التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الدواء بالعسل

          ░4▒ (بَابُ الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ، وَقَوْلِه تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]).
          5682- ثُمَّ ساقَ فيه مِن حديث عائِشَةَ ♦: (كَانَ صلعم يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ).
          وقد اختلف أهلُ التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله: ({فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69])، فقال بعضُهم: على القرآن، وهو قول مُجَاهِدٍ، وقال آخرون: العسل، رُوي ذلك عن ابن مَسْعُودٍ وابن عبَّاسٍ، وهو قول الحَسَن وقَتَادَةَ وهو أَوْلَى بدليلِ حديثَي الباب، وقال قَتَادَةُ في حديث أبي سَعِيدٍ: ((صَدَقَ القرآنُ وكَذَبَ بَطْنُ أخيك))، وفي البُخَارِيِّ عن قَتَادَة: ((صَدَقَ اللهُ))، وقال بعضُهم: المعنى فيه شفاءٌ لبعض النَّاس، وتأوَّلوا الآية وحديثَي جابرٍ وأبي سَعِيدٍ على الخُصُوص، وقالوا: الحِجَامة وشُرْب العسل والكيُّ إنَّما هو شفاءٌ لبعض الأمراض دون بعضٍ، أَلَا ترى قوله: ((أو لَذْعَةٌ بنارٍ توافِقُ الدَّاء)) فَشَرَطَ صلعم موافقتها للدَّاء، فدلَّ هذا أنَّها إذا لم تُوافِق الدَّاءَ فلا دواء فيها، وقد جاء في القرآن ما لفظُه لفظُ العُمُوم والمراد به الخُصُوص كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يريد المؤمنَ، كقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف:179] أي خَلَقْنا، وقال تعالى في بلقيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِن كلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] ولم تُؤتَ ملكَ سُلَيْمَان، وَمِثله كثيرٌ.
          وقال المَازَرِيُّ: هذا الكلام مِن بديع صناعة الطبِّ، وذلك أنَّ سائرَ الأمراض الامتلائيَّةِ إمَّا أن تكونَ دمويَّةً أو صَفْراويَّةً أو سَوْدَاويَّةً أو بَلْغَمِيَّةً، فالأوَّل شفاؤُه إخراج الدَّم، والباقي الإسهالُ بما يليق بالخِلط منها، فكأنَّه نبَّه بالعسل / على المُسْهِلات وبالحِجَامة على الفَصْد ووضع العَلَق وغيرهما ممَّا في معناهما، وقد قال بعضُهم: الفَصْدُ يدخل في قوله: (شَرْطَةِ مِحْجَمٍ)، وإذا أعيا الدَّاءُ فآخِرُ الطبِّ الكيُّ، فذكره في الأدوية لأنَّه يُستعمل عند غَلَبة الطِّباع لقوى الأدوية وحيثُ لا ينفع الدواء المشروب، فيجب أن يُتأوَّل ما في كلامه مِن هذه الأساليب، وتعقيبه بقوله: ((لَا أَكْتَوِيْ)) إشارةٌ إلى أن يؤخِّر العلاج به حتَّى تدفع الضَّرورة إليه ولا يُوجَد الشِّفاء إلَّا فيه؛ لِمَا فيه مِن استعجال الألم الشديد في دفْعِ ألمٍ قد يكون أضعفَ مِن ألمِ الكَيِّ.
          ثمَّ أجاب عن شُبَهِ مَن ألحدَ واعترضَ، وأنَّ هذا الذي أصابه الإسهالُ حصلَ مِن امتلاءٍ وَهَيْضَةٍ فدواؤه تركُه والإسهال أو تقويتهُ، فلمَّا أمره ◙ بشُرْب العسل فزادَ منه فزادَه فزاد منه إلى أن فَنِيت المادة فَوَقَف الإسهال، فيكون الخِلْطُ الذي كان بالرجل يوافقُ منه شُرب العسل.
          والأطبَّاءُ مُجْمِعون على أنَّ المرضَ الواحد يختلفُ عِلاجُه باختلافِ السنِّ والعادة والزَّمن والغِذَاء المتقدِّم والتدبير المألوف وقُوَّة الطِّباع، والإسهالُ يعرِضُ مِن ضروبٍ كثيرةٍ محلُّها كُتُب أهلهِ، منها الإسهال الحادث مِن التُّخَم والهَيْضَاتِ، وهم مُجْمِعون في مِثل هذا على أنْ تُترك الطبيعةُ وفِعلُها وإن احتاجت إلى مُعينٍ على الإسهال أُعينت ما دامت القُوَّة باقيةً، فأمَّا حبسُها فضررٌ عندهم واستعجالُ مرضٍ.
          ولسنا نستظهر على قول رَسُول اللهِ صلعم بأن يصدِّقَهُ الأطبَّاءُ، بل لو كذَّبُوه لكذَّبناهم وكفَّرناهم وصدَّقناه حتَّى يوجِدوا المشاهدة لصِحَّةِ ما قالوه فنفتقرَ حينئذٍ إلى تأويل كلامِه وتخريجه على ما يصحُّ، وكذا القول في الماء للمَحمومِ فإنَّهُم قالوا عنه ما لم يَقُل، وهو لم يقل أكثر مِن قوله: ((أبْرِدُوها بالماء))، ولم يبيِّن الصِّفةَ والحالةَ، فمِن أين فُهِم أنَّه أراد الانغماس؟ قلتُ: قد ذُكر الانغماسُ عِدَّة أيَّامٍ في جَرْيَة الماء، والحديثُ إسناده جيِّدٌ، والأطبَّاءُ يُسَلِّمُون أنَّ الحُمَّى الصَّفْرَاويَّة يدبَّر صاحبها بسقي الماء البارد الشَّديدِ البَرْد، نعم ويَسْقُونه الثلجَ ويَغسلون أطرافَه بالماء البارد، فغيرُ بعيدٍ أن يكون ◙ أراد هذا النَّوع مِن الحمَّى فلا يبقى للمُلْحِد إلَّا أن يتقوَّل الكذبَ ويُعارض كَذِبَه بنفسِه، وهذا ممَّا لا يُلتفت إليه.
          وقال ابن بطَّالٍ: قوله: (صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ) يدلُّ أنَّ الكلامَ لا يُحمَل على ظاهره، ولو حُمل على ظاهرِه لبرئ المريضُ عند أوَّلِ شَرْبةٍ، فلمَّا لم يبرأ دلَّ على أنَّ الألفاظ مفتقرةٌ إلى معرفة معانيها وليستْ على ظواهرها، وقال ابن الجَوْزيِّ: يُجاب عمَّا اعترض به على قوله لصاحب الإسهال: (اسْقِهِ عَسَلًا) مِن أربعة أوجهٍ:
          أحدُها: أنَّه تأوَّلَ الآيةَ وهي: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] ولم يلتفت إلى اختلاف الأمراض.
          ثانيها: أنَّ ما كان يَذكره ◙ مِن الطبِّ على مذاهب العرب وعاداتهم كما في حديث إبراد الحُمَّى بالماء.
          ثالثها: أنَّ العسلَ كان يوافِقُ ذلك الرجل، فقد قال الخطَّابيُّ: كان استطلاقُه مِن الامتلاء وسُوء الهَضْم. قلت: عند أبي نُعَيْمٍ: أنَّه كان به هَيْضَةٌ، ومعناهما قريبٌ.
          رابعها: أن يكون أمرَه بطبخِ العسل قبل سقيهِ وهو لعَقْد البَلْغم.
          وذكر ابنُ سَعْدٍ عن عليِّ ☺: إذا اشتكى أحدُكم شيئًا فليسأل امرأتَهُ ثلاثةَ دَرَاهِمَ مِن صَدَاقها، فتشتري به عسلًا ويشربهُ بماء السَّماء، فيجمعُ الله له الهَنِيءَ المَرِيءَ والماءَ المبارك والشِّفاء، وقال ابن مَسْعُودٍ: عليكم بالشِّفاءَين: القرآنِ والعسلِ، وقال الرَّبيعُ بن خُثَيمٍ: ما للمريض عندي إلَّا العسلُ ولا للنُّفَساءِ إلا التَّمر.
          فصْلٌ: ذكر الموفَّق البَغْدَادِيُّ في كتابه «الأربعين الطِّبيَّة» مَنْفَعَةَ العسل، فأوضح ذِكْر أنَّه ينفَعُ مِن لَسْعِ الهوامِّ ومِن السُّمُوم القاتلة ويَحفظ جُثَثَ الموتى وكلَّ ما يُودَع فيه، ولذلك سُمِّي الحافظَ الأمينَ، ومِن نَهْش الهوامِّ ذوات السُّمُوم، ومِن عضِّة الكلْبِ الكَلِبِ ولم يخلق لنا شيءٌ فيه معانيه، ولا أفضل منه وأنفع للمشايخ وأرباب العبالة ومضرَّته للصَّفْراويِّين ودفْعُ مضرَّته بالخلِّ ونحوه، وهو في أكثر الأمراض والأحوال أنفعُ مِن السُّكَّر، وقد كان صلعم يشرب كلَّ يومٍ قَدْح عَسَلٍ ممزوجًا على الرِّيق، وهي حكمَةٌ عجيبةٌ في حفظ الصِحَّة، ولا يعقِلُها إلَّا العالِمُون، وروى أبو نُعَيمٍ مِن حديثِ الزُّبَيْر بن سَعِيدٍ الهاشمِيِّ، عن عبد الحميد بن سالِمٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: ((مَن لَعِق العسلَ ثلاثَ غَدَواتٍ في كلِّ شهرٍ لم يُصبه عظيمٌ مِن البلاء)).
          قال الموفَّقُ: وقد كان بعد ذلك يغتذي بخبز الشَّعير مع المِلْح أو الخلِّ ونحوه، ويصابر شَظَف العيش فلا تضرُّه لِمَا سبق مِن شُربه العسل على الرِّيق، وقد كان يُرَاعي أمورًا في حفظه الصِحَّة منها هذا، ومنها بقليل الغذاء وشرب المَنْقُوعات والتَّطيُّب والادِّهان والاكتحال، فكان يغذِّي الدِّماغ بالمسكِ، والقلب ورُوح الكَبَدِ والقلبَ بماء العسل، ويُقلِّل الغذاءَ الأرضيَّ الجِسْمَانيِّ وينفذه بالنَّقِيع فما أنفسَ هذا التدبير وأفضلَهُ.
          فصْلٌ: / قد أسلفنا كلامَ ابن بطَّالٍ في قوله: (صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ) وذكر الخطَّابيُّ فيه احتمالين:
          أحدهما: أن يكون أخبر عن غيبٍ أطلَعَه الله عليه وأعلمَه بالوحي أنَّ شفاءَهُ في العسل فكرَّر عليه الأمر بسقيهِ ليَظهَرَ ما وَعَد به.
          الثاني: أن يكون قد علِم أنَّ ذلك النوع مِن المرض يشفيهِ بسقيهِ العسل.
          فصْلٌ: ذكر ابنُ الأثير في «جامعه» عن ابن عُمرَ ☻: أنَّه كان إذا خَرَجت به قَرْحَةٌ أو شيءٌ لَطَخَ الموضعَ بالعسلِ ويقرأُ الآيةَ، وكان يقول: عليكم بالشِّفاءَين القرآنِ والعسلِ، وقال شَقِيقٌ: قال ◙: ((المَبطونُ شهيدٌ ودواءُ المبطونِ العَسَلُ)).
          فصْلٌ: العَسَلُ يُذكَّر ويُؤنَّث، ذكرَه أبو حنيفة في «النَّبات» ويُجمع: عُسُولًا وأَعْسُلًا وعُسْلانًا وعُسُلًا، إذا أردت فِرَقًا منه وضُروبًا، وله أسماءُ فوق المئة، منها: الأَرْيُ والسَّلْوى والذوب والذواب والشَّهدُ والنَّسيلُ والنَّسِيلَة والطِّرْم وَجَنَى النَّحل وَلُعَابُ النَّحل ورَيِّقُهُ ومُجَاجُهُ.
          فصْلٌ: ذكر ابنُ الجَوْزيِّ أنَّ النَّهيَ عن الكيِّ على خمسةِ أَضْرُبٍ: كيُّ الصَّحيح لئلَّا يَسقم كفعل الأعاجم، وكثيرٌ مِن العرب يعظِّمُون أمرَه على الإطلاق، ويقولون: إنَّه يَحْسِم الداء وإذا لم يُفعَل عُطِبَ صاحبُه، فالنَّهي عنه إذًا لذلك، ويكون للإباحة لمن طلب الشَّفاءَ ورَجَا البُرْءَ مِن فَضْلِهِ عند الكيِّ، فيكون سببًا لا عِلَّةً، وقد يكون نهى عنه في عِلَّةٍ عَلِمَ أنَّ الكيَّ لا ينجَعُ فيها، وقد كان عِمْرَانُ بن حُصَيْنٍ به عِلَّة البَاسُور، فيحتمل أن يكون نهاه عن الكَيِّ في موضعٍ مِنَ البدنِ لا يؤمَن فيه الخطر، وكيُّ الجرْحِ إذا نَغلَ والعضوِ إذا قُطِعَ فهذا مأمورٌ به كما يُؤمَر باتِّقاء الحرِّ والبرد، وكيٌّ لا يُدرى هل ينجح فيه أم لا كما في الدَّواء، فهذا يُخرِجُ المتوكِّل عن توكُّلِهِ، وعندنا أنَّ ترك التداوي في مثل هذه الحال أفضلُ.
          وكذا قال ابن حبَّان في حديث عِمْرَان بن حُصَيْنٍ: هذا في الابتداء بالكيِّ مِن غير عِلَّةٍ توجبه كما كانت العرب تفعلهُ يريدون بذلك الوَسْمَ، وفي خبر جابرٍ إباحةُ استعماله لعلَّةٍ تحدُثُ مِن غير الاتِّكال عليه في بُرئها. وقال ابن التِّين: هو نهيُ كراهةٍ لِمَا يخاف أن يتراقى إليه، يدلُّ عليه قوله بعدها: (وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ)، وحديث: ((لا يَكْتَوُون)) محمولٌ على مَن اتَّخَذه عادةً وإلَّا فقد اكتوى الصحابة وهم أفضلُ هذه الأُمَّة.
          فصْلٌ: قال الخطَّابيُّ: هذه القِسمة في التداوي منتظمةٌ جُملةَ ما يَتداوى به النَّاس، وذلك أنَّ الحَجْم يَسْتَفرغ الدَّم، وهو أعظمُ الأخلاط وأنجحها شفاءً عند الحاجة إليه، والعسل مُسْهِلٌ ويدخل أيضًا في المعجونات المُسهِلة ليحفظَ على تلك الأدوية قُواها، فَيُسْهِل الأخلاطَ التي في البدنِ. وأمَّا الكيُّ فإنَّما هو في الدَّاء العُضَال والخِلط الباغي الذي لا يُقدَر على حَسْم مادته إلَّا به، وقد وصفه الشارع ثمَّ نهى عنه كراهةً لِمَا فيه مِن الألم الشَّديد والخَطَرِ العظيم، وقد كوى الشارع سَعْدَ بن مُعَاذٍ على أَكْحَلِهِ، وقال الدَّاوُدِيُّ: كوى أسعدَ بن زُرَارةَ مِن الذُّبحة، وأمرَ بالكيِّ، وقال: إنَّ فيه شِفاءً.
          فصْلٌ: وقوله في حديث جابرٍ: (أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ) يُقال: لَذَعَتْهُ النَّار لَذْعًا، أي أحرقَته.
          وقوله فيه: (إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ، أَوْ: يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِيْ كَذَا) قال ابنُ التِّين: صوابُه: أو يكن؛ لأنَّه مجزومٌ بـ (إِنْ)، ولعلَّ هذا قبل أن يعلمَ أنَّ لكلِّ داءٍ شفاءً.
          فصْلٌ: وقوله في حديث أبي سَعِيدٍ: (أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا) قال ابن التِّين: يجوز أن يكون شكوى أخيه مِن بَردٍ أو فضْلِ بَلْغَمٍ فَينفعه العسل، وقيل: ببركة أمره صلعم له، فيكون خاصًّا بذلك الرجل.
          وقوله: (فَبَرَأَ) هو بفتح الرَّاء ويجوز بَرِئ، ذكرهما ابن التِّين.
          فصْلٌ: حديث أبي سَعِيدٍ أخرجهُ البُخَارِيُّ مِن حديثِ: (سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي المُتَوكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ)، وأخرجهُ مُسْلمٌ مِن حديثِ شُعْبَةَ بدل سَعِيدٍ، وأَبُو المُتَوكِّلِ اسمُه عليُّ بن داودَ، وقيل: دُؤاد، وفيه: فلم يَزِدْهُ إلَّا استطلاقًا، يعني: إلَّا إسهالًا.