التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء

          ░1▒ (بَابُ مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إلَّا أنزَلَ لَهُ شِفَاءً). /
          5678- ذكر فيه حديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺: عن رَسُولِ اللهِ صلعم: (مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إلَّا أنزَلَ لَهُ شِفَاءً).
          الشرح: هذا الحديث أخرجه مِن أفراده، وقال الحاكم: إنَّهُ صحيحٌ على شرط مُسْلمٍ أيضًا.
          (الطِّبِّ) مثلَّثُ الطاء اسم الفعل كما ذكره ابن السِّيْد في «مثلَّثه»، وأمَّا الطَّبُّ _بالفتح_ فالرجلُ العالِمُ بالأمور، وكذلك الطبيب، وامرأةٌ طبَّة، والطِّبُّ السِّحر، والطِّبُّ الدَّاء، مِن الأضداد، والطِّبُّ الشَّهوة، هذه كلُّها مكسورةٌ، وفي «المنتهى» لأبي المعالي: الطِّبُّ الحَذَقُ بالشيء والرِّفْق، وكلُّ حاذقٍ عند العرب طَبيبٌ، وإنَّما خَصُّوا به المُعالِجَ دون غيره مِن العلماء تخصيصًا وتشريفًا. وجمع القِلَّة: أَطِبَّة، والكثرة: أَطِبَّاء، والطبُّ طرائِقُ تُرى في شُعَاع الشَّمس إذا طَلَعَت، وحدُّه كما قال ابن سِيْنَا في «أُرْجُوزته»:
الطِّبُّ حِفْظُ صِحَّةٍ بُرْءُ مَرَضْ                     مِن سَبَبٍ في بَدَنٍ فِيْهِ عَرَضْ
          وهو ينقسمُ إلى عِلْميٍّ وإلى عَمَليٍّ، والعِلْمِيُّ طَبِيعيٌّ وخارجيٌّ عنها، والمرض خروج الجسم عن المجرى الطَّبِيعيِّ، والمداواة ردُّهُ إليه وَحِفْظ الصِحَّة بقاؤه عليه، والشيء يُداوى بضدِّهِ، ولكن قد يدِقُّ وتَغمُض حقيقة المرض وحقيقة طبع الدَّاء فتقلَّ الثِّقة بالمُضادَّةِ، ومِن هنا يقع الخطأ مِن الطبيب، وطِبُّ سيِّدِنا رَسُول اللهِ حاصِلٌ بالوحي وَبِعَادَةِ العرب، والتبرُّك كالاستشفاء بالقرآن، وحقيقة الطبيب: العالمُ بالطبِّ، وهو العِلْم بالشيء الخفيِّ الذي لا يبدو إلَّا بعد معاناة بفكرٍ صافٍ وَنَظَرٍ وافٍ.
          ولَمَّا وَلِيَ أبو الدَّرداء القضاءَ كتب إليه سُلَيْمَان: بَلَغَني أنَّك جُعلت طبيبًا تداوي النَّاس، فاحذر أن تكون مُتَطبِّبًا فَتُهْلِكَهم. وقد نفى عنه الطبَّ، وإنَّما هو رفيقٌ خشيةَ النِّسبة إلى الأدوية، والمزيلُ الله كما سلف.
          فصْلٌ: وفي سند حديث الباب (أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْريُّ) واسمه مُحَمَّد بن عبد الله بن الزُّبَيْر، قال التِّرْمِذِيُّ: وفي الباب عن ابن مَسْعُودٍ وأبي هُرَيْرَةَ وأبي خُزَامةَ عن أبيه وابن عبَّاسٍ وعن أُسَامَة بن شَرِيكٍ، قلتُ: وأبي سَعِيدٍ أخرجه قاسمُ بن أَصْبغَ، وحديثُ أُسَامَة أخرجَه أصحاب السُّنن الأربعة، وصحَّحه التِّرْمِذِيُّ وابن حبَّان والحاكم، وفيه: ((إلَّا داءً واحدًا وهو الهَرَم))، وفي الذي قبلَهُ ((إلَّا السَّامُّ)) وهو الموت، وفي روايةٍ لابن حبَّان: ((إلَّا السَّامُّ والهَرَم))، وأخرجهُ مُسْلمٌ مِن حديثِ جابرٍ، وأغربَ الحاكمُ فاستدركَه عليه، وقال: صحيحٌ على شرطه، وحديث ابن مَسْعُودٍ أخرجه النَّسَائيُّ بزِيَادة: ((فعليكم بأَلْبَانِ البقر فإنَّها تَرُمُّ مِن كلِّ الشَّجر))، وصحَّحه ابن حبَّان، ولأبي نُعَيْمٍ: ((تأكل)) وفي لفظ: ((تحيط))، قال ثابتٌ السَّرَقُسْطِيُّ في «دلائله»: تَرُمُّ وتُريم وتَقُمُّ وتُقيم، يُقال: الشَّاةُ تَرُمُّ بمِرَمَّتَيْها، وهما: شفتاها، والرَّمْرَامُ: حشيشُ الرَّبيع.
          وحديث أبي خُزَامةَ أخرجَه ابن ماجه، وفي نسخةٍ: خُزَامةُ عن أبيه: سُئل رَسُول اللهِ صلعم: أرأيت أدويةً نَتَداوى بها، وَرُقًى نَسْتَرقِي بها، وَتُقًى نَتَّقِيها، هل تردُّ مِن قَدَرِ الله؟ قال: ((هي مِن قَدَرِ اللهِ)). قلت: وفي الباب عن بُرَيْدةَ أخرجه ابن أبي عاصِمٍ، وأنس أخرجه أيضًا، وأبي الدَّرداء أخرجه أبو داودَ.
          فصْلٌ: فيه إباحة التداوي وجواز الطبِّ، وهو ردٌّ على الصُّوفيَّةِ أنَّ الولايةَ لا تتِمُّ إلَّا إذا رضي بجميع ما نَزَلَ به مِن البلاء ولا يجوز له مداواتُه، وقد أباح الشارعُ التداوي وقال للرَّجُلين: ((أيُّكما أطبُّ؟)) فقالا: أوَفي الطبِّ خيرٌ يا رَسُول اللهِ؟ فقال: ((أَنْزل الدَّاءَ الذي أنزل الدواءَ)) أخرجهُ مالكٌ في «الموطَّأ» عن زيد بن أسلَمَ، وروى الأَوْلى منه عاصمُ بن عُمرَ، عن سُهَيلٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ مرفوعًا، والباقي بأسانيدَ صحيحةٍ، فلا معنى لقول مَن أنكر ذلك.
          وفيه الإعلامُ أنَّ تلك الأدوية تَشفي بإذن الله، وأنَّ البُرءَ ليس في وِسْعِهِ أن يُعَجِّلَه قبل نزولِ وقتهِ.
          والشِّفَاءُ ممدودٌ، قال تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] وقد سلف استثناء الهرم والموت، فالحديث ليس على عُمُومه، والدَّاءُ ممدودٌ مفتوحُ الدَّالِ لا غير، والدَّوَاءُ فتحُ دالِه أفصحُ مِن كسرِها كما قاله القُرْطُبِيُّ.
          فصْلٌ: وقد تلافى الشارعُ بآخر كلامه ما قد يُعارَض به أوَّله بأن يُقال: إنَّكَ قلتَ: ((لكُلِّ داءٍ دواءٌ))، ونحن نجد كثيرًا من المرضى يُدَاوَون فلا يَبْرَؤون، فنبَّه على أنَّ ذلك لفقد العِلْم بحقيقة المداواة لا لفقد الدَّواء:
والنَّاسُ يَلْحَوْنَ الطَّبيبَ وَإِنَّمَا                     غَلَطُ الطَّبِيبِ إِصَابَةُ المِقْدَارِ
          والربُّ تعالى لو شاء لم يخلُق داءً، وإذ خلقَهُ فلو شاء لم يخلُق له دواءً ولا أَذِنَ في استعماله، وإذ أَذِن فيه فقد ندَبَ إلى تركه، قال ◙: ((يدخل الجَنَّة مِن أُمَّتي سبعون ألفًا لَا يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ))، وفي روايةٍ: ((سبع مئة ألف))، وفي روايةٍ لأبي عُمَرَ: ((دَخَلَت أُمَّةٌ بقضِّها وقَضِيْضِها الجَنَّةَ، كانوا لَا يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ))، وحديث ابن مَسْعُودٍ: فيأمرُ اللهُ الملَكَ بثلاثةٍ: رِزْقُهُ وأَجَلُهُ وأين يموت، وإنَّكم تُعَلِّقون التَّمائمَ على أبنائكم مِن العينِ. ذكرَه إسماعيلُ القاضي موقوفًا، وقد رُوي هذا المعنى مرفوعًا.
          ثمَّ هذا فيمَن اسْتَرقى واكْتَوى قبل حصول مرضٍ يوجبِه، فإذا وقع نُدب إلى التداوي لقوله: ((تَدَاووا))، وهذا أمرٌ مع اعتقاد / أنَّ الفاعل الربُّ جلَّ جلالُه، فالدَّواء لم يُحدِث شفاءً ولا ولَّده كما أنَّ الدَّاء لا يُحدِث سقمًا.
          فائدةٌ تتعلَّقُ بحديث ((يَدخُلُ الجَنَّة مِن أُمَّتِي سبعون ألفًا)) ذكرناها استطرادًا:
          مَن هو الذي قيل له: ((سبقَكَ بها عُكَاشَةُ))؟ قال ثعلبٌ: كان منافقًا، وهو مردودٌ بما ذكرَه الخطيب عن مُجَاهِد أنَّه سَعْد بن عُبَادةَ، وهو بعيدٌ منه، ويُجاب بأنَّه لم يبلُغ منزلتَه لشهوده بدرًا، وهو مِن معاريض الكلام والرِّفْق بالجاهل في الخِطَاب إذ أنَّه لم يهتمَّ كما اهتمَّ عُكَاشَةُ بل سمعَ فطلب، ولحسم المادة.