التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الرقى بالقرآن والمعوذات

          ░32▒ (بَابُ الرُّقَى بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ)
          5735- ذكر فيه حديثَ عائِشَةَ ♦: أنَّه ◙ (كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا، فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ فقَالَ: كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ).
          الشَّرح: هذا الحديث كرَّره في الطبِّ [خ¦5751]، وسلف في فضائل القرآن [خ¦5016] والمغازي [خ¦4439]، زاد خَلَفٌ: وفي الأدب، وأخرجهُ مُسْلمٌ وأبو داودَ والنَّسَائيُّ وابنُ ماجه.
          في الاسْتِرْقَاء بِالْمُعَوِّذَاتِ: استعاذةٌ بالله تعالى من شرِّ كلِّ ما خَلَق، ومِن شرِّ النَّفَّاثَاتِ في السِّحر، ومَن شرِّ الحاسد، ومن شرِّ الشيطان ووَسْوَسَتِهِ، وهذه جوامِعُ مِن الدُّعاء تعمُّ أكثر المكروهاتِ، ولذلك كان ◙ يَسْتَرْقِي بها، وهذا الحديث أصلٌ أنْ لا يُسترقى إلَّا بكتاب الله وأسمائه وصِفاته، وقد روى مالكٌ في «الموطَّأ» أنَّ الصِّدِّيق دخل على عائِشَة ♦ وهي تشتكي ويَهُودِيَّةٌ تَرْقيها، فقال أَبُو بَكْرٍ ☺: ارقيها بكتاب الله. يعني بالتَّوراة والإنجيل لأنَّ ذلك كلامُ الله الذي فيه الشِّفاء، وذكره ابن حبَّان في «صحيحه» مرفوعًا: أنَّه ◙ دخل... الحديثَ، قال ابن حبَّان: قوله: ((عَالِجِيها بكتابِ الله))، أي بما يُبيحُه كتابُ الله؛ لأنَّ القومَ كانوا يَرقون في الجاهليَّة بأشياءَ فيها شِرْكٌ، فَزَجَرَهم بهذه اللفظة عن الرُّقَى إلَّا بما يُبيحه كتاب الله، وقد رُوي عن مالكٍ جواز رُقيةِ اليَهُودِيِّ والنَّصْرَانيِّ للمُسلم إذا رَقَى بكتاب الله، وهو قول الشَّافِعِيِّ، وعنه أنَّه كره رُقَى أهل الكتاب وقال: لا أحبُّه، وذلك _والله أعلم_ لأنَّه لا يُدرَى هل يَرْقُون بكتاب الله أو الرُّقى المكروهةِ التي تُضَاهي السِّحْر.
          وروى ابنُ وَهْبٍ عن مالكٍ أنه سُئل عن المرأة التي تَرْقِي بالحديدِ والملحِ، وعن الذي يكتبُ الكتابَ للإنسان لِيُعَلِّقه عليه مِن الوَجَع، وَيَعْقِدُ في الخيط الذي يربِطُ به الكتاب سبعَ عُقَدٍ، والذي يكتبُ خاتَمَ سُلَيْمَان في الكتاب، فكرهَه كلَّه وقال: لم يكن ذلك أمرُ النَّاس في القديم.
          وفي «جامع مختصر الشيخ أبي مُحَمَّدٍ» أنَّ مالكًا كره ذلك وأنَّ ابنَ وَهْبٍ أجازه، واحتجَّ بفعل أبي بَكْرٍ السَّالف.
          فصْلٌ: هذا الحديث ذكرَه البُخَارِيُّ في باب النَّفْثِ الآتي قريبًا [خ¦5748] بلفظ: كان إذا أَوَى إلى فِرَاشه نَفَثَ في كَفَّيهِ بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وَبالمُعَوِّذَتَينِ جميعًا، ثمَّ يَمْسَحُ بهما وجهَهُ وما بَلَغَتْ يدَاهُ مِن جسدِهِ، فلمَّا اشتكى كانَ يأمرُني أَنْ أَفْعَلَ ذلكَ بِهِ. وروى التِّرْمِذِيُّ -وقال: حَسَنٌ_ عن أبي سَعِيدٍ: كان ◙ يَتَعوَّذُ مِن الجانِّ وعينِ الإنسانِ، فلمَّا نزلت المُعَوِّذَتان أخذَ بهما وتركَ ما سواهما.
          فصْلٌ: (يَنْفِـُثُ) بكسر الفاء وضمِّها، قال أبو عُبَيْدٍ: هو شبيهٌ بالنَّفخ، وأمَّا التَّفلُ فلا بدَّ فيه شيءٌ مِن الرِّيق، وقيل: يكون معه شيءٌ أقلُّ مِن التَّفْل.
          فصْلٌ: فيه إثباتُ الرُّقَى كما ذكرناه، والردُّ على مَن أنكرَ ذلك مِنَ الإسلاميِّين.
          فصْلٌ: هو دالٌّ على الرُّقْيَةِ في صِحَّة الجسم.
          فائدةٌ: في النَّفثِ التبرُّكُ بتلك الرُّطوبة أو الهواء أو النَّفَس المباشر لتلك الرُّقية والذِّكْر، وقد يكون على وجه التفاؤل بزوال الألم عن المريض وانفصاله عنه كما ينفصلُ ذلك النَّفْث عن الرَّاقي.
          فصْلٌ: وفيه إباحةُ النَّفْثِ في الرُّقَى، وقد روى الثَّورِيُّ عن الأَعْمَشِ عن إبراهيمَ قال: إذا رَقَيْتَ بآي القرآن فلا تنفُث. وقال الأسود: أكرَهُ النَّفْثَ، وكان لا يرى بالنَّفخ بأسًا، وكرِهَه أيضًا عِكْرِمَةُ والحكمُ وحمَّادٌ، وأظنُّ حُجَّةَ مَن كرهَه ظاهرُ قولِه تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، وذلك نفثُ سِحرٍ، والسِّحرُ محرَّمٌ، وما جاء عن الشارع أَوْلى وفيه الخير والبركة.
          وفيه أيضًا: المسحُ باليد عند الرُّقية، وفي معناه المسْحُ باليد على كل ما تُرجى بركتُه وشفاؤُه وخيرُه، مثل المسْحِ على رأس اليتيم وَشبهه، وفيه التبرُّك بالصَّالحين وأيمانِهم كما فَعَلَت عائِشَة بيده اليُمنى دون الشِّمال.
          فصْلٌ: قيل: وفيه أنَّ أقلَّ الجمع اثنان لقوله: (بِالْمُعَوِّذَاتِ)، وهما مُعَوِّذَتانِ، وهو عجيبٌ، وأغربُ مِن ذلك أنَّه مِن باب التَّغليب، ومعهما {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وغلب، وقد سلف.