمسة أيَّامٍ، ومات وكيعٌ سنةَ سبعٍ وتسعين ومئةٍ، وفيها توفِّي ابنُ وَهْبٍ وهِشَام بن يُوسُفَ، وأخرج التِّرْمِذِيُّ الأوَّل مِن حديثِ عُبَيْدة بن حُمَيدٍ، عن الأَعْمَش، وقال: صحيحٌ، ومِن حديثِ وكيعٍ وأبي مُعَاويَة عن الأَعْمَش نحو حديث شُعْبَةَ عن الأَعْمَش، وقال: صحيحٌ، وهو أصحُّ مِن الأوَّل.
          وروى ابن عَجْلَان عن المَقْبُرِيِّ، عن أبي هُرَيْرَةَ، بدون: (خالدًا...) إلى آخره، وكذا رواه أبو الزِّنَادِ عن الأعرج، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن رَسُول اللهِ صلعم، وهذا أصحُّ؛ لأنَّ الرِّوايات إنَّما تجيء بأنَّ أهلَ التوحيد إنَّما يُعَذَّبُون في النَّار ثمَّ يَخْرجُون منها، ولا يذكَرُ أنَّهم يُخلَّدون فيها. وهذا الحديث يشهد لصِحَّة نهي الله تعالى في كتابه المؤمنَ عن قتْلِ نفسهِ حيث قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...} الآية [النِّسَاء:29]، فأمَّا مَن شَرِبَ سمًّا للتداوي به ولم يَقْصِد به قتْلَ نفسهِ وشرب منه مقدارًا لا يقتلُ مثلُهُ أو خَلَطَه بغيره ممَّا يكسِرُ ضرُّه فليس بداخلٍ في الوعيد، لأنَّه لم يقتل نفسَه غير أنَّه يُكره ذلك لِمَا روى التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ مُجَاهِدٍ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: نهى رَسُول اللهِ صلعم عن الدَّواء الخبيث، قال أبو عيسى: يعني السمَّ. وقد تعلَّق بقوله: ((خَالِدًا مُخَلَّدًا فِي النَّار)) مَن أنفَذَ الوعيدَ على القاتِلِ، وهو قولٌ رُوي عن قومٍ مِن الصَّحابة يأتي في الدِّيَات، وجمهورُ التابعين وجماعة الفقهاء على خِلافه، ولا يجوز عندهم إنفاذ الوعيد على القاتل، وأنَّه في المشيئة لحديثِ عُبَادةَ بن الصَّامِت الآتي.
          فإن قلتَ: ظاهرُ حديث الباب يدلُّ على أنَّه مخلَّدٌ في النَّار؟ قلتُ: هذا قولٌ تقلَّدَه الخوارج وهو مرغوبٌ عنه، ومِن حُجَّة الجماعة أنَّ لفظَ التأبيد في كلام العرب لا يدلُّ على ما توهَّموه، وقد يقع الأبدُ على المدَّة مِن الزَّمان التي قضى الله ╡ فيها بتخليد القاتل إن أنفذَ عليه الوعيد، ومنه: خلَّد الله ملكَه كذا، وذلك أنَّ العربَ تجمع الأَبَد على آبادٍ، كما تجمع الدَّهر على دهورٍ، فإن كان الأبدُ عندها واحدُ الآبادِ لا يدلُّ الأبد على ما قالوه، ويدلُّ على صِحَّة هذا إجماع المؤمنين كلِّهم غير الخوارج على أنَّه يخرجُ مِن النَّار مَن كان في قلبِه مِثْقَال ذرَّةٍ مِن إيمانٍ، وأنَّه لا يخلَّدُ في النَّار بالتوحيد مع الكفَّار فسقط قولهم.
          ومنهم مَن حمل الحديثَ على مَن فعله مستحِلًّا مع علمِه بالتَّحريم فإنَّه كافرٌ، وقيل: إنَّه ◙ قاله في رجلٍ بعينه كافرٍ، فحملَهُ الناقلُ على ظاهره، وحديثُ: ((يخرجُ مِن النَّار مَن كانَ في قلبِه مِثْقال ذرَّةٍ مِن إيمانٍ))، وحديثُ: ((مَن قالَ لا إله إلَّا الله مُخْلِصًا مِن قلبه دخل الجَنَّة)) يردُّ ظاهرَه، وقيل: هذا جزاؤه، ولكنَّ الربَّ تكرَّم عليه أن لا يُخلِّدَه النَّار لكونه مسلمًا، وهو بمعنى ما سلف.
          فصْلٌ: وترجمةُ البُخَارِيِّ بها وإيرادُه فيها الحديث فيمَن شَرِبَه ليقتل نفسَه، وقد يُتَداوى بيسير السمِّ إذا جُعل مع غيره.
          فصْلٌ: وقوله: (يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ) أي يضرِبُ بها فيه وهو بالهمز والتسهيل، يُقال: وَجَأَهُ يَجَؤُه، قال صاحب «الأفعال»: وَجَأْتُ البَعِيرَ طَعَنْتُ منخرَهُ وجيًا طَعَنَهُ مثل وَجَأَه، والأصل في المستقبل يُوجَأُ، وإنَّما وجبَ حذف الواو لأنَّ فتحةَ الجيم نائبةٌ منابَ كسرةٍ وأصلُه مكسورٌ لأنَّ ماضيه: وجا بالفتح، فيكون مستقبله يوجِئ بكسر الجيم، فحُذفت الواو لوقوها بين ياءٍ وكسرةٍ، وفُتحت الجيم لأجل الهمزة، وكذلك تعليل يَهَب ويَدَع.
          قال ابن التِّين: وفي رواية الشيخ أبي الحَسَن: <يُجأ> بضمِّ الياء، ولا وجه له عندي لأنَّه لو أراد أن يبنيه لِمَا لم يُسمَّ فاعله قال: يُوجَأُ على وزن يُفعَل، مثل يُوجَد.
          فصْلٌ: قوله: (وَمَنْ تَحَسَّى) هو مِن ذوات الياء ليس بمهموزٍ.
          فصْلٌ: قال عِيَاضٌ: / فيه دليلٌ على أنَّ القِصَاص مِن القاتل يكون بما قتلَ به محدَّدًا كان أو غيرَه اقتداءً بعقاب الله تعالى لقاتلِ نفسهِ، وهو استدلالٌ ضعيفٌ كما نبَّه عليه النَّوويُّ.