التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يذكر في الطاعون

          ░30▒ (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ).
          5728- ذكر فيه حديثَ إبراهيمَ بْنَ سَعْدٍ: (سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْدًا عَنِ النَّبِيِّ صلعم أَنَّهُ ◙ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا).
          5729- وذكر فيه أيضًا حديثَ ابن عبَّاسٍ، وفيه خروجُ عُمَرَ ☺ إلى سَرْغَ، وأَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ إلى أن حضر عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ عَوْفٍ _وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ_ فَقَالَ: (إِنَّ عِنْدِي مِن هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ. قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ).
          ثمَّ ذكرَه مختصرًا.
          5731- وحديثَ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: (لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ).
          5732- وحديثَ أنسٍ: (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)، وقد سلف في الجِهاد [خ¦2830].
          5733- وحديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺: (الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ)، ثُمَّ قالَ:
          ░31▒ (بَابُ أَجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ).
          5734- ذكر فيه حديثَ عائِشَةَ ♦: (أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلعم عَنِ الطَّاعُونِ) فَأَخْبَرَهَا أنَّه: (كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ بالطَّاعُونِ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ).
          رواه عن إسحاقَ: (حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ ♦)، وقال في آخره: (تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ دَاوُدَ) يريد بذلك ما أخرجَهُ هو في القَدَرِ عن إسحاقَ بن إبراهيمَ، عن النَّضْر بن شُمَيلٍ، عن داودَ به.
          فصْلٌ: هذه الخَرْجة مِن عُمَرَ سنةَ سبعَ عشرة، ذكرَ خليفةُ بن خيَّاطٍ أنَّ خروجَ عُمَر إلى الشام هذه المرَّة كان في السَّنَة المذكورة يتفقَّدُ فيها أحوالَ الرعيَّة وأمراءَهم، وكان قد خرج قبل ذلك سنةَ ستَّ عشرة لَمَّا حاصرَ أبو عُبَيْدة بيتَ المقدِسِ فقال أهلُه: يكون الصُّلح على يد عُمَر فخرج لذلك.
          فصْلٌ: سَرْغُ بسينٍ مهملةٍ مفتوحةٍ ثمَّ راءٍ مهملةٍ أيضًا ساكنةٍ ثمَّ غينٍ معجمةٍ: مدينةٌ بالشَّام، كما قاله أبو عُبَيْدٍ البَكْريُّ، افتتحها أبو عُبَيْدة، هي واليَرْمُوك والجَابِية والرَّمادةُ متَّصِلةٌ، وقال الحازِميُّ: هي أوَّل الحِجاز وآخر الشام، بين المُغيثَةِ وتَبُوك مِن منازلِ حاجِّ الشام، / وعبارة ابن التِّين أنَّه موضعٌ بأدنى الشام إلى الحِجاز. قال أبو عُمَرَ: قيل إنَّه وادٍ بِتَبُوكَ، وقيل: بقرب تَبُوكَ. قال صاحب «المطالع»: وعن ابن وضَّاحٍ بتحريك الراء، وهو مِن المدينة على ثلاثة عشر مرحلةً. وقال ابن مكِّيٍّ: الصَّواب سكون الراء.
          فصْلٌ في فوائدِ حديث عُمَرَ ☺:
          فيه المشاورةُ فيما ليس فيه نصٌّ، ودليلٌ على أنَّ الاختلافَ لا يُوجِب حكمًا وإنَّما يُوجِب النَّظر، وأنَّ الإجماعَ هو الذي يُوجِب الحكم والعمل، وفيه إثباتُ المناظرة والمجادلة عند الخِلاف في النوازل والأحكام، وفيه الانقيادُ لحديث رَسُول اللهِ صلعم، وفيه أنَّ الحديث يُسمَّى عِلْمًا، ويُطلق ذلك عليه، وفيه أنَّ الخَلْقَ يَجْرون في قَدَر الله وعِلْمه، وأنَّ أحدًا منهم لا يخرجُ عن حُكمه وإرادته، وفيه أنَّ العالِمَ قد يُوجَد عند مَن هو دونَهُ في العِلم ما لا يُوجَد عنده؛ لأنَّ عُمَرَ فوق عبد الرَّحْمَن في العِلْم والفِقه والدُّنوِّ مِن الشارع، وقد وُجِد عندَه في هذا الباب ما لم يكن عند عُمَر، وقد جهل مُحَمَّد بن سِيْرينَ رجوعَ عُمَر مِن الطَّاعُون ولم يَعرفه، وقال: إنَّما رجع لأنَّه أُخبر أنَّ الصَّائفةَ لا تخرجُ العام.
          وفيه أنَّ الحاكم لا يُنفذ قضاءً ولا يَفصِل حكمًا إلَّا مِن مشورةِ مَن يحضرُه مِن علماءِ موضعِهِ، وبهذا كان يكتبُ عُمَر إلى القضاة: وإنَّه لم يبلغ مِنْ عِلْمِ عالمٍ أن يجتزئَ به حتَّى يجمع بين عِلمِه وعِلْمِ غيره، ويتمثَّل:
خَلِيلَيَّ لَيْسَ الرأيُ في صَدْرِ وَاحِدِ                     أَشِيرَا عَليَّ اليومَ مَا تَرَيانِ
          وذكر سيفٌ عن سَهْلِ بن يُوسُف بن سَهْلِ بن مالكٍ الأنْصَارِيِّ عن أبيه، عن عُبَيْدِ بن صَخْر بن لَوْذَان الأنْصَارِيِّ: بعثَ رَسُول اللهِ صلعم مُعَاذًا لأهل اليمنِ وحَضْرَمَوت، وقال: ((إنَّك تقدُمُ على أقوامٍ أهلِ كتابٍ وإنَّهم سائلوك...)) الحديثَ، وفيه: ((ولا تَقضِيَنَّ إلَّا بِعِلْمٍ، وإن أشكلَ عليكَ أمرٌ فَسَلْ واستشِرْ، فإنَّ المُستَشيرَ مُعانٌ والمستشارُ مؤتَمنٌ، وإنْ أُلبِسَ عليك فَقِفْ حتَّى يتبيَّنَ لك أو تكتب إليَّ، ولا تَصرِمَنَّ قضاءِ فيما لم تجدهُ في كتاب الله أو سُنَّتي إلَّا عن ملأٍ)).
          وفيه دليلٌ عظيمٌ على ما كان عليه القومُ مِن الإنصاف في العِلم والانقياد إليه، وفيه استعمال خبرِ الواحد وإيجاب العمل به، وهو أصحُّ وأقوى ما يُروى من جهة الأثر في خبر الواحد لأنَّ ذلك كان بمحضرٍ مِن الصَّحابة في أمرٍ قد أشكلَ عليهم، فلم يقولوا لعبد الرَّحْمَن: أنت واحدٌ فلا يجب قبولُه، إنَّما يجبُ قبول خبر الكافَّة.
          قال أبو عُمَرَ: ما أعظمَ ضلالَ مَن قالَه، والله تعالى يقول: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فلو كان العدلُ إذا جاء بنبأٍ يتثبَّت في خبره ولم ينفُذ لاستوى الفاسق والعدل، وهذا خِلاف القرآن العظيم، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] وقد قال القاضي أَبُو بَكْرٍ: الصَّحابةُ أجمعوا على تقديم خبرِ الواحد على قياس الأُصُول، وما نحن فيه ظاهِرٌ.
          قال ابن التِّين: وإنَّما رجع عُمَر إلى رأي المشيخةِ لأنَّه ترجَّح عندَه على رأي مَن خالفَهم عن أمره بالدخول لأنَّه جمع بين الحزم والأخذ بالحذر، وأمَّا ما يُروى مِن ندمهِ على الرجوع فلا يصحُّ عنه شيءٌ مِن ذلك، وكيف يندمُ وقد ظهر له الحقُّ بحديث ابن عوفٍ؟!
          فصْلٌ: قال ابن عبد البرِّ: وقد رُوي عن ابن مَسْعُودٍ ☺ أنَّه قال: الطَّاعُون فتنةٌ على المقيمِ وعلى الفارِّ، فأمَّا الفارُّ فيقول: فررتُ ونجوتُ، وأمَّا المقيمُ فيقول: أقمتُ فمتُّ، وكذبا فرَّ مَن لم يجئ أجلُهُ وأقام مِن جاء أجلُهُ.
          وقال الأَصْمَعيُّ: هربَ بعضُ البَصْريِّين مِن الطَّاعُون، فركب حمارًا وسار هاربًا نحو سَفَوَان، فسَمِعَ حَادِيًا يحدو خَلْفَه:
ليس يُسبَقِ اللهُ على حَمَارِ                     ولا عَلَى ذِي مَيْعَةٍ طَيَّارِ
أَوْ يَأتِيَ الحتفُ على مِقْدَارِ                     قد يُصبحُ اللهُ أمام السَّارِي
          فرَجَع. وقال المَدَائِنيُّ: ويُقال: إنَّه قلَّ ما فرَّ أحدٌ مِن الطَّاعُون فَسَلِم مِن الموت.
          قال أبو عُمَرَ: ولم يبلغني أنَّ أحدًا مِن حَمَلَة العلم فرَّ مِن الطَّاعُون إلَّا ما ذكر المَدَائِنيُّ أنَّ عليَّ بن زيدِ بن جُدْعانَ هربَ منه فطُعن فماتَ بالسَّيالَةِ، قال: وهربَ عَمْرو بن عُبَيْدٍ ورِبَاط بن مُحَمَّد بن رِبَاطٍ إلى الرِّباطيَّة، فقال إبراهيمُ بن عليٍّ الفُقَيميُّ:
ولَمَّا اسْتَفَزَّ الموتُ كلَّ مُكَذِّبٍ                     !صَبَرتُ وَلَم يَصْبِر رِبَاطٌ ولا عَمْرو
          قال الأصمعيُّ: ولَمَّا وقع طَاعُون الجارفِ بالبصرة لم يُدفن بها الموتى، فجاءت السِّباع على رِيحها، وخَلَتْ سِكَّة بني جَرِيرٍ فلم يبقَ فيها إلَّا جاريةٌ، فَسَمِعَتْ صوتَ الذِّئب في سكَّتهم، فأنشأَتْ تقول:
أَلَا أيَّها الذِّئبُ المُنَادِي بسَحْرةٍ                     إليَّ أنبِّئْكَ الذي قَدْ بَدَا لِيَا
بَدَا لِي أَنِّي قد نُعيتُ وأنَّني                     بقيَّةُ قومٍ ورَّثُوني البَواكيا
وأنِّي بِلَا شكٍّ سَأَتْبَعُ مَن مَضَى                     ويَتْبَعُنِي مِن بعدُ ما كان باكيًا
          قال المَدَائِنيُّ: ولَمَّا وقع الطَّاعُون بمصْرَ في ولاية عبد العزيز بن مروانَ خرج هاربًا، فنزل قريةً مِن قُرى الصَّعيد يُقال لها سكر، فَقَدِم عليه حين نزلَها رسولٌ لعبد الملك، فقال له عبد العزيز: ما اسمُكَ؟ قال: طالبُ بن مُدْركٍ، فقال: أوَّه ما أُراني راجعًا إلى الفُسْطَاطِ، فماتَ في تلك القريةِ.
          وروى سعيدُ بن جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ ☻ في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] قال: كانوا أربعين ألفًا خرجوا فِرارًا مِن الطَّاعُون فماتوا، فدعا اللهَ نبيٌّ مِن الأنبياء أن يُحيِيَهُم حتَّى يَعْبدُوه فأحياهم اللهُ تعالى، وهذا النَّبِيُّ حِزْقِيل فيما قاله ابن قُتَيْبَة في «معارفه».
          فصْلٌ في الفِرار منه:
          في «مسند أحمدَ» مِن حديثِ جابرٍ رفَعَه: ((الفارُّ مِن الطَّاعُون كالفارِّ مِنَ الزَّحفِ، والصَّابرُ فيه كالصَّابرِ في الزَّحفِ))، وفي روايةٍ له: ((مَن صَبَر كانَ له أجرُ شهيدٍ))، / ورواه ابن خُزَيمةَ باللَّفظين في «كتاب التوكُّلِ»، وقيل لمُطَرِّفٍ: ما تقول في الفِرار مِن الطَّاعُون؟ قال: هو القَدَرُ يخافونَه وليس منه بُدٌّ.
          فصْلٌ: روي عن مالكٌ أنَّه سُئل عن قول عُمَرَ ☺: لبيتٌ بِرُكْبةَ أحبُّ إليَّ من عشرةِ أبياتٍ بالشام؟ فقال: إنَّما قال ذلك حين وقَعَ الوَبَاء بالشام. وَرُكَبَةُ وادٍ مِن أوديةِ الطائف، يريد لطول الأعمَّار والبقاء، ولشدَّة الوَبَاء بالشامِ، وقال ابنُ وضَّاحٍ: رُكْبَةُ موضِعٌ بينَ مكَّةَ والطَّائف في طريقِ العِراق.
          فصْلٌ: قال الطَّبَرِيُّ: في حديث سعْدٍ الدِّلالةُ على أنَّ على المرءِ توقِّيَ المكاره قبل نزولِها، وتجنُّبَ المخوِّفات قبل هجومِها، وأن عليه الصَّبر وترك الجَزَع بعد نزولها، وذلك أنَّه ◙ نهى مَن لم يكن بأرضِ الوَبَاءِ عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى مَن هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارًا منه، فكذلك الواجبُ أن يكون حُكم كلِّ متَّقٍ من الأمور غوائلَها سبيلُه في ذلك سبيل الطَّاعُون.
          وهذا المعنى نظير قوله ◙: ((لا تَتَمَنَّوْا لقاءَ العَدُوَّ واسألوا الله العافيةَ، وإذا لقيتموهم فاصبروا)).
          فإن قلت: فشُعْبَةُ روى عن يزيدَ بن أبي زِيَادٍ عن سُلَيْمَان بن عَمْرو بن الأحوصِ: أنَّ أبا مُوسَى بعثَ بَنِيه إلى الأعراب مِن الطَّاعُون. وروى شُعْبَة أيضًا عن قيسِ بن مُسلمٍ، عن طارق بن شِهَابٍ، عن أبي مُوسَى الأَشْعَريِّ ☺: أنَّ عُمَر كتبَ إلى أبي عُبَيْدةَ في الطَّاعُون الذي وقع بالشام: إنَّه عَرَضَت لي حاجةٌ لا غنًى بي عنك فيها، فإذا أتاك كتابي ليلًا فلا تصبح حتَّى تَرِد إليَّ، وإن أتاك نهارًا فلا تُمسِ حتَّى تَرِد إليَّ، فلمَّا قرأ أبو عُبَيْدة الكتاب قال: عرفتُ حاجةَ أمير المؤمنين، أراد أن يَسْتَبْقي مَن ليس بباقٍ، ثمَّ كتب إليه: إنِّي قد عرفتُ حاجتكَ، فحلِّلني مِن عَزْمتِك يا أميرَ المؤمنين، فإنِّي في جُنْد المسلمين، ولن أرغب بنفسي عنهم، فلمَّا قرأ عُمَر الكتاب بكى، فقيل له: تُوفِّي أبو عُبَيْدة؟ قال: لا. وكان قد كتب إليه عمر: إنَّ الأُرْدُنَّ أرْضٌ غَمِقَةٌ، وإنَّ الجَابِيةَ أرضٌ نَزِهَةٌ، فاظْهَرْ بالمسلمين إلى الجَابِيَةِ، فلمَّا قرأ أبو عُبَيْدة الكتابَ قال: هذا نسمعُ فيه لأمير المؤمنين ونُطيعه، فأراد ليركبَ بالنَّاس فوَجَد وَخْزَةً فطُعن، وتُوفِّي أبو عُبَيْدة، وانكشف الطَّاعُون. وروى شُعْبَة أيضًا أنَّه سألَ الأشعثَ: هل فرَّ أبوك مِن الطَّاعُون؟ قال: كان إذا اشتدَّ الطَّاعُون فرَّ هو والأسودُ بن هلالٍ، وروى شُعْبَة أيضًا عن الحَكَم أنَّ مسروقًا كان يفرُّ مِن الطَّاعُون.
          قيل: قد خالفَ هؤلاء مِن القُدوة مثلُهم، وإذا اختُلف في أمرٍ كان أولى بالحقِّ مَن كان موافقًا أمرَ رَسُول اللهِ صلعم، روى شُعْبَة أيضًا عن يزيدَ بن خُمَيرٍ، عن شُرَحْبيلَ بن شُفْعَةَ قال: وقع الطَّاعُون، فقال عَمْرو بن العاصي: إنه رِجْزٌ، فتفرَّقوا عنه، فبلغَ شُرَحْبيلَ بن حَسَنَة، فقال: سمعتُ رَسُولَ اللهِ صلعم وعَمْرٌو أضلُّ مِن بعيرِ أهلهِ: ((إنَّه دعوةُ نَبِيِّكم، ورحمةٌ مِن ربِّكُم، وموتُ الصَّالحين قبلَكُم، فاجتمِعُوا له ولا تفرُّوا عنه))، فبلغ ذلك عَمْرًا فقال: صَدَقَ. وروى أيُّوب عن أبي قِلابة، عن عَمْرو بن العاصي قال: تفرَّقوا عن هذا الرِّجْز في الشِّعاب والأوديةِ ورؤوس الجبال، فقال مُعَاذٌ: بل هو شهادةٌ ورحمةٌ ودعوةُ نبيِّكم، اللَّهُمَّ أعطِ مُعَاذًا وأهلَهُ نصيبَهم مِن رحمتكَ، فطُعِنَ في كفِّه، قال أبو قِلابة: قد عرفتُ الشَّهادة والرَّحمة ولم أعرف ما دعوةُ نبيِّكم، فسألتُ عنها، فقيل: دَعَا ◙ أن يجعلَ فَنَاءَ أُمَّته بالطَّعْن والطَّاعُون حتَّى دعا أن لا يجعل بأسَ أمَّته بينهم فمُنِعَها، فدعا بهذا.
          كذا هو بلفظ: والطَّاعُون، والصَّحيح كما نبَّه عليه القُرْطُبِيُّ أنَّه بـ(أو) أي لا يجمعُ ذلك عليهم، وأمَّا الطَّبَرِيُّ فصحَّحها. بيانُه: أنَّ مرادَه بأمَّته المذكورين في الحديث إنَّما هم أصحابه لأنَّه صلعم دعا لجميع أمَّتهِ أن لا يُهلكهم بِسَنَةٍ عامَّةٍ، وألَّا يُسلِّط عليهم أعداءهم، فأُجيب إلى ذلك، فلا تذهبُ بيضَتُهم ولا معظمُهم بموتٍ عامٍّ، ولا يعدو على مقتضى هذا الدُّعاء أن يكون ما تأوَّلناه، والدُّعاء المذكور في حديث أبي قِلابة يقتضي أن يَفنى جميعُهم بالقتل والموت العامِّ، فتعيَّن أن يصرِفَ الأوَّل إلى أصحابه لأنَّهم هم الذين اختار اللهُ تعالى لهم الشهادة بالقتل في سبيله وبالطاعون الذي وقَعَ في زمنِهم فَهَلَك به بقيَّتُهم، فعلى هذا فقد جمع الله لهم الأمرين، فتبقى الواو على أصلها مِن الجمع، أو تُحمل على التنويعيَّة والتقسيمية.
          وسُئلت عائِشَةُ ♦ عن الفِرار منه فقالت: هو كالفِرار مِن الزَّحف، وقد أسلفناه مرفوعًا، وسُئل الثَّورِيُّ عن الرجل يخرج أيَّام الوباءِ بغير تجارةٍ معروفةٍ، قال: لم يكونوا ليفعلوا ذلك، ولا أُحبُّ ذلك.
          فإن قلت: الأجلُ لا بدَّ مِن استيفائه، فما حكمة النَّهي عن الدخول وعن الخروج؟ قلتُ: حَذَرًا أن يظنَّ أنَّ الهلاك كان مِن أجل القُدوم، والنَّجَاءَ مِن الفِرار كما سلف، وهو نظيرُ الدُّنُوِّ مِن المَجْذُوم والفِرار منه مع الإعلام بأن لَا عَدْوَى ولا طِيرَةَ، وقال بعض النَّاس فيما حكاه ابن الجَوْزيِّ: إنَّما نهى عن الخروج لأنَّ الأصحَّاء إذا خرجوا هَلَكَتِ المرضى، فلا يبقى مَن يقومُ بحالهم، فخروجُهم لا يقطعُ بنجاتِهم، وهو قاطعٌ بهلاك مَن بقي، والمؤمن للمؤمن كالبُنيان يشدٌّ بعضُه بعضًا، وأكثر أهل العِلم على منع القُدُوم عليه ومنع الخروج فرارًا منه.
          وفي قوله: (فِرَارًا مِنْهُ) جواز الخروج منه لا على سبيل الفِرار منه، وكذا الداخل كما نبَّه عليه بعض العلماء، وقال عُرْوَة بن رُوَيمٍ: بلغنا أنَّ عمرَ ☺ كتب إلى عاملِه بالشام: إذا سمعتَ بالطَّاعُون قد وقع عندكم فاكتب إليَّ أَخرجْ إليه. /
          فَرْعٌ: سُئل مالكٌ عن البلد يقع فيه الموتُ والأمراضُ هل يُكره الخروج إليه؟ فقال: ما أرى بأسًا خرج أو أقام، قيل: فهذا شبهُ ما جاء به الحديث مِن الطَّاعُون؟ قال: نعم.
          فصْلٌ: حديث أنسٍ السَّالف في العُرَنيِّين لَمَّا اسْتَوخَمُوا المدينةَ أمرَهم أن يخرجوا منها، حُجَّةٌ لمن أجاز الفِرار مِن أرض الوباء والطَّاعُون، لكن ليس كما توهَّم، وذلك أنَّ القومَ شَكَوا إلى رَسُول اللهِ صلعم أنَّهم كانوا أهل ضَرْعٍ ولم تُلَائمهم المدينة فاسْتَوْخَمُوها لمفارقتِهم هواءَ بلادهم، فهم الذين اسْتَوْخُمُوا المدينةَ خاصَّةً دون سائر النَّاس، فأمرَهم ◙ بالخروج منها.
          وفي هذا مِن الفِقه: أنَّ مَن قَدِم إلى بلدةٍ ولم يُوَافقْهُ هواؤها أنَّه مباحٌ له الخروجُ منها والتماسُ أفضل هواء منها، وليس ذلك بفرارٍ مِن الطَّاعُون، وإنَّما الفِرار منه إذا عمَّ الموت في البَلْدةِ السَّاكنين فيها والطَّارئين عليها، وفي ذلك جاء النَّهي.
          فصْلٌ: قوله: (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) دليلٌ أنَّه يجوز الخروج منها لا على قصد الفِرار منه _كما سلف أيضًا_ إذا اعتقد أنَّ ما أصابَهُ لم يكن لِيُخطئه، وكذلك حكمُ الداخل أيضًا إذا أيقنَ أنَّ دخولَه لا يجلِبُ إليه قَدَرًا لم يكن قدَّره اللهُ عليه فمباحٌ له الدخول، وقد رُوي عن عُرْوَة بن رُوَيمٍ _كما سلف_ أنَّ عُمَر كتب إلى عامله بالشام: إذا سمعت بالطَّاعُون وقَعَ عندكم فاكتب إليَّ حتَّى أخرج إليه، وروى القاسِمِ عن عبد الله بن عُمرَ أنَّ عُمَر قال: اللَّهُمَّ اغفر لي رُجوعي مِن سَرْغَ.
          فصْلٌ: حديث عائِشَة ♦ يُفسِّر قولَه ◙: (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ)، و(المَطْعُونُ شهيدٌ) يبيِّنُ أنَّ الصَّابرَ عليه المحتسبَ أجره على الله، العالِمَ أنَّه لن يُصيبَه إلَّا ما كَتَبَ الله عليه، ولذلك تمنَّى مُعَاذٌ أن يموتَ فيه لعلمه إن مات فهو شَهِيدٌ، وأمَّا مَن جَزِع مِن الطَّاعُون وكَرِهه وفرَّ منه فليس بداخلٍ في معنى الحديث.
          فصْلٌ: سلف أنَّ (الْوَبَاء) يُمَدُّ ويُقصَر، والثاني عليه الجماعة، وهو مرضٌ عامٌّ يُفضي إلى الموت غالبًا، وعند الأطبَّاء هو فسادُ الهواء فيفسد بفسادِه الأمزجة، وقال أبو زيدٍ: أرضٌ وَبِئةٌ، إذا كثُر مرضُها. وقال صاحب «الجامع»: الوباء على فعل الطَّاعُون، وقيل: كلُّ مرضٍ عامٍّ وباءٌ. قال ابن دُرُسْتَوَيْه: والعامَّة لا تهمزه، وإن كان ترك الهمز جائزًا.
          والشَّأْمُ بهمزةٍ ساكنةٍ، ويجوز تخفيفه بحذفها كـرأس وشبَهه، وفيه لغةٌ ثالثةٌ: شآم، بالمدِّ وأُنكرت، تُذكَّر وتُؤنَّث.
          وقوله: (ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ) قال الدَّاوُدِيُّ: فيه دليلٌ أنَّ الفتحَ فتحُ مكَّةَ؛ لأنَّ أبا سُفْيَان ومَن أسلمَ معه مِن مُهَاجرة الفتح.
          وقوله: (إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ) أي سَفَرٍ، قال الجَوْهَرِيُّ: الظَّهْرُ طريق البرِّ، وفي حديث ابن شِهَابٍ عن سالِمٍ أنَّ عُمَرَ إنَّما رجع بالنَّاس لحديث عبد الرَّحْمَن بن عوفٍ، فلعلَّ معنى قوله: (إِنِّي مُصْبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ) على معنى الارتياءِ والاستخارة ثمَّ عزم لحديث عبد الرَّحْمَن بن عوفٍ.
          وقوله: (نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ) يريد أنَّ القَدَرَ بالموت لا بدَّ أن يُدركنا، فنفرُّ مِن قَدَرٍ يقع في أنفسنا منه شيءٌ إلى قَدَرٍ لا يقعُ في أنفسنا.
          وقوله: (لَهُ عدْوَتَانِ) أي شاطئانِ وحَافَّتانِ، وهي بضمِّ العين وكسرها، وقُرئ بهما في قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} [الأنفال:42]، وقال أبو عمرو: العدوة _بالضمِّ والكسر_ المكان المرتفع.
          وقوله: (إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ) قال ابن التِّين: ضُبط بفتح الخاء وكسر الصاد في بعض الكتب، وفي بعضها بالسكون، وفي «الصِّحاح»: الخَصِبُ _بالكسر_ نقيضُ الجَدْب، و(جَدْبَةٌ) بفتح الجيم وسكون الدَّال: ضدُّ الخَصْب.
          فصْلٌ: وقوله قبلُ: (لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، أَبُو عُبَيْدةَ بْنُ الجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ) قال كُرَاعٌ: كان الشامُ على خمسة أجنادٍ: الأُرْدُنُّ، وَحِمْصُ، ودِمَشْقُ، وفِلَسْطِينُ، وَقِنَّسْرِين، على كلِّ ناحيةٍ أميرٌ، ولم يَمُت عُمَرُ ☺ حتَّى جمع الشامَ كلَّه لمُعَاويَةَ.
          فصْلٌ: وقوله: فَقَال عُمَرُ لَمَّا قَالَ أَبُو عُبَيْدة: (أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟): (لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدةَ؟ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ) فيه قولان:
          الأوَّل: لعاقبته، الثاني: هلَّا تركتَ هذه الكلمة لمن قلَّ فَهْمُه، وروى ابن جَرِيرٍ أنَّ عُمَر قال لأبي عُبَيْدة في هذا الحديث: شككتَ؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أشاكًّا كان يَعْقُوبُ ◙ حيث قال: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يُوسُف:67]؟ فقال عُمَر: والله لأدخلنَّها، فقال أبو عُبَيْدةَ: واللهِ لا تدخلُها، فردَّه.
          فصْلٌ: قوله: (لاَ يَدْخُلُ المَدِينَةَ المَسِيحُ وَلَا الطَّاعُونُ) فيه فَضْلٌ ظاهرٌ للمدينة.
          قلتُ: وسبب عدم الدخول أنَّه في الأصل رِجْزٌ وعذابٌ، وإن كان شهادةً فببركةِ مجاورته ◙ بها دفع عنهم ألمه، وقد دعا بنقل الحُمَّى عنها إلى الجُحْفَة كما سلف وهي طَهُورٌ، وسيأتي أنَّ الحَرق والغَرَق شهادةٌ، وقد استعاذَ ◙ منهما.
          وأمَّا قول عائِشَة: (قَدِمْنَا المَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيْئَةٌ) فلعلَّه كان قبل استيطانِ المدينة، أو المراد به الوَخَمُ، وقد ورد أنَّ الطَّاعُونَ لا يدخلُ مكَّةَ أيضًا، وإسناده ضعيفٌ، وفي «المعارف» لابن قُتَيْبَةَ أنَّه لم يقع بالمدينة ولا بمكَّةَ طَاعُونٌ قطُّ. قلتُ: أمَّا المدينة فَنَعَم، وأمَّا مكَّةَ فدخلها سنة تسعٍ وأربعين وسبع مئة.
          و(الْمَسِيحُ) بالحاء المهملة، ورُوي بالمعجمة، وضبطه ابن التِّين بكسر الميم وتشديد السين، ثُمَّ قالَ: وقيل: المسيح. قال الحرْبِيُّ: سُمِّي بذلك لأنَّ فردةَ عَينهِ ممسوحةٌ عن أن يُبصِر بها. / وقال ابن الأعرابيِّ: (الْمَسِيحُ) الأعورُ، وبه سُمِّي الدجَّال. وقال ابن فارسٍ: هو الذي أحدُ شِقَّي وجهِهِ ممسوحٌ لا عين له ولا حاجب، وبذلك سُمِّي دَجَّالًا لأنَّه ممسوحُ العين.
          فصْلٌ: (الطَّاعُونُ) الموتُ الشاملُ، وعبارة الدَّاوُدِيِّ: إنَّه حبَّةٌ تنبُتُ في الأَرْفَاغِ، وكلُّ ما انثنى مِن الإنسان.