التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الفأل

          ░44▒ (بَابُ الْفَأْلِ).
          5755- ذكر فيه حديثَ أبي هُرَيْرَةَ أيضًا وقال: (الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ).
          5756- وحديثَ أنسٍ مرفوعًا: (لاَ عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ، الكَلِمَةُ الحَسَنةُ‏)‏‏. ‏
          قال الخطَّابيُّ: الفرْقُ بين الفأل والطِّيَرَة أنَّ الفأل مأخوذٌ مِن طريق حُسن الظَّنِّ بالله تعالى، والطِّيَرَة إنَّما هي مِن طريق الاتِّكال على شيءٍ سواه. وقال الأَصْمَعيُّ: سألتُ ابنَ عونٍ عن الفألِ، فقال: هو أن يكون مريضًا فيسمع: يا سالِمُ أو يكون غائبًا فيسمع: يا واجدُ.
          قلت: وكان ◙ يسألُ عن اسم الأرض والجبل والإنسان، فإن كان حَسَنًا سُرَّ به واستبشر، وإن كان سَيِّئًا ساءَهُ ذلك، كما سأعقِد له فصلًا.
          وزعَمَ بعضُ المعتزلة أنَّ قوله: (لاَ طِيَرَةَ) يعارُض قولَه: ((الشُّؤْمُ فِي ثَلاثٍ))، وهو تعسُّفٌ وبُعدٌ عن العلم، فحديث الطِّيَرَة مخصوصٌ بحديث الشُّؤم، فكأنَّه قال: لا طِيَرَة إلَّا في هذه الثلاث لمن التزم الطِّيَرَةَ، يوضِّحُه حديثُ زُهَيرِ بن مُعَاويَة، عن عُتْبة بن حُمَيدٍ، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ أنَّه سمع أنسًا يقول: قال: رَسُول اللهِ صلعم: ((لَا طِيَرَةَ، والطِّيَرَةُ عَلَى مَن تَطَيَّرَ، وإن تكن في شيءٍ ففي الدَّار والمرأةِ والفَرَس)) أخرجه ابن حبَّان في «صحيحه»، وفي «مسند أبي الدَّرداء» لإبراهيمَ بن مُحَمَّد بن عُبَيْدٍ: شُؤمُ الفرس أن لا يُحمَل عليها في سبيل الله. وقد سلف، فبانَ بهذا الحديث أنَّ الطِّيَرة إنَّما تلزمُ مَن تطيَّر بها، وأنَّها في بعض الأشياء دون بعضٍ، وذلك أنَّ أهلَ الجاهليَّة كانوا يقولون: الطِّيَرة في هذه الثلاثة، فنهاهم صلعم عن الطِّيَرة فلم ينتهوا، فَبَقِيت في الثلاثة التي كانوا يَلْتَزِمون التطيُّر فيها، ومثلُه قولُه تعالى: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس:18] {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19] أي حظُّكم مِن الخير والشرِّ معكم ليس هو مِن شُؤمنا، وكذلك قوله ◙ في الدَّار: ((اتركوها ذَمِيمةً)) فإنَّما قال ذلك لقومٍ عَلِم منهم أنَّ الطِّيَرة والتشاؤم غَلَب عليهم وثَبَتَ في نفوسهم لأنَّ إزاحةَ ما ثبتَ في النفس عَسِيرٌ، وقد قال ◙: ((ثلاثٌ لا يَسْلَمُ منهنَّ أحدٌ: الطِّيَرة والظنُّ والحسدُ، فإذا تطيَّرتَ فلا ترجِع، وإذا حَسَدَت فلا تبغِ، وإذا ظننْتَ فلا تحقِّق)).
          وفي «علل الدَّارَقُطْنِيِّ» مِن حديثِ أبي ذرٍّ مرفوعًا: ((مَن خرجَ مِن بيته ثمَّ رجعَ مِن الطِّيَرة رجع كافرًا))، وقال: الأشبهُ وَقْفُهُ. وليس في قوله: ((دَعُوْهَا ذَمِيْمَة)) أمرٌ منه بالتَّطيُّر، كيف وقد قال: (لَا طِيَرَةَ)، وإنَّما أمرَهم بالتحوُّلِ عنها لِمَا قد جعل الله في غرائز النَّاس من استثقالِ ما نالَهم فيه الشرُّ وإن كان لا سبب له في ذلك، وحُبِّ مَن جرى لهم الخير على يديه وإن لم يُرِدْهم به، وكان الشارع يستحبُّ الاسمَ الحَسَنَ والفألَ الصَّالح، وقد جعل الله تعالى في فِطْرة النَّاس محبَّةَ الكلمةِ الحَسَنة والفألِ الصَّالح والأُنْسَ به، كما جعل فيهم الارتياحَ للبُشرى والمنظر الأنيق، وقد يمرُّ الرجلُ بالماء الصَّافي فيُعجبه وهو لا يَشْربهُ وبالرَّوضة المنثورة فتسرُّه وهي لا تنفعهُ.
          وفي بعض الحديث أنَّه ◙ كان يُعجبُهُ الأُتْرُجُّ والفَاغِيَة وهي نَوْر الحِنَّاء، وهذا مثل إعجابه بالأسماء الحَسَنة والفألِ الحَسَن، وعلى حَسَب هذا كانت كراهيته للاسم القبيح كبني النَّار وبني حَزْنٍ وشبهه، وقد كان كثيرٌ مِن أهل الجاهليَّة لا يرون الطِّيَرَةَ شيئًا ويمدحون مَن كَذَّب بها، قال المُرَقِّشُ:
ولقد غَدَوْتُ وَكُنتُ لَا                     أَغْدُو على وَاقٍ وحَائِم
فإذا الأَشَائِمُ كَالأَيَا                     مِنِ والأَيَامِنُ كَالأَشَائِم
          كذا عَزَاه ابنُ بطَّالٍ إلى المُرَقِّشُ، وعزاه غيرُه إلى خرز بن لَوْذَانَ، فلعلَّه هو، وأوَّلُهُ:
لا يُقْعِدَنَّكَ عن بِغَا                     ءِ الخيرِ تَعقَادُ التَّمَائِم
          وبعد البيتين:
وَكَذَاكَ لَا خَيْرٌ ولَا شَرٌّ                     عَلَى أحدٍ بِدَائِم
وقد خُطَّ ذلكِ في كِتَا                     بِ الأَوَّليَّاتِ القَدَائِم
          وقال عِكْرِمَةُ: كنتُ عندَ ابن عبَّاسٍ ☻ فمرَّ طائِرٌ يَصِيحُ، فقال رجلٌ مِن القوم: خيرٌ خيرٌ، فقال ابن عبَّاسٍ: ما عند هذا لا خيرٌ ولا شرٌّ.
          فصْلٌ: قال ابن الأثير: الطِّيَرَةُ بكسر الطاء وفتح الياء وقد تُسكَّن، وهي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تَطَيَّر طِيَرَةً، وتخيَّر خِيَرَةً، ولم يجئْ مِن المصادر هكذا غير هذَين، وأصل التَّطيُّر _فيما يُقال_ هو التَّطيُّر بالسَّوانح والبَوَارح مِن الطَّير والظِّباء وغيرهما، وكان ذلك لصدِّهم عن مقاصدهم، ومنه الحديث: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وما منَّا إلَّا، ولكنَّ الله يُذهِبُه بالتوكُّلِ))، كذا جاء مقطوعًا ولم يَذكر المستثنى فحُذِفَ اختصارًا واعتمادًا على فهم السَّامع، وهذا كالحديث الآخر: ((ما مِنَّا إلَّا مَن همَّ أو لمَّ إلَّا يحيى بن زَكَريَّا)) فأظهر المستثنى، وقيل: إنَّ قوله: ((وَمَا مِنَّا)) مِن قول ابن مَسْعُودٍ أدرجَهُ في الحديث، وإنَّما جعلها مِن الشِّرْك لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ التَّطيُّر يجلِبُ لهم نفعًا ويدفعُ عنهم ضرًّا إذا عَمِلوا بموجبه، فكأنَّهم أشركوه مع الله في ذلك، وقوله: ((وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ)) معناه: إذا خَطَر له عَارِضُ التَّطيُّر فتوكَّلَ على الله وسلَّم إليه ولم يَعمل بذلك الخاطر لم يُؤاخَذ به.
          فصْلٌ: قوله هنا: ((الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ))، وفي روايةٍ: ((إنْ كانَ الشُّؤْمُ فِي شَيءٍ ففي كَذَا)) مع قوله: (لَا طِيَرَةَ) قال ابن الجَوْزيِّ: غَلَّظَتْ عائِشَةُ ♦ على مَن روى هذا الحديث، وقالت: إنَّما كان أهلُ / الجاهليَّة يقولون: الطِّيَرَةُ في كذا وكذا. وهو ردٌّ لصريح رواية ثقاتٍ، والصَّحيح أنَّ المعنى: إنْ خيفَ في شيءٍ أن يكون سببًا لِمَا يُخاف شرُّه ويُتشاءَم به فهذه الأشياء لا على السبيل الذي يظنُّه أهلُ الجاهليَّة مِن الطِّيَرَة والعَدْوى. وقال الخطَّابيُّ: لَمَّا كان الإنسانُ لا يستغني عن هذه الأشياء الثلاثة، ولكن لا يَسْلَم مِن عارِضِ مَكروهٍ فأُضيفَ إليها الشُّؤْمُ إضافة محلٍّ.
          فصْلٌ: الشُّؤْمُ مهموزٌ نقيضُ اليُمْنِ، تقول: ما أَشْأَمَ الرَّجلُ، قال الجَوْهَرِيُّ: والعامَّة تقول: ما أَيْشْمَه. ويُسمَّى كلُّ محذورٍ ومكروهٍ مشؤومًا ومَشْأمَةً، والشُّؤْمَى: الجهة اليُسرى، وأصحابُ المَشْأَمةِ: الذين سُلِكَ بهم طُرق النَّار لأنَّها عن الشِّمال، وقيل: لأنَّهم مَشَائِيم على أنَّفسهم، وقيل: لأنَّهم أخذوا كتابَهم بشِمالهم.
          فصْلٌ: نقل ابنُ التِّين عن مَعْمَرٍ أنَّه سمع مَن يقول: شُؤمُ المرأة أنْ لا تَلِد، والدَّابَّة إذا لم يُغزَ عليها، والدَّارُ جارُ السوء. قال: إنَّه حَسَنٌ لأنَّه ◙ نفى الشُّؤْمَ والطِّيَرَةَ، فقال: ((لَا شُؤمَ ولا طِيَرَةَ))، قال: وقيل: لم يسمع الراوي الحديثَ، وأوَّلُهُ: ((إنَّ الجَاهِليَّةِ تَقُولُ الشُّؤمُ فِي ثَلَاثٍ...))، فحكى ما سمع، وقيل: يكون الشُّؤم لقومٍ دون قومٍ.
          فصْلٌ: (الْفَأْلُ) مَهْمُوزٌ، وجمعُه فُؤُولٌ، قال الخطَّابيُّ: وإنَّما صار خيرَ أنواع هذا الباب لأنَّ مصدره عن نطق وبيانٍ، فكأنَّه خبرٌ جاءك عن غَيْبٍ، وأمَّا سُنُوح الطَّير وبُرُوحُها فليس فيه شيءٌ مِن هذا المعنى، وإنَّما هو تكلُّف مِن المتَطيِّر، وتعاطٍ لِمَا لا أصل له في نوع عِلْمٍ وبيانٍ، إذ ليس للطَّير والبهائم نطْقٌ ولا تمييز يُستدلُّ بنطقها على مضمون معانيه، وطلبُ العِلْم مِن غير مظانِّه جَهْلٌ، فلذلك تُركت واسْتُؤنِسَ بالفأل.
          ومعنى سُنُوحِها وبُرُوحِها أنَّ الأوَّل: ما ولَّاك مَيَامِنَه، وذلك إذا مرَّ مِن مَيَاسِرك إلى مَيَامِنِك، والعرب تتيمَّن به، وتتشاءم بالبارِحِ لأنَّه لا يُمكنك أن ترميَهُ حتَّى تَنْحَرِف إليه، وفي المَثَلِ: مَن لي بالسَّانِحِ بعد البارِحِ.
          فصْلٌ: حكى ابن العَرَبِيِّ في تأويل قوله: ((لَا طِيَرَةَ)) قولين: هل معناه الإخبار عمَّا تعتقده الجاهليَّة، أو الإخبار عن حُكم الله الثابت في الثلاثة بأنَّ الشُّؤمَ فيها عادةٌ أجراها الله وقضاءٌ أنْفَذَه يُوجِدُهُ حيث شاء فيها متى شاء. قال: والأوَّل ساقطٌ لأنَّ الشارعَ لا يُبعَث ليُخبِرَ على النَّاس ما كانوا يعتقدونه، وإنَّما بُعث لِيُعْلِمَهم ما يَلْزمُهم أن يَعْلَموه ويَعْتَقِدوه.
          فصْلٌ سلف الوعدُ به:
          روى التِّرْمِذِيُّ صحيحًا عن أنسٍ ☺: أنَّه ◙ كان إذا خرجَ لحاجتِهِ يُعْجِبه أن يسمعَ: يا نَجِيحُ، يا رَاشِدُ. وهذا مِن التفاؤل، ولأبي داودَ عن بُرَيْدَةَ: أنَّه ◙ كان لا يتطيَّرُ مِن شيءٍ، وكان إذا بَعَثَ عاملًا سألَ عن اسمه، فإذا أعجبَهُ اسمه فَرِحَ به، وإن كَرِه اسمُه رُئِيَ كراهَةُ ذلك في وجهه، وإذا دخل قريةً سأل عن اسمِها، فإن أعجبَه فَرِح به ورُئي بِشْرُ ذلك في وجهه، وإن كَرِه اسمُها رُئي كراهةُ ذلك في وجهه، وفي روايةٍ: ((مَن عرَضَ له مِن هذه الطِّيَرَة شيءٌ، فليقل: اللَّهُمَّ لا طَيرَ إلَّا طَيْرُك، ولا خَيْرَ إلَّا خَيْرُكَ، ولا إلهَ غَيْرُك، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله)).
          وروى قاسمُ بن أَصْبغَ أنَّ بُرَيْدَةَ لَمَّا رآه رَسُولُ اللهِ صلعم وهو قاصِدٌ المدينةَ، قال: ((مَا اسْمُكَ؟)) قال: بُرَيْدَةُ، فالتفت إلى أبي بَكْرٍ، وقال: ((بَرَدَ أَمْرُنا وَصَلُح، ممَّن؟)) قال: مِن أَسْلَمَ، فقال لأبي بَكْرٍ: ((سَلِمْنَا))، ثُمَّ قالَ: ((مِمَّنْ؟)) قال: مِن بني سَهْمٍ، قال: ((خرج سَهْمُنا)).
          وروى ابن صاعِدٍ في «مناسكه» عن أبي حَدْرَدٍ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قال يومَ الحُدَيْبيَةِ: ((مَن يَسُوقُ إِبِلَنَا؟)) فقال رجلٌ: أنا، فقال: ((مَا اسْمُكَ؟)) قال: فلانٌ، قال: ((اجلس))، فقام آخَرُ، فقال: ((ما اسمكَ؟)) قال: نَاجِيَةُ، قال: ((سُقْهَا)). وفيه عن يَعِيشَ الغِفَارِيِّ قال: دعا رَسُولُ اللهِ صلعم يومًا بناقةٍ، فقال: ((مَن يَحْلِبُها؟)) فقام رجلٌ، فقال: ((مَا اسْمُكَ؟)) قال: مرَّة، قال: ((اقعدْ))، ثمَّ قامَ آخرُ، فقال: ((مَا اسْمُكَ؟)) قال: جَمْرَةُ، قال: ((اقعدْ))، فقام يَعِيشُ، فقال: ((مَا اسْمُكَ؟)) قال: يَعِيشُ، قال: ((احْلِبْها)). ولابن عَدِيٍّ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ ☺ مرفوعًا: ((إذا تطيَّرتم فامْضُوا، وعلى الله فتوكَّلُوا))، وعند الزَّمَخْشَرِيِّ: ((ليسَ مِنَّا مَن تطيَّرَ أو تُطيِّر له، أو تكهَّن أو تُكهِّن له))، وفي روايةٍ عن أنسٍ ☺ مرفوعًا: ((ويُعْجِبني الفألُ الصَّالحُ))، قالوا: وما الفألُ الصَّالحُ؟ قال: ((الكلمةُ الطَّيِّبةُ))، وعن أبي هُرَيْرَةَ ☺: سمع النَّبِيُّ صلعم كَلِمةً فَأَعْجَبَتْهُ، فقال: ((أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِن فِيكَ)).
          وقال عُرْوَة بن عامِرِ: ذُكِرَت الطِّيَرَةُ عند رَسُول اللهِ صلعم فقال: ((أَحْسَنُها الفألُ، ولا تَرد مسلمًا، فإذا رأى أحدُكم ما يكرَه فليَقُل: اللَّهُمَّ لا يأتي بالحَسَناتِ إلَّا أنتَ، ولا يدفَعُ السَّيِّئاتِ إلَّا أنتَ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله))، وعن قَبِيصَةَ مرفوعًا: ((العِيَافَةُ والطِّيَرَةُ والطَّرْقُ مِن الجِبْتِ)).
          فصْلٌ: أخذ مالكٌ بظاهر قوله: (الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ) وَحَمَلَه على ظاهره، قال القُرْطُبِيُّ: ولا يُظنُّ بمَن قالَ هذا القولَ أنَّ الذي رُخِّص فيه مِن الطِّيَرَةِ بهذه الثلاثة الأشياء هو على نحو ما كانت الجاهليَّةُ تعتقِدُ فيها فإنَّ ذلك خطأٌ، وإنَّما يعني بذلك أنَّ هذه الأشياء أكثر ما يتشاءم النَّاس بها لملازمتهم إيَّاها _ولذلك خصَّها بالذِّكْر، وقد سلف ذلك، وقد يَصِحُّ حملُه على أعمَّ مِن ذلك فيدخل فيه الدُّكَّان والفُنْدُق والحَارَة وغيرها_ فمَن وقع في نفسه شيءٌ مِن ذلك فقد أباح الشرعُ له أن يَتركَه ويستبدلَ به غيره ممَّا تَطِيب به نفسه، ولم يُلزمه الشرع أن يُقِيمَ في موضعٍ يَكرهه أو امرأةٍ يكرهها، بل قد فسَحَ له في ترك ذلك كلِّه، لكن مع اعتقاد أنَّ الله هو الفعَّال لِمَا يريد، أنشد المُبَرِّد في «كامله»:
لَا يَعْلَمُ المَرْءُ لَيْلًا مَا يُصَبِّحُهُ                     إلَّا كَوَاذِبَ ممَّا يُخْبِرُ الفَالُ /
والفَألُ والزَّجْرُ والكُهَّانُ كُلُّهُمُ                     مُضَلِّلُون وَدُونَ الغَيبِ أَقْفَالُ
          وقال ضابِئُ بنُ الحَارِثِ البُرْجُمِيُّ:
وَمَا عَاجِلَاتُ الطَّيْرِ تُدْنِي مِنَ الفَتَى                     نَجَاحًا وَلَا عَنْ رَيْثِهِنَّ يَخِيبُ
وربَّ أمورٍ لَا تَضِيرك ضَيْرةً                     ولِلقَلْبِ فِي مَخشَاتِهِنَّ وَجِيبُ
وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُوطِّنُ نَفْسَهُ                     عَلَى نَائِباتِ الدَّهْرِ حِيْنَ تَنُوبُ
          وللَبِيدِ بين رَبِيْعَة:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوارِقُ بَالحَصَى                     وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللهُ صَانعُ
فَسَلْهُنَّ إنْ أَحْدَثْنَ عِلمًا متى الفَتَى                     يَذُوقُ المَنَايَا أَمْ مَتَى الغَيْبُ وَاقِعُ
          ورأى أعرابيٌّ في دِهْلِيزِ عُبَيْدِ اللهِ بن زِيَادٍ صورةَ أسدٍ وكبشٍ وكلبٍ، فقال: أسدٌ كَالِحٌ، وكبشٌ نَاطِحٌ، وكَلْبٌ نابِحٌ، أمَا واللهِ لا تُمتَّع بهذه الدَّارِ أبدًا، فما لبث عُبَيْد الله إلَّا أيَّامًا حتَّى قُتل.
          وتفاءَلَ هِشَام بن عبد الملك بنصْرِ بن سَيَّارٍ فقلَّده خُرَاسَانَ، فكان بها عشرةَ أحوالٍ، ولَمَّا سار عامِرُ بن إسماعيلَ صاحبُ السَّفَّاح في طلبِ مروانَ بن مُحَمَّدٍ اعترضَهُ بالفَيُّومِ أُنَاسٌ، فسأل رجلًا منهم عن اسمهِ فقال: منصورُ بن سعدٍ مِن سَعْد العَشِيرة. فتبسَّم تفاؤلًا به، فظفر بمروانَ في تلك الليلة. وتفاءَلَ المأمون بمنصورِ بن بسَّامٍ فكان ذلك سببَ مكانته عندَه. وقال بعضهم: خرجتُ في بِغَاء ناقةٍ لي ضلَّت، فسمعِتُ قائلًا يقول:
وَلَئِنْ بعثت لنا النُّعَا                     ة فَمَا النُّعَاةُ بِوَاجِدِينا
          فلم أتطيَّر منه ومضيتُ، فَلَقيني رجلٌ قبيحُ الصُّورة به ما شئتَ مِن عاهةٍ، فما ثَنَاني ذلك وتقدَّمت، فَلَاحَت لي أَكَمَةٌ فسَمِعْتُ مِنها: والشرُّ يُلقى مَطَالِعَ الأَكَم، فلم أكترثْ له، فلمَّا عَلَوتُها وَجَدْتُ ناقتي تفاجَّت للولادة فَنُتِجْتُها وَعُدْتُ إلى أهلي مع ولدِها.
          وقال بشيرٌ غلامُ حربٍ الرَّاوندِيِّ للمنصُورِ يومَ قَتْلِ أبي مُسلمٍ: يا أمير المؤمنين، رأيتُ اليومَ ثلاثةَ أشياء تطيَّرتُ لأبي مُسْلمٍ منها، قال: وما ذاك؟ قال: ركبَ فَوَقَعَت قَلَنْسُوَتُهُ عن رأسه، وكَبَا به فرسُهُ، وسمعتُه يقول: إنِّي مقتولٌ وإنَّما أخادِعُ نفسي، فإذا رجلٌ ينادي في الصحراء لآخَرَ: اليوم آخِرُ الأجل بيني وبينك، فقال المنصور: الله أكبرُ، ذهب أجلُهُ وانقطَعَ مِن الدُّنْيَا أثرُهُ، فكان كذلك.
أَلَا أيُّها الغَادِي على ذمِّ طائِرٍ                     ليلزمه جَرْمًا وليس له جَرْمُ
وما لِغُرَابِ البَيْنِ بالبَيْنِ خِبْرَةٌ                     ولا لغُرَابِ البَيْنِ بالْمُلْتَقَى عِلْمُ
          وخرَج النَّابِغَةُ الذُّبْيَانيُّ _واسمه زِيَادٌ_ مع زَبَّان بن سيَّارٍ الفَزَارِيِّ للغزو، فلمَّا أراد الرَّحيلَ نظَرَ إلى جرادةٍ سَقَطَت عليه فقال: جرادةٌ تجرَّدت وذاتُ لونين، غيري مَن خرج، فلم يلتفت زَبَّان إلى طِيرَته وسار فرجَعَ غانمًا، فقال زَبَّان:
تخبَّرَ طيرهُ فيها زِيَادٌ                     لِتُخبره وما فيها خَبِيرُ
أقامَ كأنَّ لُقْمانَ بن عادٍ                     أشارَ له بحكمته مُشِيرُ
تعلَّمْ أنَّه لا طيرَ إلَّا                     على مُتَطَيِّرٍ وهو الثبور
بَلَى شيءٌ يوافِقُ بعضَ شيءٍ                     أحايينًا وباطِلُهُ كَثِيرُ