التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: هل يستخرج السحر؟

          ░49▒ (بَابُ هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ؟
          وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَوْ يُؤَخَّذُ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّما يُرِيدُونَ بِهِ الْإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ).
          5765- ثُمَّ ساقَ حديثَ عائِشَة ♦ في سِحْرِه ◙ بطوله.
          ومعنى (طِبٌّ): أي سِحْرٌ، كنُّوا به عنه، و(يُؤَخَّذُ عَنِ امْرَأَتِهِ) مُشدَّد الخاء، أي يُحبَس عنها حتَّى لا يَصِل إلى جِمَاعها، والأُخْذَةُ _بضمِّ الهمزة_ رُقْيَة السَّاحرِ.
          وقوله: (أَوْ يُنَشَّرُ) هو بفتح الشين مشدَّدةٌ، أي يُرقى لأنَّ التَّنْشِيرَ الرُّقْية، وقد سُئل عن النُّشْرة، فقيل: مِن عمل الشيطان، وهي ضَرْبٌ مِن الرُّقَى والعلاج يُعَالجُ به مَن كان يظنُّ أنَّ به مسًّا مِن الجِنِّ، وقال الحَسَن: إنَّ النُّشْرةَ مِن السِّحر، وقد نشَّرَت عنه تنشيرًا، وفي الحديث: ((هلَّا تَنَشَّرت؟)) ويأتي.
          ورَاعُوفَةُ البئرِ وأُرْعُوفَتُها: حَجَرٌ نَاتِئٌ على رأسها لا يُستطاع قَلْعهُ يقوم عليه المُسْتَقِي، وقيل: هو في أسفلها، قاله ابن سِيدَه، وقدَّمَهُ ابن بطَّالٍ على الأوَّل، وقال أبو عُبَيْدٍ: هي صَخْرةٌ تترك في أسفل البئرِ إذا حُفرت تكون ثابتةً هناك، فإذا أرادوا تنقيةَ البئر جَلَس المُنَقِّي فوقَها، وقيل: هو حَجَرٌ نَاتِئٌ في بعض البئر يكونُ صُلبًا لا يمكنهم حفرُهُ فيُتركُ على حالهِ.
          وقال الأَزْهرِيُّ في «تهذيبه»: عن شَمِرٍ عن خالِدٍ: رَاعُوفَةُ البِئرِ النطَّافةُ، قال: وهي مثلُ عينٍ على قَدْر جُحْرِ العقرب نيطَ في أعلى الرَّكِيَّة، فيجاوزُونَها في الحَفْر خمس قِيَمٍ وأكثر، فربَّما وجدوا ماءً كثيرًا تبجسه، قال شَمِرٌ: مَن ذهبَ بالرَّاعُوفَةِ إلى النطَّافة فكأنَّه أخذَه مِن رُعَاف الأنف، وهو سيلانُ دمِه وقَطَرانُه، ويُقال ذلك سَيَلان الذَّنِين، ومَن ذهب بها إلى الحَجَر الذي يتقدم طيَّ البئر على ما ذُكر عن الأَصْمَعِيِّ، فهو مِن رَعَفَ الرجلُ أو الفَرَسُ إذا تقدَّم وسبق، وكذلك اسْتَرْعَفَ.
          وادَّعى ابن التِّين أنه وقع في أكثر الروايات: <رَعُوفَة>، وأنَّ عند الأَصِيليِّ: (رَاعُوفَة) وهو ما رأيناه في الأُصُول، قال: والذي ذكر أهلُ اللُّغة أنَّ فيها لُغتين: رَاعُوفة وأُرْعُوفَة بالضمِّ، ثمَّ حُكي الاختلاف فيها: هل هي صَخْرَةٌ في أسفلِ البئرِ إذا احْتُفِرت يَجْلِس عليها المُنَقِّي، سُمِّيت بذلك لتقدُّمها وبُرُوزها، مِن قولهم: جاء فلانٌ يَرْعَفُ الخيلَ أي يتقدَّمُها، أو في جنبِهِ لا يقدِرُ الحافرُ قَلْعَها فيتركها؟
          فصْلٌ: قال المُهَلَّب وقع هنا: فَاسْتَخْرَجَ السِّحرَ، ووقع في باب السِّحر [خ¦5766]: أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قال: ((قَد عَافَانِي اللهُ)) فأمرَ بها فدُفنت. وهو اختلافٌ مِن الرُّواة، ومدار الحديث على هِشَام بن عُرْوَةَ، وأصحابُه مختلفون في استخراجه، فأثبتَه سُفْيَان في روايته مِن طريقَين في هذا الباب، وأوقفَ سؤالَ عائِشَة رَسُولَ اللهِ صلعم عن النُّشْرة، ونفى الاستخراجَ عيسى بن يُونُسَ وأوقف سؤالَها رَسُولَ اللهِ صلعم عن الاستخراج، ولم يذكر أنَّه ◙ جاوبَ عن الاستخراج بشيءٍ، وحقَّق أبو أُسَامَة جوابَه ◙ إذ سألَتْه عائِشَةُ عن استخراجه بـ((لَا))، ولا ذكر النُّشْرة، والزِيَادةُ مِن سُفْيَان مقبولةٌ لأنَّه أثبتُهم، وقويَ ثُبوت الاستخراج في حديثهِ لتكرُّره فيه مرَّتين، فبَعُدَ مِن الوَهْم فيما حقَّق مِن الاستخراج، وفي ذكره النُّشْرةَ في جوابه ◙ مكان الاستخراج، وفيه وجهٌ آخرُ يحتمل أنْ يحكم بالاستخراج لسُفْيَانَ ويحكم لأبي أُسَامَة بقوله: ((لَا))، على أنَّه استخرجَ الجُفَّ بالمُشَاقَة، ولم يستخرج صورةَ ما في الجُفِّ مِن المُشْط وما رُبط به لئلَّا يراه النَّاس فيتعلَّمُون إن أرادوا استعمال السِّحر، فهو عندهم مُسْتخَرجٌ مِن البئر وغير مُسْتَخرَجٍ مِن الجفِّ.
          فصْلٌ: اختلف السَّلف هل يُسأل السَّاحرُ عن حَلِّ السِّحْرِ عن المسحور، فأجازه سَعِيد بن المُسَيِّب على ما ذكره البُخَارِيُّ، وكرهه الحَسَنُ البَصْرِيُّ، وقال: لا يَعْلم ذلك إلَّا ساحِرٌ، ولا يجوز إتيانُ الساحر لِمَا روى سُفْيَان عن أبي إسحاقَ عن هُبَيرةَ عن ابن مَسْعُودٍ ☺ قال: مَن مَشَى إلى كاهِنٍ أو ساحرٍ فصدَّقه بما يقول فقد كَفَر بما أُنْزلَ على مُحَمَّدٍ صلعم.
          قال الطَّبَرِيُّ: وليس ذلك عندي سواءٌ، وذلك أنَّ مسألةَ السَّاحر عَقْدُ السِّحر مسألةٌ منه أن يضرَّ مَن لا يَحِلُّ ضرُّه وذلك حرامٌ، وحَلُّ السِّحر عن المسحور نفعٌ له، وقد أذِنَ الله لذوي العِلل في العلاج مِن غير حَصْرِ معالجتهم منها على صِفةٍ دون صِفةٍ، فسواءٌ كان المعالِجُ مسلمًا تقيًّا أو مُشْركًا ساحرًا، بعد أن يكون الذي يُتعالج به غيرَ محرَّمٍ، وقد أذِنَ رَسُولُ اللهِ صلعم في التعالُج وأمرَ به أمَّته، فقال: ((إنَّ اللهَ لم يُنزلْ داءً إلَّا أنزلَ له شِفاءً عَلِمَه مَن عَلِمَه وجَهِلَه مَن جَهِلَه))، فسواءٌ كان عِلْمُ ذلك وحَلَّه عند ساحرٍ أو غير ساحرٍ، وأمَّا معنى نهيِه صلعم عن إتيان السَّحَرة فإنَّما ذلك على التَّصديق لهم فيما يقولون على عِلْمٍ ممَّن أتاهم بأنهم سَحَرةٌ أو كُهَّانٌ، فأمَّا مَن أتاهم لغير ذلك وهو عالِمٌ به وبحالِه فليس بمنهيٍّ عنه ولا عن إتيانه.
          فصْلٌ: واختلفوا في النُّشْرة أيضًا، فذكر عبد الرَّزَّاق عن عَقِيلِ بن مَعْقِلٍ عن همَّام بن مُنبِّهٍ قال: سُئل جابر بن عبد الله ☻ عن النُّشْرةِ فقال: مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وقال عبد الرَّزَّاق: قال الشَّعْبِيُّ: لا بأس بالنُّشْرةِ العربيَّةِ التي لا تضَرُّ إذا وُطئَتْ، وهي أن يَخْرُج الإنسان في موضِعِ عِضَاهٍ فيأخُذَ عن يمينه وشمالِه مِن كلِّ ثَمَرٍ يَدُقُّهُ ويقرأ فيه ثمَّ يَغْتَسِل به. وفي كُتُب / وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ: أن يأخذَ سبعَ وَرَقاتٍ مِن سِدْرٍ أخضرَ فَيَدُقَّه بين حَجَرَين ثمَّ يضربَهُ بالماءِ ويقرأَ فيه آيةَ الكُرْسِيِّ وذواتِ {قُلْ}، ثُمَّ يحسُو منه ثلاث حَسَواتٍ ويَغْتَسِل به، فإنَّه يُذهِبُ عنه كلَّ عاهةٍ إن شاء الله، وهو جيِّدٌ للرجل إذا حُبس عن أهلهِ، وقولُها لرَسُول اللهِ صلعم: (أَفَلَا تَنَشَّرْتَ) دالٌّ على جوازها كما قال الشَّعْبِيُّ، وأنَّها كانت معروفةً عندهم لمداواة السِّحْر وشبهه، ويدلُّ قولُه ◙: (أَمَّا اللهُ فَقَدْ شَفَانِي) وتركُه الإنكارَ على عائِشَة على جواز استعماله لها لو لم يَشْفِه، فلا معنى لقولِ مَن أنكرها.
          وقال القزَّازُ: النُّشْرةُ الرُّقْيَةُ، وهي كالتَّعْويذِ وهو التَّنْشِير، وفي الحديث أنَّه قال: ((فلعلَّ طِبًّا أصابَهُ))، يعني سِحْرًا، ثمَّ نشَّرَهُ بـ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} [النَّاس:1] أي رَقَاه. وقال الدَّاوُدِيُّ: قولُها: (فَهَلَّا تَنَشَّرْتَ)، تعني يغتسلُ بماءٍ أو يعوِّذ نفسَه.