التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب رقية العين

          ░35▒ (بَابُ رُقْيَةِ الْعَيْنِ).
          5738- ذكر فيه حديثَ عائِشَة ♦ قَالَتْ: (أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلعم، أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ).
          5739- وحديثَ أُمِّ سَلَمَةَ ♦ أَنَّه صلعم (رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ: اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ).
          الشَّرح: شيخ البُخَارِيِّ في الأوَّل (مُحَمَّدُ بْنُ كَبِيرٍ) وهو بالباء الموحَّدة بعد الكاف، وروى الثاني عن مُحَمَّد بن خالدٍ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الدِّمْشقِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) به، ثُمَّ قالَ: (تَابَعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَالِمٍ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، وَقَالَ عُقَيلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلعم).
          وشيخ البُخَارِيِّ فيه (مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ) هو مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله بن خالدٍ الذُّهْلِيُّ، كما صرَّح به أبو مَسْعُودٍ والجيَّانِيُّ، وقال: حدَّث أبو مُحَمَّدٍ ابنُ الجَارُودِ بحديثِ أمِّ سَلَمَةَ هذا عن مُحَمَّد بن يحيى الذُّهْليِّ عن مُحَمَّد بن وَهْبِ بن عَطِيَّة.
          وقد اجتمع في هذا الحديث لطيفةٌ عزيزةٌ: وهي سبعةٌ كلُّ واحدٍ منهم اسمه مُحَمَّدٌ: الفَرَبْرِيُّ عن البُخَارِيِّ عن شيخِه، آخرُهم الزُّهْرِيُّ وهو مُحَمَّد بن شِهَابٍ. و(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَالِمٍ) هو أبو يُوسُف الأَشْعَريُّ، حِمْصِيٌّ، مات سنة تسعٍ وأربعين ومئة، انفرد به البُخَارِيُّ.
          فصْلٌ: والسَُّفْعَةُ بفتح السين وضمِّها: شُحُوبٌ في سوادٍ في الوجه، وفي «البارع»: هو سواد الخَدَّين مِن المرأة الشَّاحبةِ. وقال الأَصْمَعِيُّ: هي حُمْرَةٌ يعلوها سَوَادٌ، وقيل: علامةٌ مِن الشَّيطان، وقيل: ضَرْبةٌ واحدةٌ منه، مِن قوله: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15] سَفَعْتُ بالنَّاصيةِ وَسَفَعْتُهُ: لطمته، وَسَفَعْتُهُ بالعَصَا: ضَرَبتهُ، وأصل السَّفعِ: الأخذُ بالنَّاصِيةِ، ثُمَّ تُستعمل في غيرها. وقيل في قوله: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}: لنأخذنَّ بها. وقيل: لَنُسَوِّدَنَّ وجهه، ولِنُزَرِّقنَّ عينَيه حتَّى يكون ذلك علامةً له، فاكتفى بالنَّاصِية عن ذكر الوجه، وقيل: لَنُذِلَّنَّه.
          وعبارةُ ابنِ بطَّالٍ: السَّفْعَةُ سوادٌ وشُحُوبٌ في الوجه، وامرأةٌ سَفْعَاءُ الخَدَّين، والسُّفْعُ الأثافيُّ لِسَوادها، مِن كتاب «العين»، وفي «الصِّحاح»: السُّفعةُ في الوجه سوادٌ في خَدَّيِّ المرأة الشَّاحبةِ، وضبطَه بضمِّ السين، قال: وبه سَفْعَةٌ مِن الشَّيطان أيْ مَسٌّ منه، ضبطه بفتح السين.
          وقال الخطَّابيُّ: أصلُ السَّفعِ الأخذُ بالنَّاصِيَةِ، يريدُ أنَّ بها شيئًا مِن الجنِّ وأخذًا منها بالنَّاصِية، وقال ابن الجَوْزيِّ عن ابن ناصرٍ عن الخَطِيب التَّبْرِيزِيِّ قال: قال أبو العلاءِ المعرِّيُّ: هو بفتح السِّين أجود، وقد تُضمُّ سينُها، من قولِهم: رجلٌ أَسْفَعُ، أي لونه أَسْوَدُ. وقال أبو عُبَيْد: أي إنَّ الشَّيطان أصابَها، وقيل: السَّفْع الأخذ بالنَّاصِية، / ثمَّ ذكر الآيةَ، وقال غيرُه: السُّفْعَةُ الصُّفْرةُ والتَّغيُّرُ، وكلُّ أصفرَ أَسْفَعُ.
          فصْلٌ: وقولُه: (فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ) أي أصابتها عينٌ، يُقال: رجل منظورٌ، إذا أصابته العين، وقال صاحبُ «المطالع»: النظرة بفتح النُّون وسكون الظَّاء أي عينٌ مِن نظر الجنَّ.
          قال الخطَّابيُّ: وعيونُ الجنِّ أنفذُ مِن الإنْسِيَّة، ولَمَّا مات سَعْدٌ سُمِعَ قائلٌ مِن الجنِّ يقول:
نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الخَزْرَجِ سَعْدَ بن عُبَادَه                     وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِئ فُؤَادَه
          قال: فتأوَّله بعضُهم: أي أصبناهُ بعينٍ.
          فصْلٌ: والرُّقْيَة مِن العين والنَّظرة وغير ذلك باسم الله تعالى وكتابه مرجو بركتها لأمر الشارع به، وقد أمر باغتسال العائِنِ وصبِّ ذلك الماء على المَعِين كما سلف، روى مالكٌ عن ابن شِهَابٍ عن أبي أُمَامَة بن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ أنَّه قال: رأى عامرُ بن رَبِيْعَة سَهْلَ بن حُنَيْفٍ يغتسلُ، فقال: ما رأيتُه كاليوم ولاجِلْدَ مُخَبَّأَةٍ، فلُبِطَ سَهْلٌ _قال أبو زيدٍ: رجلٌ مَلْبُوطٌ وقد لُبِطَ لَبْطًا، وهو سُعَالٌ أو زُكَامٌ_ فأُخبرَ رَسُولُ اللهِ صلعم بمرضهِ، فقال: ((هَلْ تتَّهِمُونَ بهِ أحدًا؟)) قالوا: نَتَّهِم عامر بن رَبِيْعَةَ، فدعا رَسُولُ اللهِ صلعم عامرًا فتغيَّظَ عليه، وقال: ((عَلَامَ يَقتُلُ أحدُكم أخاه؟ أَلَا برَّكْتَ، اغتسِلْ له))، فغسلَ عامِرُ وجهَه وَمِرْفَقَيه وَرُكَبَتيه وأطرافَ رِجْلَيه وداخلةَ إزارهِ في قَدَحٍ، ثمَّ صبَّ عليه، فراح سَهْلٌ مع النَّاس ليس به بأس. وقال مَعْمَرٌ عن ابن شِهَابٍ: فصبَّ على رأسه، وكَفَأ الإناءَ خَلْفَه، وأمرَه فَحَسا حَسَوَاتٍ، وقال الزُّهْرِيُّ: هي السُّنَّة.
          فيه مِن الفِقه: إذا عُرف العائنُ أنَّه يُقضى عليه بالوضوء لأمر الشارع بذلك، وأنَّها نُشْرَةٌ يُنتفع بها، وفي قوله: ((أَلَا بَرَّكْت؟!)) أنَّ مَن رأى شيئًا فأعجبَه فقال: تباركَ الله أحسن الخالقين، وبرَّك فيه فإنَّهُ لا تضرُّه العين، وهي رُقْيةٌ منه؟
          فصْلٌ: قوله: (اسْتَرْقُوا لَهَا) هو أمرٌ بالرُّقْيَة، وهو ساكن الرَّاء، أصلُه: استرقيوا، واستُثقِلَت ضمَّةُ الياء فحُذفت، فاجتمع ساكنان الواو والياء فحُذفت الياء لاجتماعهما، ثمَّ ضُمَّت القاف لتصحَّ الواو.
          فصْلٌ: الرَّقَى المكروهة أمورٌ مُشتَبهةٌ مركَّبَةٌ مِن حقٍّ وباطِلٍ مِن ذِكْر الشياطين والاستعانة بهم والتعوُّذ بِمَرَدَتِهم، وإلى هذا ينحو مَن يَرقي الحيَّةَ وَيَسْتَخرج السُّمَّ مِن بدنِ الملسُوعِ، ويُقال: إنَّ الحيَّةَ لِمَا بينها وبين الإنسان مِن العداوة الظَّاهرة تؤالِفُ الشَّياطين إذ هي أعداءُ لبني آدم، فإذا عزم على الحيَّة بأسماء الشَّياطين أجابت وَخَرَجَت مِن مكانها، وكذلك اللَّدِيغ إذا رُقي بتلك الأسماءِ سالت سُمُومُها وَجَرت مِن مواضعها مِن بدنِ الإنسان، ولذلك كَرِه مِن الرُّقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه وبكتابه الذي يُعرف بيانه ليكون بريئًا مِن شَوبِ الشِّرك.
          والفرْقُ بين هذه الرُّقْيَة والمنهيِّ عنها مِن رُقْيَة المُعَزِّمين الذين يدَّعُون تسخيرَ الجنِّ أنَّ الأُولى هي الطبُّ الرِّيْحَاني وعليه الصَّالحون، فلمَّا عَدِموا فزِعَ النَّاس إلى الطِّبِّ الجِسْمَانيِّ.