التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الجذام

          ░19▒ (بَابُ الْجُذَامِ).
          5707- (وَقَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ يَقُولُ: قَالَ رَسُول اللهِ صلعم: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ).
          الشَّرح: هذا تعليقٌ صحيحٌ، و(عَفَّانُ) شيخُه، وأخرجه أبو نُعَيمٍ مِن حديثِ عَمْرو بن مَرْزوقٍ وأبي داودَ وقتيبة عن سَليمٍ، ثُمَّ قالَ أبو نُعَيمٍ: وفيه يُوسُف القاضي عن عَمْرٍو. وله طريقٌ ثانٍ أخرجَه ابنُ حِبَّان مِن حديثِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عن العلاءِ عن أبيه عن أبي هُرَيْرَةَ بزِيَادة: ((وَلَا نَوْءَ))، وقال البُخَارِيُّ في بابِ لا صَفَر [خ¦5717]: ورواه الزُّهْرِيُّ _أي مِن رواية مَعْمَرٍ عنه_ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺: ((لاَ عَدْوَى ولا صَفَرَ ولا هَامَةَ...)) الحديث، قال: وعن الزُّهْرِيِّ عن سِنَانَ بن أبي سِنَان، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺. وهذا أخرجهُ مُسْلمٌ مِن حديثِ الدَّارِميِّ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، عن أبي اليَمَان، عن شُعَيْبٍ، عن الزُّهْرِيِّ به، وله طريقٌ آخرُ مِن حديثِ جابرٍ أخرجهُ مُسْلمٌ عنه مرفوعًا: ((لاَ عَدْوَى ولا طِيَرةَ ولَا غُولَ))، زاد ابن حبَّان: ((وَلَا صَفَرَ))، وله طريقٌ آخرُ مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ ☻، أخرجَه أيضًا عنه مرفوعًا: ((لا طِيَرَةَ ولا هَامَةَ ولا صَفَرَ)).
          ولحديث أبي هُرَيْرَةَ طريقٌ آخرُ أخرجَه أبو نُعَيمٍ مِن حديثِ مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرِو بن عُثْمَانَ، عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرجِ، عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّه ◙ قال: ((اتَّقُوا الْمَجْذُومَ كَمَا يُتَّقَى الأسدُ))، ومِن حديثِ وَعْلَةَ بن وثَّابٍ، عن مُحَمَّد بن عليٍّ، عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا: ((فرُّوا مِن الْمَجْذُومِ كما تفرُّون مِن الأسدِ))، وفي روايةٍ: ((لا تُدِيموا النَّظَرَ إِلَى الْمَجْذُومِين)).
          ولابن حبَّان مِن حديثِ عَمْرِو بنِ الشَّرِيدِ عن أبيه: كان في وفْدِ ثَقِيفٍ رجلٌ مَجذومٌ، فأرسل إليه رَسُولُ اللهِ صلعم: ((إنَّا قد بايعناكَ فارجِعْ))، ولأبي نُعَيْمٍ مِن حديثِ الحَسَن بنِ عُمَارَة عن أبيه، عن ابن أبي أَوْفَى: أنَّه ◙ قال: ((كلِّم الْمَجْذُومَ وبينَكَ وبينَهُ قيدُ رُمْحٍ أو رُمْحَين))، ولابن ماجه مِن حديثِ فاطمةَ بنت الحسين، عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((لا تُديموا النَّظرَ إلى الْمَجْذُومِ))، وفي روايةٍ عن فاطمة عن أبيها عن عليٍّ ☺ يرفعه... فذكرَه.
          فإن قلتَ: كيف نعملُ بحديث أبي داودَ عن جابرٍ أنَّه ◙ أخذَ بيد مجذومٍ فأدخلَهُ معه في القَصْعَةِ، ثُمَّ قال: ((كُلْ بِسْمِ اللهِ وَثِقَةً باللهِ وَتَوكُّلًا عليه))، قال التِّرْمِذِيُّ فيه: غريبٌ لا نعرفه إلَّا مِن حديثِ يُونُس بن مُحَمَّدٍ، عن مُفَضَّلِ بن فَضَالةَ، والمُفَضَّل هذا شيخٌ بصريٌّ، والمفضَّل بن فَضَالة شيخٌ آخرُ مصري أوثقُ مِن هذا وأشهر، وروى شُعْبَة هذا الحديثَ عن حَبِيبِ بن الشَّهِيد، عن ابن بُرَيْدَة: أنَّ عُمَرَ أخذ بيد مجذومٍ... وحديثُ شُعْبَة أشبه عندي وأصحُّ. وروى عبد الرَّزَّاق: عن مَعْمَرٍ عن أبي الزِّنَاد: أنَّ عمرَ ☺ قال لِمُعَيْقِيب: ادْنُهْ، فلو كانَ غيرُكَ ما قعدَ منِّي إلَّا قيدَ الرُّمح، وكان مجذومًا. قلتُ: وهو الْمَجْذُومُ المذكور في حديث جابرٍ كما نبَّه عليه ابن بَشْكُوال عن أبي مُسْلمٍ صالحِ بن أحمد بن صالحٍ عن أبيه: لم يُنبَذ أحدٌ مِن الصَّحابة إلَّا هذا، كان به الجُذَام، وأنسٌ به وَضَحٌ. وقال ابنُ السَّكَن: لم يكن مِن أصحابه أحدٌ مجذومًا غير مُعَيْقِيبٍ.
          قلت: وقيل إنَّه عالجَهُ عمرُ بالحَنْظَل حتَّى برئَ، وهو الذي سقطَ مِن يدِه خاتَمُ رَسُولِ اللهِ صلعم ببئر أَرِيسَ زمنَ عُثْمَانَ، وقال المحبُّ في «أحكامه»: لم يكن في الصَّحابة مجذومٌ غيرُه.
          وروى مُحَمَّد بن عبد السَّلام الخُشَنيُّ بإسنادٍ صحيحٍ إلى ابن بُرَيْدَةَ قال: كان سَلْمانُ يصنَعُ الطَّعامَ الخبزَ واللَّحمَ مِن عطائه، ويقعدُ مع المجْذُومين. قلتُ: لا معارضَةَ لأمورٍ:
          أحدها: تقديمُ الأوَّل لصِحَّتِها.
          ثانيها: أنَّ أخذَهُ بيدِه وقولَه: ((كُلْ بِسْمِ الله)) ليس فيه أنَّه أكلَ معه، وإنَّما أَذِنَ له ولم يأكلْ هو، ذكره الكَلَابَاذِيُّ.
          ثالثها: أراد تعليمَ أنَّ هذه الأمراض لا تُعدي بطبعِها، ولكنَّ اللهَ يجعلُ مخالطةَ المريضِ بها للصَّحيح سببًا لاعدائه مرضَه، ثُمَّ قد يتخلَّفُ ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب، ففي الحديث الأوَّل نفيُ ما كان يعتقده الجاهليُّ مِن أنَّ ذلك يُعدي بطبعِه، ولهذا قال: ((فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟)).
          وفي قوله: (فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ) أعلمَ أنَّ اللهَ جعل ذلك سببًا لذلك، فحذَّر مِن الضَّرر الذي يغلب وجوده عند وجوده بفعل الله، أو يكون قاله لمن ضَعُفَت بنيتُه، والثاني قالَه لمن قَوِيت بنيتُه وزاد يقينُه، فيخاطِبُ كلَّ إنسانٍ بما يليق بحاله، وهو يفصل الحالين معًا تارةً بما فيه مِن التَّسوية والتسريع وتارةً بما يغلب عليه مِن القُوَّة الإلهيَّةِ، وقد ذكر ابنُ أبي شَيْبَة ما يؤيِّد ما ذكرناه، وهو قوله: حدَّثنا وكيعٌ، عن إسماعيلَ بن مُسْلمٍ، عن الوليد بن عبد الله: / أنَّ نبيَّ الله صلعم مرَّ على مَجْذُومٍ فخمَّر أَنْفَه، فقيل: يا رَسُول اللهِ، أليس قلتَ: ((لاَ عَدْوَى ولا طِيرةَ؟)) قال: ((بَلَى)).
          وقال أَبُو بَكْر بن الطيِّب: زعم الجاحِظُ عن النظَّام أنَّ قوله: ((فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)) يُعارض قولَه: (لاَ عَدْوَى)، وهذا جهلٌ وتعسُّفٌ مِن قائله؛ لأنَّ قولَه: (لَا عَدْوَى) مخصوصٌ ويُرادُ به شيءٌ دون شيءٍ، وإن كان الكلامُ ظاهرُه العُمُومُ فليس يُنكَر أن يُخصَّ العُمُومُ بقولٍ آخرَ له أو استثناءٍ، فيكون قوله: (لَا عَدْوَى) المراد به: إلَّا مِن الجُذَام والبَرَص والجَرَب، فكأنَّه قال: لاَ عَدْوَى إلَّا ما كنتُ بيَّنتُه لكم أنَّ فيه عَدْوى وطِيرَةً، فلا تناقُض في هذا إذا رُتِّبت الأخبارُ على ما وصفناه. قلتُ: وطريقُ ابن أبي شَيْبَة تؤيِّده.
          وقال الطَّبَرِيُّ: اختلف السَّلف في صِحَّة هذا الحديث، فأنكر بعضُهم أن يكون ◙ أمرَ بالبُعد مِن ذي عاهةٍ، جُذامًا كان أو غيرَه، وقالوا: قد أكل مع مجذومٍ وأَقعدَهُ معه، وفعلَه أصحابُه المهديُّون، روى عبد الرَّحْمَن بن القاسِمِ عن أبيه أنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ أتوا الصِّدِّيقَ، فأُتي بطعامٍ فَدَعَاهم، فتنحَّى رجلٌ، فقال: ما لكَ؟ فقال: مَجْذُومٌ، فدعاه وأكلَ معه. وكان سلمانُ وابن عُمرَ يصنعان الطَّعام للمجذومِين ويأكلان معهم، وعن عِكْرِمَةَ أنَّه تنحَّى من مَجْذُومٍ، فقال له ابن عبَّاسٍ: لعلَّهُ خيرٌ مِنِّي ومنك. وعن عائِشَة ♦: أنَّ امرأةً سألَتْها: أكان رَسُول اللهِ صلعم قال في المجذومِين: ((فِرُّوا مِنهُم فِرَارَكم مِنَ الأسد؟)) فقالت عائِشَة: كلَّا واللهِ، ولكنَّهُ قال: ((لَا عَدْوَى))، وقال: ((فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ؟))، وكان مولًى لي أصابَهُ ذلك الدَّاء فكان يأكل في صِحَافي، ويشربُ في أقداحي، وينامُ على فراشي.
          قالوا: وقد أبطلَ الشارعُ العَدْوى، رُوِّينا عنه أنه أكلَ مع مجذومٍ خِلافًا لأهل الجاهليَّة فيما كانوا يفعلونه مِن ترك مؤاكلته خوفًا أنْ يُعديهم داؤُه، ثُمَّ ذكرَ حديثَ جابرٍ السَّالف. وقال آخرون بتصحيح هذا الخبر وقالوا: أمرُه بالفِرَار منه واتِّقاء مؤاكلته ومُشَاربته، فغير جائزٍ لمن عَلِم أمره بذلك إلَّا الفرار مِن الْمَجْذُومِ، وغير جائزٍ إدامةُ النَّظر إليهم لنهيه عن ذلك.
          ذكر مَن قالَ ذلك: روى مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ أنَّ عُمَر ☺ قال لمُعَيْقِيبٍ: اجلسْ مِنِّي قِيدَ رُمحٍ، وكان به الدَّاء، وكان بدريًّا. وروى أبو الزِّنَاد عن خارجَةَ بن زيدٍ: كان عُمَرُ إذا أُتِيَ بالطعام وعندَه مُعَيْقِيبٌ قال له: كُلْ ممَّا يليكَ، وايْم اللهِ لو غيرك به ما بك ما جلس مِنِّي على أَدْنى مِن قيدَ رُمْحٍ، وكان أبو قِلابة يتَّقِي الْمَجْذُومَ.
          والصَّواب عندنا ما صحَّ به الخبر عنه أنَّه (لاَ عَدْوَى)، وأنَّه لا يُصِيبُ نفسًا إلَّا ما كُتب عليها، فأمَّا دُنُوُّ عليلٍ مِن صحيحٍ فإنَّه غير موجبٍ للصَّحيح علَّةً وسقمًا، غير أنَّه لا ينبغي لذي صِحَّةٍ الدُّنوُّ مِن صاحب الجُذام والعاهةِ التي يكرهها النَّاس، لا أنَّ ذلك حرامٌ ولكنْ حَذَرًا مِن أن يظنَّ الصَّحيح إن نزل به ذلك الدَّاء يومًا إنَّما أصابه لِدُنوُّه منه فيُوجب له ذلك الدخولُ فيما نهى عنه ◙ وأبطلَه مِن أمر الجاهليَّة في العدوى، وليس في أمره بالفرار مِن الْمَجْذُومِ خِلافٌ لأكلِه معه؛ لأنَّه كان يأمرُ بالأمر على وجه النَّدْب أحيانًا، وعلى وجه الإباحة أخرى ثُمَّ يتركُ فِعلَه ليُعلم بذلك أنَّ أمرَهُ لم يكن على وجه الإلزام، وكان يَنهى عن الشيء على وجه الكراهة والتنزيه أحيانًا وعلى وجه التأديب أُخرى، ثمَّ يفعله ليُعلم به ذلك أنَّ نهيَهُ لم يكن على وجه التَّحريم.
          وقال غيره: قال بعض العلماء: هذا الحديث يدلُّ على أنَّه يُفرَّق بين الْمَجْذُومِ وامرأته إذا حدَثَ ذلك به وهي عنده لموضع الضَّرَر إلَّا أن تَرضى بمقامِها عنده، وقال ابن القاسِمِ: يُحال بينَه وبين وطْءِ رَقِيقِه إذا كان في ذلك ضَرَرٌ، وقال سُحنُون: لا يُحال بينه وبين وطْءِ إمائه، ولم يختلفوا في الزَّوجة، قال: ويُمنع أيضًا مِن المسجد والدخول بين النَّاس والاختلاط بهم، كما رُوي عن عُمَرَ أنَّه مرَّ بامرأةٍ مجذومةٍ تطوفُ بالبيت، فقال لها: يا أَمَةَ الله، اقعدي في بيتكِ ولا تُؤذِي النَّاس. وقال مُطَرِّفٌ وابن الماجَشُون في المرضى إذا كانوا يسيرًا لا يخرجون عن قريةٍ ولا حاضرةٍ ولا السُّوق، وإن كَثُروا رأينا أن يَتَّخِذوا لأنفسهم موضعًا كما صنعَ مَرْضى مكَّة عند التَّنعيم منزلهم وفيه جماعتهم، ولا أرى أن يُمنعوا مِن الأسواق لتجارتِهم والنَّظرِ والمسألةِ إذا لم يكن إمامٌ عدْلٌ يَرْزُقهم، ولا يُمنعوا مِن الجُمُعة، ويُمنعوا مِن غيرها.
          وقال أصبغُ: ليس على مرضى الحواضِرِ أن يخرجوا منها إلى ناحيةٍ بقضاءٍ يحكم به عليهم، ولكنَّهم إنْ كَفَاهم الإمام مُؤنتَهم وأجرى عليهم الرِّزقَ مُنعوا مِن مخالطة النَّاسِ. قال ابن حَبِيبٍ: والحُكم بتنحيَتهم إذا كثُروا أعجبُ إليَّ، وهو الذي عليه النَّاس.
          فصْلٌ: زعم ابن سِيدَه أنَّ الجُذَامَ سُمِّي بذلك لتجذُّم الأصابعِ وتقطُّعها، ورجلٌ أَجْذَمُ ومُجَذَّم: نزل به الجُذَام، الأولى عن كُرَاعٍ، وعند الأطبَّاء: هي عِلَّة تحدُثُ مِن انتشار السَّوداء في جميع البدن فتُفسد مِزَاج الأعضاء وهيئاتها، وربَّما تقرَّحَ، وهي كَسَرطانٍ عامٍّ للبدنِ، وسببُه شدَّةُ حرارة الكبدِ ويُبوستِها أو البدنِ كلِّه، وتُعِين على استداد المسامِّ فينحَبِسُ الحارُّ الغريزيُّ ويبردُ الدَّم ويغلُظ، ويُسمَّى: داءَ الأسد؛ لأنَّه يُجهِّمُ وجهَ صاحبهِ ويجعل سَحنته كسحنة الأسدِ.
          فصْلٌ: زعَمَ عيسى بن دِيْنَارٍ أنَّ قولَه: (لاَ عَدْوَى) ناسِخٌ لقوله: ((لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)) كما ذكره / بعدُ [خ¦5770] مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، وأنكر أبو هُرَيْرَةَ ☺ حديثَه الأوَّل، قلنا: أَلَم تُحدِّثْ أنَّه لا عَدْوَى، فَرَطَنَ بالحبشِيَّة، قال أبو سَلَمَةَ: فما رأيتُه نَسِيَ حديثًا غيرَه.
          وقيل: إنَّما نهى المُصِحَّ أن يجعلَ ماشيتَه مع المريضة لئلَّا يُصيبَها داءٌ فيكذِّب الحديثَ فيأثَمَ، قاله سَحنُونُ وأبو عُبَيْدٍ، ودليله قوله: ((فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟)).
          ومعنى (لاَ عَدْوَى): نفيٌ لِمَا كانت العرب في الجاهليَّة تقول: إنَّ المرض يُعدِي ويتحوَّل منه إلى الصَّحيح، وأنَّ دواءَه أن يُكوى الصَّحيحُ فيبرأ المجروبُ، وكذَّبهم بقوله: (لَا عَدْوَى)، وقيل: المراد به بعض الأدواء والعاهات كالطَّاعُونِ يقع ببلدٍ فيهرب منه خوفًا مِن العَدْوى خِلاف الجُذَام فإنَّه تشتدُّ رائحتُهُ وتُؤذِي.
          وقال الدَّاوُدِيُّ: يريد النَّهيَ عن الاعتداء، ولعلَّ بعضَ مَن أجلبَ على إبلِه إبلًا جُربًا أراد تضمينَ المحلِّ، فاحتجَّ عليه في إسقاط الضَّمان بأنَّه إنَّما أصابَها ما قُدِّر لها وما لم تكن تنجو منه لأنَّ العَجْمَاء جُبَارٌ، ويحتمل أن يكون قال ذلك على ظنِّهِ ثمَّ تبيَّن خِلافُ ذلك.
          فصْلٌ: قوله: (وَلاَ هَامَةَ) قال أبو عُبَيْدٍ: يقول: عِظَام الموتى تَصِير هامَةً فتطيرُ، وكانوا يُسمُّون ذلك الطائر: الصَّدَى، وقال ابنُ الأعرابيِّ: كانوا يتشاءَمون بالهَامَةِ إذا وَقَفَت على بيت أحدهم يقول: نعيتِ إليَّ نفسي أو أحدٍ مِن أهل داري. وقاله مالكٌ أيضًا، وقال القزَّاز: هي طائرٌ مِن طير اللَّيل، وإنَّما نفى ◙ قولَهم في الجاهليَّة: إذا قُتِل أحدٌ ولم يؤخَذ بثأره خَرَجَت مِن رأسِه هامةٌ لا تزال تقول: اسقوني، حتَّى يؤخذَ بثأره، وقاله الجَوْهَرِيُّ وابن فارسٍ، قال أبو عبد الملك: قال أبو زيدٍ: الهامةُ مشدَّدةٌ، وأهل اللُّغة على خِلاف هذا، بل هو عندهم مخفَّفٌ.
          فصْلٌ: قوله: (وَلَا صَفَرَ) قال البُخَارِيُّ: هو داءٌ يأخذُ البطنَ، قال ابن وَهْب ومُطَرِّف: كان الجاهليَّة يقولون: الصفار التي في الجوف تقتلُ صاحبه، فردَّ ◙ ذلك بقوله: (وَلَا صَفَرَ) يعني أنَّه لا يُعدي ولا يَقتل أحدًا، وإنَّما يموتُ بأجَلِه، وهذا اختيار ابنُ حَبِيبٍ وأبي عُبَيْدٍ. وقالَ مالكٌ وغيره: كانوا يجعلون المحرَّم صَفَرًا ويَسْتحِلُّونه وهو النَّسِيءُ. وقيل: هو حيَّاتٌ تكون في البطن تُصيب الماشيةَ والنَّاسَ، فكانوا يقولون: هي أَعْدَى مِن الجربِ، فنهى الشَّارع عن ذلك.
          فصْلٌ: وقوله: (وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ) هو مِثل قوله: ((لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)) كما سلف، ووجهُ فرارِه منه أنَّه يؤذِي برائحته، وربَّما نزعَ الولد إليه، ولذلك جعل به الخِيَار بالنِّسبة إلى النِّكاح، وقيل: إنَّما أمرَ به لأنَّه إذا رآه صحيحَ البدنِ عظُمت حَسْرتهُ ونَسِيَ نعمة ربِّه، فأمر أن يُفرَّ منه لئلَّا يكون سببًا للزِيَادة في محنةِ أخيهِ وبلائهِ.
          فَرْعٌ: إن جُذِم بعضُ أهل القرية وأراد باقيهم منعَهم مِن الماء، فإن وجدوا غَنَاءً بماءٍ غيرِه مِن غير ضرورةٍ ويَقْدِرون على حفرِ بئرٍ آخرَ وإجراءِ عينٍ في غير ضرورةٍ أُمروا بذلك، وإلَّا قيل لمن تأذَّى منهم: استنبِطْ لهم بئرًا أو أجرِ لهم عينًا أو أقمْ له مَن يَسْتَقي لهم مِن البعيد، وإلَّا فكلُّ ذي حقٍّ أَوْلى بحقِّهِ، وأعظم الضَّرر أن يُمنع أحدٌ ماله بغير عِوَضٍ غيرَ أنَّه يُمنع من دخول المسجد، ومِن الدخول بين النَّاس والاختلاط بهم، وقد سلف.