التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو

          ░17▒ (بَابُ مَنِ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ وَفَضْلِ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ).
          5704- ذكر فيه حديثَ جابرٍ السَّالف قريبًا، وفيه: (وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ).
          5705- وحديثَ حُصَيْنٍ: (حَدَّثَنَا عامِرٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ، فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ...) الحديثَ. وفيه: (وَيَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وفي آخرِه: (هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقَالَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ فقَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ).
          وقد سلف الكلام عليه قريبًا، فنذكر هنا أمورًا:
          أحدها: حديث عامِرٍ الشَّعْبِيِّ منقطِعٌ، قال البُخَارِيُّ في بعض نسخه: <اسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ مُرْسَلٌ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُسنَدٌ>. قلتُ: وهو مع إرساله موقوفٌ، وإن كان أبو داودَ لَمَّا رواه عن مُسدَّدٍ، حَدَّثَنَا عبد الله بن داودَ، عن مالكٍ بن مِغْوَلٍ، عن حُصَيْنٍ، عن الشَّعْبِيِّ، عن عِمْرَانَ رَفَعَه به، ورواه التِّرْمِذِيُّ مِن طريق سُفْيَانَ عن حُصَيْنٍ، ثُمَّ قالَ: ورواه شُعْبَةُ، عن حُصَيْنٍ، عن الشَّعْبِيِّ، عن بُرَيدةَ، وكذا رواه ابنُ ماجه مِن طريق أبي جعفَرٍ الرازيِّ عن حُصَيْنٍ، عن الشَّعْبِيِّ، عن بُرَيدَةَ به مرفوعًا، وأخرجه مسلمٌ مِن حديثِ هُشَيْمٍ عن حُصَيْن موقوفًا، ورواه أيضًا مِن حديثِ أنسٍ مرفوعًا: أنَّه رخَّص في الرُّقية مِن العينِ والحُمَة والنَّمْلَة، ولأبي داودَ مِن حديثِ سَهْلِ بن حُنَيفٍ مرفوعًا: ((لَا رُقْيةَ إلَّا مِن نَفسٍ أو حُمَةٍ أو لَدْغَةٍ)).
          فصْلٌ: قوله: (فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) هو حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن، جاء مبيَّنًا في بعض طُرُقه عند البُخَارِيِّ، وعنده أيضًا [خ¦5738] عن عائِشَة ♦: أمرَني رَسُولُ اللهِ صلعم _أو أمرَ_ أن يُستَرقَى مِن العين، وعنده أيضًا: أنَّه ◙ رخَّصَ لأهل بيتٍ مِن الأنصار في الرُّقْيَة مِن كلِّ ذي حُمَةٍ، وعنده أيضًا مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: ((العَيْنُ حقٌّ))، ومِن حديثِ أمِّ سَلَمَةَ: أنَّه صلعم رأى في بيتها جاريةً في وجهِها سَفْعَةٌ _يعني صُفْرَةً_ فقال: ((بِهَا نَظْرةٌ، اسْتَرْقُوا لَهَا))، ومِن حديثِ أنسٍ ☺: أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صلعم لأهلِ بيتٍ مِنَ الأنصار أن يَرْقوا مِن الحُمَةِ والأُذُن، قال أنسٌ: كُويت مِن ذات / الجَنْبِ ورَسُولُ اللهِ صلعم حيٌّ، وشَهِدَني أبو طَلْحَة وأنسُ بن النَّضْر وزيدُ بن ثابتٍ، وأبو طَلْحَة كَوَاني.
          وعند مُسلمٍ عنه: رخَّص رَسُول اللهِ صلعم في الرُّقيةِ مِن الحُمَةِ والنَّمْلةِ، ولأبي داودَ: ((لَا رُقيةَ إلَّا مِن عينٍ أو حُمَةٍ أو دَمٍ يَرْقَأ))، وعند مُسْلمٍ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻ مرفوعًا: ((العَينُ حَقٌّ، ولو كان شيءٌ سابِقَ القَدَرِ سَبَقَتْهُ العينُ، وإذا استُغسِلْتُم فاغْسِلوا))، ولأبي داودَ عن عائِشَة ♦ أنَّها قالت: كان يأمرُ العَائِنَ فيتوضَّأ ثمَّ يَغْتَسل منه المَعِينُ. وللنَّسائِيِّ مِن حديثِ عامرِ بن رَبِيْعَة أنَّه ◙ قال: ((إذا رأى أحدُكُم مِن نفسِه أو مالِه أو أخيهِ شيئًا يُعجبُه فَلْيَدْعُ بالبركةِ فإنَّ العينَ حقٌّ))، وللتِّرْمذِيِّ _وقال: صحيحٌ_ عن أسْمَاءَ بنتِ عُمَيسٍ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ ولدَ جَعْفر تُسرِع إليهم العينُ، أَفَنسترقِي لهم؟ قال: ((نَعَم، فإنَّهُ لو كانَ شيءٌ سابِقَ القَدَرِ لَسَبَقتْهُ العينُ)).
          ولابن أبي عاصِمٍ مِن طريقٍ ضعيفةٍ: ((أكثرُ ما يُحفَرُ لأُمَّتي مِن القبورِ العينُ))، وعن حيَّةَ بن حابِسٍ، عن أبيه: أنَّه سمع رَسُولَ اللهِ صلعم يقول: ((لا شَيءَ في الهَامَةِ، والعينُ حقٌّ))، قال التِّرْمِذِيُّ: غريبٌ. وقال أبو عُمَرَ: في سندهِ اضطرابٌ. وفي «الموطَّأ» عن أمِّ سَلَمَةَ: أنَّه ◙ قال: ((لا تَسْتَرقُوا إلَّا مِن عَينٍ))، وعن عائِشَة ♦: أنَّ الصِّدِّيقَ قال لِيَهُوديَّةٍ تَرْقِيني: ((ارْقِيْهَا بكتابِ اللهِ))، ولأبي داودَ عن الشِّفاء بنتِ عبد الله قالت: دخل رَسُولُ اللهِ صلعم وأنا عندَ حَفْصَة فقال: ((أَلَا تُعَلِّمِينَ هذهِ رقيةَ النَّمْلَةِ كما علَّمتيها الكتابةَ؟)).
          ولمسلمٍ عن عوفِ بن مالكٍ: أنَّه ◙ قال: ((اعرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُم))، ثُمَّ قالَ: ((لَا بَأْسَ ما لم يَكُنْ فيه شِرْكٌ))، وعن جابرٍ ☺: أَرْخَصَ رَسُولُ اللهِ صلعم في رُقَيةِ الحيَّةِ لبني عَمْرِو بن حَزمٍ. وفي لفظٍ: ((مَن استطاعَ أن ينفعَ أخاهُ فليفعلْ)).
          فصْلٌ: العَيْنُ نَظَرٌ باستحسانٍ ويشوبُهُ شيءٌ مِنَ الحسد، ويكون الناظِرُ خبيثَ الطَّبعِ كذوات السُّمُومِ، نبَّه عليه ابن الجَوْزيِّ، ولولا هذا لكان كلُّ عاشقٍ يُصِيبُ معشوقَهُ بالعين، يُقال: عِنْتَ الرجلَ إذا أَصَبْتَه بعينِكَ، فهو مَعِينٌ ومَعْيونٌ، والفاعلُ عائِنٌ.
          ومعنى قوله (العَيْنُ حَقٌّ): أي تُصِيب بلا شكٍّ عاجلًا كأنَّها تسابق القَدَرَ.
          وقد أشكلَتْ إصابةُ العين على قومٍ فاعترضوا على هذا الحديث، فقالوا: كيف تَعْملُ العينُ مِن بُعْدٍ حتَّى تُمرِضَ؟ والجوابُ: أنَّ طبائعَ النَّاس تختلف كما تختلف طبائِعُ الهوامِّ، وأنَّ ذلك بِسُمٍّ فُصِلَ مِن أعينهما في الهواء حتَّى يصيبه، وقال رجلٌ عَيونٌ: إذا رأيتُ شيئًا يُعْجِبني وجدتُ حرارةً تخرجُ مِن عيني. وقد عُرف أنَّ في النَّاس مَن تَلْسَعُهُ العَقْرَبُ فيموتُ العقربُ، فلا يُنكَرُ أن يكونَ في النَّاس ذو طبيعةٍ ذات ضرٍّ وسمٍّ، فإذا نظر إلى ما يُعْجِبه فُصِلَ مِن عينه شيءٌ في الهواء مِن السُّمِّ فَيَصِلُ إلى المَرْئيِّ فيُعلَّه.
          وممَّا يشبُهُ هذا أنَّ المرأةَ الطَّامِثَ تدنو مِن إناءِ اللبن فتسوطه فيفسُدُ اللَّبن، وليس ذلك إلَّا لشيءٍ فَصَل عنها فوَصَل إلى اللَّبن، وقد تدخُلُ البُستانَ فتضرُّ بكثيرٍ مِن الغروس مِن غير أن تمسَّها، ويَفْسُد العجين إذا وُضع في البيت الذي فيه البطِّيخُ، وثاقِبُ الحَنْظَلِ تدْمَعُ عيناه، وكذا قاطِعُ البَصَل، والناظرُ إلى العين المُحمرَّةِ، وقد يتثاءَب الرجل فيتثاءَبُ غيرُه.
          فَصْلٌ: قال أبو عُمَرَ: قوله ◙، أي فيما يأتي: ((عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ)) دليلٌ على أنَّ العينَ حقٌّ، ربَّما قَتَلَتْ وكانت سببًا مِن أسباب المَنِيَّة، وقوله: ((لَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ)) دليلٌ على أنَّ المرءَ لا يُصِيبُه إلَّا ما قُدِّر له، وأنَّ العينَ لا تَسْبقُ القَدَر ولكنَّها مِنَ القَدَرِ، وقوله: ((أَلَا بَرَّكْتَ؟)) دليلٌ على أنَّ العينَ لا تضرُّ ولا تعدو إذا برَّك العَائِنُ، فواجبٌ على كلِّ مَن أعجبَهُ شيءٌ أن يُبرِّك، فإنَّهُ إذا دعا بالبركة صُرفَ المحذورُ لا مَحَالةَ، والتبريكُ أن يقول: تباركَ اللهُ أحسن الخالقين، اللَّهُمَّ بارِكْ فيه.
          فصل: ويُؤمر العائِنُ بالاغتسال، ويُجبَر إن أبى لأنَّ الأمر للوجوب، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنعَ أخاه ما ينتفِعُ به أخوه ولا يضرُّه هو، لا سيَّما إذا كان بسببِه وهو الجاني عليه.
          والاغتسالُ ورَدَ في حديث عامر بن رَبِيْعَة، وهو أنَّه يَغْسِلُ وجهَهُ ويديه ومِرْفَقَيهِ وَرُكْبَتَيهِ وأطرافَ رِجْلَيه وداخلةَ إزارِه في قَدَحٍ ثمَّ يَصبَّ عليه، وفي روايةٍ: ويديه إلى المِرْفَقَيْنِ والرُّكْبَتَيْنِ، وفي روايةٍ: أنَّ عامرًا غسل صدرهِ، وفي أُخرى: حَسَى منه حَسَوَاتٍ.
          قال أبو عُمَرَ: وأحسنُ شيءٍ في تفسيره ما وصفَه الزُّهْرِيُّ راوي الحديث الذي عند مُسلمٍ: يُؤتَى بِقَدَحٍ مِن ماءٍ، فيُدخل يدَه في القَدَح ثمَّ يَتَمَضْمضُ في القَدَح ويَغْسلُ وجهه في القَدَح، ثمَّ يصبُّ بيده اليُسرى على كفِّه اليُمنى، ثمَّ بكفِّه اليُمنى على كفِّه اليُسرى، ثمَّ يُدخِل يدَه اليُسرى فيصبُّ بها على مِرْفَق يده اليُمنى، ثمَّ بيده اليُمنى على مِرْفَق يده اليُسرى، ثمَّ يغسلُ قدمَه اليُمنى فيغسِلُ قدمَه اليُسرى، ثمَّ يدخل يدَه اليُمنى فيغسل الرُّكْبَتَيْنِ، ثمَّ يأخذُ داخلةَ إزارهِ فيصبُّ على رأسه صبَّةً واحدةً، ولا يَضَع القَدَح به حتَّى يَفْرَغ. زاد ابن عُيَيْنَة في روايته عن الزُّهْرِيِّ: وأن يَصُبَّ مِن خَلْفِه صبَّةً واحدةً تجري على جسدِه، ولا يُوضَع القَدَحُ في الأرض، ويغسل أطرافه وَرُكبتيه وداخلةَ إزارهِ في القَدَح.
          قال النَّووي: ولا يغسلُ ما بين المِرْفَقين والكَفَّينِ، وقد سلف في روايةٍ خِلَافُه، قال: وداخلةُ إزارِه هو الطَّرَفُ المُتَدلِّي الذي يَلِي حَقْوَه الأيمن، قال: وظنَّ بعضُهم أنَّ داخلةَ إزارِه كِنايةٌ عن الفَرْج، وجمهور العلماء على ما قَدَّمناه، وإذا استكملَ هذا منه صبَّه مِن خَلْفه على رأسهِ. /
          وقال القُرْطُبِيُّ: داخلةُ الإزارِ هو إدخالُه وغَمْسُه في القَدَح، ثمَّ يقوم الذي يأخذ القَدَح فيصبُّهُ على رأس المَعِين مِن خَلْفه على جميع جسدهِ، وقيل: يغسِلُهُ بذلك، ثمَّ يُكْفَأ الإناءَ على ظَهْر الأرضِ. وذكر عِيَاضٌ أنَّ غسْلَ العَائِن وجهَهُ إنَّما هو صبَّةٌ واحدةٌ بيده اليُمنى، وكذلك باقي أعضائِهِ إنَّما هو صبُّه على ذلك العَضْو مِن القَدَح ليس على صِفة غَسْل الأعضاءِ مِن الوُضُوء وغيره، وكذلك داخلةُ إزاره إنَّما هو غَمْسُه في القَدَح، أي كما سلف، ويستغفل المَعِين عند صبِّه عليه، هذه رواية ابن أبي ذئبٍ عن الزُّهْرِيِّ، وفي رواية عقيلٍ عنه الابتداءُ بغسْلِ الوجهِ قبل المَضْمَضة، ويغسل طَرَف قدمِه اليُمنى مِن أُصُول أصابعه واليُسرى كذلك.
          وداخلةُ الإزار هي المِئزَر، والمراد بداخلِهِ ما يَلِي الجسدَ منه، وقيل: المرادُ موضعُه مِن الجسدِ، وقيل: المراد مذاكيرُهُ، وقيل: وَرِكُه إذ هو مَعْقِدُ الإزارِ.
          فصْلٌ: قال عِيَاضٌ: وقال بعضُ العلماء: ينبغي إذا عُرِفَ واحدٌ بالإصابة بالعين أن يُتجنَّبَ ويُحترَزَ منه، وينبغي للإمام منعُه مِن مداخلة النَّاس ويأمره بلزوم منزله، وإن كان فقيرًا رَزَقَهُ ما يكفيهِ، فضررُه أكثر مِن ضرر آكل الثُّوم والبَصَلِ الذي منعَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم مِن دخول المسجِدِ لئلَّا يُؤذِيَ النَّاسَ، ومِن ضرر المجْذُومَة التي منعها عُمَر ☺ الطَّوافَ مع النَّاس. وما ذكره ظاهرٌ.
          فصْلٌ: قال أبو عُمَرَ: الرجل الصَّالح قد يكون عائنًا، وأنَّ هذا ليس مِن باب الصَّلاح ولا مِن باب الفِسق في شيءٍ، وأنَّ العائِنَ لا يُنفى كما زعم بعض النَّاس. قلت: ذَكَرَ القاضي حُسَينٌ: أنَّ نبيًا عانَ قومَهُ.
          فصْلٌ: وقال القُرْطُبِيُّ: لو انتهت إصابةُ العين إلى أن يُعرَفَ بذلك ويُعلَمَ مِن حاله أنَّه كلَّما تكلَّم بشيءٍ معظِّمًا له أو مُتعجِّبًا منه أُصيبَ ذلك الشيءُ وتكرَّر منه ذلك بحيث يصيرُ ذلك عادةً فما أتلفَه بعينِه غَرِمَه، وإن قتلَ أحدًا بعينهِ عامدًا لقتلِهِ قُتل به، كالساحر القاتل بسحرِهِ عند مَن لا يقتله كفرًا، وأمَّا عندنا فيُقتل على كلِّ حالٍ قَتَلَه بسِحْرهِ أم لا لأنَّه كالزِّنْديقِ.
          فصْلٌ: ذهبت الفلاسفةُ _كما قال ابن العَرَبِيِّ_ إلى أنَّ ما يُصيب المَعِينَ مِن جهة العائِنِ صادِرٌ عن تأثير النُّفُوس بِقُوَّتها فيه، فأوَّل ما تُؤثِّر في نفسها، ثمَّ تقوى فتُؤثِّر في غيرها، وقيل: إنَّما هو سمٌّ في عين العائِنِ يُصِيب لفحةَ المَعِين عند التَّحدُّق إليه كما يُصِيب لَفْح سمِّ الأفعى مَن يَتَّصل به.
          قلت: ومذهب أهل السُّنَّة أنَّ العين إنَّما تُفسِدُ وتُهلِكُ عند نظرِ العائِنِ بفعل الله، أجرى العادة أن يخلُقَ الضَّرَرَ عند مقابلة هذا الشخص لشخصٍ آخرَ بمشيئة الله {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة:102].
          فصْلٌ: لَمَّا ذكر أَبُو بَكْرٍ الكَلَابَاذِيُّ حديثَ الحارث عن عليِّ ☺ أنَّ جبريلَ قال لرَسُول اللهِ صلعم: ((صدِّق بالعَينِ فإنَّ العَينَ حَقٌّ))، قال: يجوز أن يكون معنى العينِ العينُ الذي يجري فيها الأحكام والأمور في الخَلْق، وهو القضاء القديم السابق، فكأنَّه قال: صدِّق بالعين وتحقَّق أنَّ الذي أصاب منها إنَّما هو بِقَدَر الله لا أنَّه حدَثَ في الوقت، فكأنَّه قال: صدِّق بالقَدَر، ويجوز أن يكون الناظر إذا نظرَ إلى شيءٍ فاستحسنَهُ حتَّى شُغل به عن ذِكْر الله تعالى فلم يرجع إليه ولا إلى رؤيةِ صَنِيعه أحدثَ الله تعالى في المنظور علَّةً ويكون نظر النَّاظر سببها، فيؤاخذه الله بجنايتهِ بنظره إليه على غفلةٍ مِن ذِكْر الله، كأنَّه هو الذي فَعَلها به، وهذا كالضَّرْب مِن الضَّارِب بالسيف فيُحدِثُ اللهُ الجراحةَ في المضروب وهو يكون الجارحُ، وإن كان ذلك مِن فعل الله وليس بفعل الضَّارب، ولكن لَمَّا كان الضَّارب منهيًّا عن الضَّرب بغير حقِّه لَحِقَه الوعيد الذي أوعدَهُ الله به واستحقَّه بجنايتهِ وهو الضَّرب، فكذلك الناظِرُ نُهِيَ عن نظرِه إلى شيءٍ مِن الأشياء على غَفْلةٍ ونسيانِ ذِكْر الله، فكانت هذه جِنَايتُه، فيجوز أن يُحدث الله في المنظور علَّةً يُؤخذ النَّاظِرُ بجنايتها.
          قلت: وما فسَّر به العين بالقَدَرِ نظرٌ.
          فصْلٌ: الحُمَةُ بضمِّ الحاء المهملة ثمَّ ميمٍ مخفَّفةٍ ثمَّ هاءٍ، كذا ذكرَه ثعلَبٌ، قال: وهي سمُّ العَقْرب، وقال الخطَّابيُّ: هي كلُّ شيءٍ يَلْدغ أو يَلْسَع، وقال القزَّاز: هي السُّمُّ، وقيل: شَوْكة العَقْربِ، قال صاحب «المطالع»: وهو غَلَطٌ. وأصلُه: حُمَوٌ أو حُمَيٌ، والهاء عِوَضٌ مِن الواو، ولامه ياءٌ، وقال ابن سِيَده: والحُمَةُ قال بعضهم: هي الإبرةُ التي تَضْرِب بها الحيَّةَ والعَقْربَ والزُّنُبور أو تَلْدَغُ بها، والجمع: حُمَاتٌ وحُمًى.
          وقال الجاحظُ: مَن سمَّى إبرةَ العَقْرب: حُمَةً فقد أخطأ وإنَّما الحُمَة سُمومُ ذواتِ الشَّعَر كالدَّبْرِ، وذوات الأنيابِ والأسنانِ كالأفاعي وسائر الحيَّاتِ، وكَسُموم ذوات الإِبَرِ مِنَ العقارب، وأمَّا البِيشُ وما أشبهه مِن السُّمُوم فليس يُقال له: حُمَة، وهاهنا أمورٌ لها سُمُومٌ، ولم نسمعهم يُسمُّون جميع السُّمُوم الحُمَة، وقلنا مثل ما قالوا، وانتهينا إلى حيث انتهوا.
          وقال المطرِّزُ في «يواقيته»: حُمَّة بالتشديد. وعند كُرَاعٍ: وجمعها حُمُون وحُمَاتٌ، كما قال: بُرَةُ وبُرُون وبُرَات، قال: وكأنَّها مأخوذةٌ مِن حَمِيَتِ النَّارُ تَحْمَى إذا اشتدَّ حرارتها.
          فصْلٌ: قوله: (لاَ رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ) قال الخطَّابيُّ: يريد لا رُقية أَوْلَى وأَشْفى مِن رُقية العين. وقد أسلفنا عن القزَّاز: والحُمَةُ السمُّ، وكذلك قال ابن سِيْرينَ: يُكره التِّرْيَاق إذا كان فيه الحُمَة، يعني لحوم الحيَّاتِ، قال: والذي في الحديث: الحُمَةُ كلُّ هَامةٍ ذات سمٍّ من حيَّةٍ أو عَقْرَبٍ.
          قال الجَوْهَرِيُّ: الحُمَةُ حُمَةُ العقرب سمُّها وضرُّها، وهي بالتخفيف، وأمَّا حُمَّة الحرِّ / _وهو معظمُهُ_ فبالتشديد، وقيل: الحُمَة لَدْغةُ الحيَّة، وبخطِّ الدِّمْيَاطِيِّ: أي مِن لَدْغة ذي حُمَةٍ وهي السَّمُّ كالعقرب.
          فصْلٌ: وقوله في حديث ابن عبَّاسٍ: (فَأَفَاضَ القَوْمُ) أي في الكلام واندفعوا إليه.
          فصْلٌ: قال ابن بطَّالٍ: في حديث جابرٍ إباحةُ الكيِّ والحِجَامة، وأنَّ الشِّفاءَ فيهما لأنَّه لا يدلُّ أُمَّتَه على ما فيه الشِّفاء لهم إلَّا ومباحٌ لهم الاستشفاء به والتداوي.
          فإن قلت: ما معنى قوله: (وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ) قيل: معناه _والله أعلم_ أنَّ الكيَّ إحراقٌ بالنَّار وتعذيبٌ بها، وقد كان صلعم يتعوَّذ كثيرًا مِن فِتنة النَّار وعذاب النَّار، فلو اكتوى بها لكان قد عجَّل لنفسه أَلَمَ ما قد استعاذ بالله منه.
          فإن قيل: هل نجد في الشريعة مثل هذا ممَّا أباحه لأُمَّته ولم يفعله هو؟ قيل: بلى، وذلك أنَّه ◙ أباح لأصحابه أكل الضَّبِّ وامتنع هو، وبيَّن علَّة امتناعه منه فقال: ((لم يكنْ بأرضِ قَومِي فأجدُني أَعَافُهُ))، ومثلهُ عدمُ أكلِه الثَّومَ والبَصَلَ والْخَضْرَوَات المُنْتِنَةِ الرِّيح وأباحَها لأُمَّته، وقال: ((إنِّي أُناجي مَن لا تُنَاجي))، وقال مرَّةً: ((إنَّه يحضُرني مِنَ الله حاضرةٌ))، فكذلك أباح الكيَّ وكَرِهه في خاصَّة نفسِه.
          فصْلٌ: قوله: (لَا يَسْتَرْقُونَ) قيل: فيه دليلٌ على كراهة التداوي، وقيل: ليس فيه دليلٌ على منْعِ الرُّقية، ووجهُه أن يكون تركُها توكُّلًا على الله وَرِضًا بالبلاء والقضاء، وهذه أرفع الدَّرجات، وذهب إلى هذا أبو الدَّرداء وغيرُه مِنَ الصَّحابة، ورُوي ذلك عن الصِّدِّيق وابن مَسْعُودٍ.
          ويحتمل أن يكون كره مِنَ الرُّقية ما كان على مذهب التَّمائم التي كانوا يعلِّقُونها، والعُوَذ التي كانوا في الجاهليَّة يَتَعَاطونها يزعُمُون أنَّها تُذهِب الآفاتِ عنهم، وكانوا يرون معظمَ السبب في ذلك الجنَّ ومعونتهم، وهذا محظورٌ محرَّمُ التَّصديق، ويُكرَه أيضًا الرُّقَى بالعجميَّةِ لأنَّه رُبَّما يكون كفرًا وقولًا يَدخله الشِّرك.
          وقال أبو الحَسَن القابسِيُّ: معنى (لَا يَسْتَرْقُونَ) يريد به الذي كانوا يَسْتَرْقُونَ به في الجاهليَّة ممَّا ليس في كتاب الله، وهو ضرْبٌ مِن السِّحر، فأمَّا الاسْترقَاءُ بكتاب الله فقد فعلَهُ ◙ وأمرَ به، وليس بمُخرجٍ عن التوكُّل لأنَّه الثِّقةُ بالله والاعتماد في الأمور عليه، وتفويضُ كلِّ ذلك إليه بعد استفراغ الوسع في السَّعي فيما بالعبد الحاجةُ إليه في أمر دِينه ودُنياه، على ما أَمر به لا كما قاله بعض الصُّوفيَّة: إنَّ التوكُّلَ حدُّه الاستسلامُ للسِّباع، وتركُ الاحتراز مِنَ الاعداء، ورفضُ السَّعي للمعايش والمكاسِبِ، والإعراض عن علاج العِلل، تمسُّكًا بقوله: (وَلَا يَكْتَوُونَ...) الحديث، ومعناه: معتقدِين أنَّ الشفاءَ والبُرءَ في الكيِّ وغيره دون إذن الله في الشِّفاء، وأمَّا مَنِ اكتوى معتقدًا إذا شُفيَ أنَّ اللهَ هو الذي شفاه فهو المتوكِّل على ربِّه.
          فصْلٌ: وقوله: (وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) الطِّيَرَةُ: التطيُّر مِنَ الشيء، وهو أن يرى شيئًا يتشاءَمَ به، واشتقاقُه مِنَ الطَّير كالغُراب ونحوه، وفي بعض الحديث: ((ثلاثٌ لا يَسْلَم منهنَّ أحدٌ: الظنُّ والطِّيَرة والحَسَد، فإذا ظننتَ فلا تحقِّق، وإذا تطيَّرتَ فلا ترجِع، وإذا حَسدت فلا تبغِ)).
          وقال الطَّبَرِيُّ: معنى (لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) والله أعلم: الذين لا يفعلون شيئًا مِن ذلك معتقدِين أنَّ البُرءَ إنْ حدث عَقِبَ ذلك كان مِن عند غير الله وأنَّه كان بسبب الكيِّ والرُّقية، وأنَّ الذي يُتطيَّر منه لو لم ينصرف مِن أجله ومضى كان مضيُّه _إن أصابه مكروهٌ_ مِن قِبَل مُضيِّه لا مِن قِبَل الله، فأمَّا مَن انصرف ومضى وهو في كِلا حاليهِ معتقدٌ أنَّه لا ضارَّ ولا نافعَ غير الله، وأنَّ الأمورَ كلَّها بيده، فإنَّه غير معنيٍّ بقوله: (لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ).
          فصْلٌ: اختلف النَّاسُ في التوكُّل كما قاله الطَّبَرِيُّ، فقالت طائفةٌ: لا يستحقُّ اسمَ التوكُّل حتَّى لا يُخالطَ قلبَهُ خوفُ شيءٍ غير الله مِن سَبُعٍ عادٍ وعدُوٍّ لله كافرٍ حتَّى يتركَ السَّعيَ على نفسه في طلب رِزْقه؛ لأنَّ الله تعالى ضَمِن أرزاقَ العباد، والشغلُ بطلب المعاش شاغلٌ عن الخِدمة، واحتجَّوا بما رواه فُضَيْل بن عِيَاضٍ، عن هِشَامٍ، عن الحَسَن، عن عِمرَان بن حُصَيْنٍ رفعه: ((مَن انقطعَ إلى اللهِ كَفَاهُ اللهُ كلَّ مؤنةٍ، ورَزَقَهُ مِن حيثُ لا يحتسب، ومَن انقطعَ إلى الدُّنْيَا وكلَه الله إليها))، وبما رواه فُضَيْل، عن عَطِيَّة، عن أبي سَعِيدٍ ☺ مرفوعًا: ((لو فرَّ أحدُكم مِن رزقِهِ لأدركَهُ كما يدركُهُ الموتُ)).
          وقالت أُخرى: حدُّه الثِّقةُ به والاستسلام لأمره، والإيقانُ بأنَّ قضاءَه عليه ماضٍ، واتباعُ سنَّته وسنَّة رسوله، وَمِن اتِّباع سنَّته سعيُ العبد فيما لا بدَّ له منه مِن مَطْعَمٍ ومَشْرَبٍ ومَلْبَسٍ، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء:8].
          ومِن سنَّتِه أن يَحترزَ مِن عَدُوِّهِ كما فعل الشارع يوم أُحدٍ مِن مظاهرته بين دِرعين وتغفُّره بالمِغْفَر لِيَتَّقِي به سلاحَ المشركين، وإقعادِه الرُّماةَ على فمِ الشِّعْبِ ليدفعوا مَن أراد إتيانَه، وكصنيعِهِ الخَنْدَقَ حولَ المدينة تحصُّنًا للمسلمين وأموالِهم مع كونه مِن التوكُّل والثِّقة بربِّه بمحلٍّ لا يبلغُهُ أحدٌ، ثمَّ كان مِن أصحابهِ ما لا يجهله أحدٌ مِن تحوُّلهم عن منازلهم مرَّةً إلى الحبشة وأخرى إلى المدينة خوفًا على أنَّفسهم مِن مُشركي مكَّة وهربًا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم إيَّاهم.
          وقد أحسَنَ الحَسَنُ البَصْريِّ حين قال للمُخبِر عن عامر بن عبد الله أنَّه نزل مع أصحابه في طريق الشَّام على ماءٍ حالَ الأسدُ بينهم وبين الماء، فجاء عامرٌ إلى الماء فأخذَ منه حاجته، فقيل له: لقد خاطرتَ / بنفسك! فقال: لأَنْ تختلفَ الأسنَّةُ في جوفي أحبُّ إليَّ أن يعلمَ اللهُ أنِّي أخافُ شيئًا سواه: قد خاف مَن كان خيرًا مِن عامرٍ؛ مُوسَى ◙ حين قيل له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:19-20]، وقال أيضًا: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:18]، وقال حين ألقى السَّحَرةُ حِبَالَهم وعِصِيَّهُم: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى. قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:67-68]، قالوا: فالمخبرُ عن نفسِه بخِلاف ما طبعَ اللهُ عليه نفوسَ بني آدم كاذبٌ، وقد طبعهم الله على الهرب ممَّا يضرُّهم.
          وقد أمر اللهُ عبادَه بالإنفاق مِن طَيِّباتِ ما كسبوا، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] فأحلَّ للمُضطرِّ ما كان حَرُمَ عليه عند عدمِهِ للغذاء الذي أمرَه باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعامٍ ينزِلُ عليه مِن السَّماء، ولو ترك السَّعيَ في طلب ما يَتغذَّى به حتَّى هَلَك كان لنفسه قاتلًا، وقد كان سيِّدُنا رَسُول اللهِ صلعم يتلوَّى مِنَ الجوع ما يجدُ ما يأكلُه، ولم ينزل عليه طعامٌ مِن السَّماء، وهو أفضل البشر، وكان يَدَّخِر لنفسِه قوتَ سنةٍ حتَّى فتح الله عليه الفتوح، وقد روى أَنس بن مالكٍ ☺: أنَّ رجلًا أتى رَسُولَ اللهِ صلعم ببعيرٍ فقال: يا رَسُول اللهِ، أَعقِلُهُ وأتوكَّل أو أُطلِقُه وأتوكَّلْ؟ قال: ((اعقِلْهُ وتوكَّلْ)).
          وأمَّا اعتلالُهم بحديث: ((يَدخُلُ مِن أُمَّتي الجَنَّةَ سبعونَ ألفًا بغيرِ حِسَابٍ...)) إلى قوله: ((وعلى رَبِّهم يتوكَّلُون)) فذاك إغفالٌ منهم، فمعنى ذلك: الذين لا يَكْتوون معتقدِين أنَّ الشفاءَ والبُرءَ بالكيِّ دون إذنِ الله بالشِّفاء له، فأمَّا مَنِ اكتوى معتقدًا إذا شفاه الله بعلاجه أنَّ الله هو الذي شفاه به فهو المتوكِّلُ على ربِّه التوكُّلَ الصَّحيحَ، ولا أحد يتقدَّمُ سيِّدَ هذه الأُمَّة في دخول الجَنَّة ولا يَسبقه إليها، وقال: ((أنا أوَّلُ مَن يَقرعُ بابَ الجَنَّة، فيُقال لي: مَن أنتَ؟ فأقول: مُحَمَّدٌ، فيقولُ الخَازِنُ: ما أُمِرْتُ أن أَفتحَ لأحدٍ قبلَكَ)).
          قالوا: وقد كوى ◙ جماعةً مِن أصحابه، كوى أبا أُمَامَةَ أسَعْدَ بن زُرَارة مِن الذُّبْحَةِ، وكوى سَعْدَ بن مُعَاذٍ مِن كَلْمِهِ يومَ الخندق، وكوى أُبيُّ بن كعْبٍ على أَكْحلِه حين أصابَه السَّهمُ يومَ أُحد، وكُوي أبو طَلْحة في زمن رَسُول اللهِ صلعم، وقال جريرُ بن عبد الله: أَقسَمَ عليَّ عمرُ بن الخطَّاب لأكتوينَّ. واكتوى خبَّابُ بن الأَرَتِّ سبعًا في بطنه، واكتوى مِن اللوقة ابن عُمرَ ومُعَاويَة وعبد الله بن عَمْرٍو، وذلك كلُّه ذكرَه الطَّبَرِيُّ بأسانيدَ صِحَاحٍ، قال: فبانَ أنَّ معنى الحديثَ ما قلناه، وأنَّ الصَّوابَ في حدِّ التوكُّلِ الثِّقةُ بالله والاعتمادُ عليه كما أسلفناه أوَّلًا.
          فصْلٌ: سلف في بابٍ أوَّلَ الطبِّ مَن هو المَسبُوق، وعن «مسند ابن سَنْجَرَ» مِن رواية أمِّ قيسٍ عن رَسُولِ اللهِ صلعم أنَّه انتهى بها إلى البَقِيع فقال: ((يا أمَّ قيسٍ، يُبعَثُ مِن هذهِ المقبرَةِ سبعونَ ألفًا يدخلونَ الجَنَّة بغير حسابٍ، كأنَّ وجوهَهم القَمَرُ ليلةَ البدر))، فقام عُكَاشة... الحديثَ.
          فصْلٌ: قال الإسْمَاعِيلِيُّ: في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ: كيف تعرفُ مَن لم ترَ مِن أُمَّتِكَ؟ فقال: ((أَرَأَيْتَ لو كانَ لأحدٍ خَيْلٌ...))، وفي حديث ابن عبَّاسٍ هذا أنَّه لم يعرِف أُمَّتَه؛ فإنَّ فيه: ((فإذا سوادٌ قد ملأَ الأرضَ، قيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكُ))، فكيف وجه خروج الحديثَين مع صِحَّة إسنادِهما؟ فنقول: إنَّ السَّواد الذي في الأفق الثاني غيرُ مُدْرِكٍ الطرفَ إلَّا السَّوادَ والكثرة، ولا يُدرَكُ الأعيانُ والأشخاصُ حتَّى إذا صاروا منهم بحيث يُدرِكُ الطَّرفُ أشخاصَهم عرفَهم بالعلامة التي ذكرَها، وقد يرى الرجلُ شخصًا نائيًا ويكلِّمُهُ ولا يعلم أخاه، فإذا صار بالمحلِّ الذي يتبيَّنه عرَفَهُ حينئذٍ.