التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: أي ساعة يحتجم؟

          ░11▒ (بَابُ أَيَّ سَاعَةٍ يَحْتَجِمُ؟ وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا).
          5694- هذا التعليق أخرجه ابن أبي شَيْبَة عن هُشَيْمٍ، عن إسماعيلَ بن سالِمٍ، عن أبي بُرْدَةَ بن أبي مُوسَى عن أبيه.
          ثُمَّ ساقَ حديثَ ابن عبَّاسٍ ☻ قَالَ: (احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلعم وَهُوَ صَائِمٌ). وقد سلف في الصَّوم [خ¦1938].
          والحِجَامة ليلًا أو نهارًا وفي كلِّ وقتٍ احتيج إليها مباحةٌ، وقد ذكر احتجامَهُ نهارًا لقوله: (وَهُوَ صَائِمٌ)، وليلًا عن أبي مُوسَى، ومنع مالكٌ الحِجَامة في الصَّوم لئلَّا يُغرِّر بنفسِهِ.
          فصْلٌ: وقت الحِجَامة في أيَّام الشَّهر لم يصحَّ فيه شيءٌ عند البُخَارِيِّ فلذلك لم يتعرَّض لها، وقد وردت فيها أحاديث، مِن ذلك ما رواه أبو داودَ مِن حديثِ سَعِيدِ بن عبد الرَّحْمَن الجُمَحِيِّ، عن سُهَيل بن أبي صَالِحٍ، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ مرفوعًا: ((مَن احتجَمَ لسبعَ عشرةَ وتسعَ عشرةَ وإحدى وعشرين كان شِفاءً مِن كلِّ داءٍ))، وفي روايةٍ: ((مَن احتجَمَ يوم الأربعاءِ ويوم السَّبت فأصابَهُ وَضَحٌ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَه))، في إسناده سُلَيْمَانُ بن أرقَمَ وهو متروكٌ، وفي روايةٍ: ((فأصابَهُ بأسٌ)).
          وَمِن حديث أبي بَكْرة بكَّار بن عبد العزيز بن أبي بَكْرةَ _وفيه كلامٌ_ عن عمَّته كَبْشَة بنت أبي بَكْرةَ، عن أبيها: أنَّه كان يَنْهى أهلَهُ عن الحِجَامة يوم الثُّلَاثاء، ويزعُمُ عن رَسُول اللهِ صلعم بأنَّ يوم الثُّلاثاء يوم الدَّم، وفيه ساعةٌ لا يَرْقَأ. ولَمَّا رواه ابن أبي عاصِمٍ في «طبِّه» قال: حَدَّثَنِي غير واحدٍ مِن شيوخِ آل أبي بَكْرةَ منهم: عبد الملك بن هَوْذَةَ بن خَلِيفة، ومُحَمَّد بن أحمدَ، وهذا في آل أبي بَكْرة / خاصَّةً أنَّ هذا الحديث معروفٌ، ونُقل: ((مَن احتجَمَ يوم الثُّلاثاء إلَّا كانت مَنِيَّتُهُ فيه)).
          وعند التِّرْمِذِيِّ محسَّنًا عن أنسٍ ☺: أنَّه ◙ كان يحتجِمُ في الأَخْدَعين والكَاهِل، وكان يحتَجِمُ لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين، وفي «كتاب أبي حاتِمٍ» مضعَّفًا وقال: ((مَن تبيَّغ به الدَّمُ فَلْيَحْتَجِم))، زاد ابن الجَوْزيِّ في «عِلَلِه»: ((عليكم بالحِجَامة يومَ الخميس فإنَّها تزيدُ في العقل))، زاد رُزينٌ في كتابه «الجمع»: ((لا تفتحوا الدَّم في سُلْطانه فإنَّه اليوم الذي أُثِر فيه الحديد، فلا تَستعملوا الحديد في يوم سُلْطانه))، وفي روايةٍ عنده: ((إذا وافقَ سبعَ عشرةَ يومَ الثُّلاثاء كان دواء السُّنَّة لمن احتجِم فيه)) ذكرَه مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، وعند التِّرْمِذِيِّ محسَّنًا عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((نِعْمَ العبدُ الحجَّامُ يُذهب بالدَّم ويُخِفُّ الصُّلْب وَيَجْلو عن البَصَر وإنَّ خيرَ ما تَحْتَجِمونَ فيه يومَ سبع عشرة ويومَ تسع عشرة ويوم إحدى وعشرين))، وفي «جامع الأصول» مِن حديثِ عِمْرانَ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كان يحتَجِمُ يوم سبعة عشر وتسعة عشر وإحدى وعشرين.
          ولأبي داودَ عن سلمى خادم رَسُول اللهِ صلعم قالت: ما كان أحدٌ يشتكي إلى رَسُولِ اللهِ صلعم وَجَعًا في رأسِه إلَّا قال: ((احتجِمْ))، ولا وجعًا في رِجْلَيه إلَّا قال: ((اخْضِبْهُما))، وفي «طبِّ أبي نُعَيْمٍ» مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((الحِجَامة في الرأس شِفَاءٌ مِن سبعٍ: الجنون والجُذَام والبَرَص والنُّعَاس ووجَع الأضراسِ والصداع والظُّلمة يَجِدُها في عينِهِ))، ولابن الجَوْزيِّ معلَّلًا: ((خيرُ يومٍ تَحْتَجِمُونَ فيه سبعَ عشرةَ وتسعَ عشرة وإحدى وعشرين))، ومِن حديثِ ابن عُمرَ مرفوعًا: ((الحِجَامة تزيدُ في الحِفظ وفي العقل، وتزيدُ الحافظ حفظًا فعلى اسم الله يوم الخميس ويوم الجُمُعة ويوم السَّبت ويوم الأحد ويوم الاثنين ويوم الثُّلاثاء، ولا تحتجموا يومَ الأربعاء فما نزل مِن جُنُونٍ ولا جُذَامٍ ولا بَرَصٍ إلَّا ليلة الأربعاء))، وفي روايةٍ: قال رَسُول اللهِ صلعم: ((الحِجَامة في الرأس شِفَاءٌ مِن الجنون والجُذَامِ والبَرَصِ)).
          وسُئل أبو حاتِمٍ عن حديث ابن عُمرَ مرفوعًا: ((الحِجَامةُ على الرِّيق أمثلُ، فيها شِفَاءٌ وبركةٌ تزيد في العقل والحِفظ)) قال: ليس هذا الحديث بشيءٍ، وفي روايةٍ _مِن طريقٍ فيها ضعفٌ_ موقوفةٍ لأبي نُعَيْمٍ: ((احْتَجِموا على الرِّيق فإنَّهُ يزيد الحافظ حِفظًا، ولا تحتَجِمُوا يوم السَّبت فإنَّه يومٌ يُدخل الدَّاء ويُخرج الشِّفاء، واحتجِمُوا يوم الأحد فإنَّه يومٌ يُخرج الدَّاء ويُدخل الشِّفاء، ولا تحتجموا يوم الاثنين فإنَّه يومٌ فُجِعتُم فيه بنبيِّكُم، واحتجِمُوا يوم الثُّلاثاء فإنَّه يومُ دمٍ وفيه قَتَلَ ابن آدم أخاه، ولا تحتجِمُوا يومَ الأربعاء فإنَّه يومُ نحْسٍ، وفيه سالتْ عُيُون الصُّفْرِ وفيه أُنزلت سورة الحديد، واحتجموا يومَ الخميس فإنَّه يومٌ أنيسٌ، وفيه رُفع إدريسُ، وفيه لُعِن إبليسُ وفيه ردَّ الله على يَعْقُوب بصرَهُ وردَّ عليه يُوسُف، ولا تحتجِمُوا يوم الجُمُعة فإنَّ فيه ساعةً لو وافقت فيه أمَّةً لماتوا جميعًا)).
          ومِن حديثِ عبد الحَمِيد بن صَيْفِيِّ بن صُهَيبٍ عن أبيه عن جدِّه يَرْفَعه: ((عليكم بالحِجَامة في جَوْزَةِ القَمَحْدُوَةِ فإنَّها دواءٌ مِن اثنين وسبعين داءً؛ مِن الجنون والجُذَام والبَرَص ووجَعِ الأضراس))، ومِن حديثِ الشَّعْبِيِّ رفعَه: ((خيرُ الدَّواء اللَّدُود والمَشِيُّ والحِجَامةُ والعَلَق))، وفي «المصنَّف» مِن حديثِ ابن أبي سُلَيمٍ، عن مكحول رَفَعَه: ((مَن احتجمَ يومَ الأربعاء أو يوم السَّبت فأصابه وَضَحٌ فلا يَلُومنَّ إلَّا نَفْسَه))، ومِن حديثِ حفْصٍ، عن حجَّاجٍ رَفَعَه: ((مَن كان مُحتجِمًا فليحتجِمْ يومَ السَّبت)).
          وسُئل مالكٌ عن الحِجَامة في خمس عشرة وسبع عشرة وثلاثٍ وعشرين فكرِهَ أن يكون لذلك يومٌ محدودٌ، وقال: لا أرى بأسًا بالحِجَامة يومَ السَّبت ويوم الأربعاء والأيَّام كلَّها، وكذلك السَّفر والنِّكاح وأراه عظيمًا أن يكون يومٌ مِن الأيام يُجتَنِبُ فيه ذلك، وأنكر الحديث في هذا، وقال اللَّيْث: إنِّي لأتَّقي الحِجَامة يوم السَّبت والأربعاء لحديثٍ بَلَغَني، وكان ابن سِيْرينَ فيما ذكرَه ابن أبي شَيْبَة يعجبُهُ أن يحتجِم مِن السَّبع عشرة إلى العشرين.
          قال الطَّبَرِيُّ: فإن قلتَ: قولُه: (أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الحِجَامَةُ) أهو على العُمُوم أو الخُصُوص؟ فإن قلتَ: على العُمُوم، فما أنتَ قائِلٌ فيما رواه ابن عُلَيَّة، عن ابن عَوْنٍ، عن ابن سِيْرينَ أنَّه قال: إذا بلغَ الرجلُ أربعينَ سنةً لم يحتجِمْ، قال ابنُ عَوْنٍ: فَتَرَكتُ الحِجَامةَ وكانت نِعمةً مِن الله؟ وإن قلتَ: على الخُصُوص فما الدَّليل عليه؟ قلتُ: أمرُه ◙ بذلك أمَّتَه إنَّما هو أَمْرُ نَدْبٍ، وهو عامٌّ فيما نَدَبَهم إليه مِن معناه، وذلك أنَّه أمرَهم بها حضًّا لهم على ما فيه نفعهم، ولدفْعِ ما يُخاف مِن الدَّم على أجسامهم إذا كثُر، فَنَدَبهم إلى استعمال ذلك لقوله في حديث أنسٍ: ((إنَّ الدَّم إذا تبيَّغ بصاحبِه قَتَلَه))، وغيرُ بعيد ما رُوي عن ابن سِيْرينَ مِن النَّهي المذكور، وذلك أنَّه في انتقاصٍ مِن عُمُره، وانحلالٍ مِن قُوى جسدهِ، وفي ذلك غَنَاءٌ له عن معونته عليه بما يزيده وهنًا على وَهْنٍ، محمولٌ على عدم الاحتياج إليها، وإذا احتاج إليها فحقٌّ عليه حينئذٍ إخراجُه، والآخر نَدَب إليه، قلتُ: والأطبَّاء على خِلاف ما قاله ابن سِيْرينَ، قال ابن سِيْنَا في أُرْجُوزته المطوَّلة في الفصادة وهي نحو الحِجَامة:
وَمَن يَكُنْ تَعَوَّد الفِصَادَه                     فَلَا يَكُنْ يَقْطَعُ تِلكَ العَادَه
لكنَّ مَن بَلَغ السِّتِّينَا                     وكان ذا ضخامةٍ مَتينَا
فافْصِدْهُ في السَّنَةِ مرَّتينِ                     ولا تحِدْ فيهِ عن الفَصْلَينِ /
إنْ بلَغَ السَّبعِينَ فافْصِدْهُ مرَّه                     ولا تَزِد فيهِ عَلَى ذِي الكَرَّه
وإن تَزِد خَمْسًا ففي العَامينِ                     في البَاسِلِيقِ افْصِدهُ مرَّتينِ
وامنعهُ بعدَ ذاكَ كلَّ فَصْدِ                     فإنَّ ذاكَ بالشُّيوخِ مُرْدِي