التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب السعوط بالقسط الهندي البحري

          ░10▒ (بَابُ السَّعُوطِ بِالْقُسْطِ الْهِنْدِيِّ الْبَحْرِيِّ.
          وَهُوَ الْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ، مِثْلُ {كُشِطَتْ} [التكوير:11] نُزِعَتْ، وَقَرَأَ عَبْدُ الله: {قُشِطَتْ}).
          5692- 5693- ثُمَّ ساقَ حديثَ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ ♦ قالت: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ يُسْتَعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ).
          (وَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم بِابْنٍ لِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّ عَلَيْهِ).
          الشرحُ: (أَشْفِيَةٍ) جمعُ شِفَاءٍ، كِسَقَاءٍ وأَسْقِيةٍ، و(العُذْرَةِ) بضمِّ العينِ وجعٌ في الحَلْق يهيجُ مِن الدَّم، وكذلك الموضع أيضًا يُسمَّى عُذْرةً، وهو قريبٌ مِن اللَّهاة، و(يُلَدُّ) يُداوي، واللَّدُودُ: ما كان مِن السَّقِيِ في أحدِ شِقَّي الفم بخلاف الوَجُور فإنَّه في وَسَطهِ، هذا المعروف، و(ذَاتِ الجَنْبِ) وجعٌ بالجَنْبِ. فصْلٌ: وترجم عليه أيضًا: باب العُذْرَةِ [خ¦5715].
          و(أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنِ) الأسديَّةِ _أسدِ خُزَيمةَ_ وكانت مِن المهاجرات الأُوَلِ اللَّاتي بايعن رَسُول اللهِ صلعم، وهي أختُ عُكَاشَة، أخبرته أنَّها أتتْ رَسُولَ اللهِ صلعم بابنٍ لها، وقد أَعْلَقَت عليه مِن العُذْرَة، فقال ◙: ((علامَ تَدْغَرْنَ أَوْلَادكنَّ بهذا العِلَاقِ؟ عليكنَّ بالعُودِ الهِنْدِيِّ، فإنَّ فيه سَبعةَ أَشْفِيَةٍ، منها ذاتُ الجَنْبِ))، يريدُ الكُسْتَ / وهو العُودُ الهِنْدِيُّ، وقال يُونُس وإسحاقُ بن راشدٍ عن الزُّهْرِيِّ: علَّقتُ عليه. ومرادُه بالتعليق عن يُونُس ما أخرجهُ مُسْلمٌ، وتعليق إسحاقَ ذكره هو مسندًا.
          فصْلٌ: روى ابن سَعْدٍ بإسنادٍ جَيِّدٍ عن أنسٍ مرفوعًا: ((إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الحِجَامَةُ وَالقُسْطُ الهِنْدِيُّ لِصِبيانكم))، وروى أبو نُعَيمٍ في «طبِّه» بإسنادٍ جَيِّدٍ عن جابِرٍ: أنَّه صلعم دخل على عائِشَةَ ♦ وعندها صبيٌّ يسيلُ مَنْخِرَاه دمًا، قال: ((مَا هَذَا؟)) قالوا: إنَّهُ العُذْرة، فقال: ((وَيلَكُنَّ، لا تَقْتُلْنَ أولادَكُنَّ، أيُّمَا امرأةٍ أصابَ ولدَها العُذْرَةُ أو وجعٌ في رأسِه فلتأخذْ قُسطًا هِنْدِيًّا فَلْتَحُكَّه ثمَّ لتَسْتَعْطِهِ به))، قال: فصنَعَتُ ذلك فبرأ. وفي روايةٍ لابن أبي شَيْبَة: ((فلتَحُكَّه سبعَ مرَّاتٍ ثمَّ تُوجِره إيَّاه))، وفي روايةٍ لأبي نُعَيْمٍ: ((فلتأخذ كُسْتًا بحتًا، ثمَّ تعمَدُ إلى حَجَرٍ فَتَسْحَقُهُ عليه ثمَّ لِتَقْطُر عليه قطراتٍ مِن زيتٍ وماءٍ ثمَّ تعالُجُه وتُوجِره إيَّاه؛ فإنَّ فيه شفاءً مِن كلِّ داءٍ إلَّا السَّامَ))، قال القُرْطُبِيُّ: ويُسْعَط بالقُسْط بحتًا مِن ذات الجَنْبِ. ومِن حديثِ ابن جُرَيجٍ عن زِيَاد بن سعْدٍ عن حُمَيدٍ، سمعتُ أنسًا: قال رَسُول اللهِ صلعم: ((خيرُ ما تداوَى به النَّاسُ الحِجَامةُ والكُسْتُ))، وذكرَ العُذْرَةَ، وفي لفظٍ: ((لا تُعَذِّبوا أولادَكم بالغَمْزِ، عليكم بالقُسْطِ البَحْرِيِّ))، ومِن حديثِ عُمَر بن مُحَمَّدٍ التَّلِّيِّ عن أبيه، عن مُحَمَّد بن أبانَ عن عَلْقَمَة بن مَرْثَدٍ عن سُلَيْمَان بن بُرَيدة، عن أبيه: اشتكى رَسُولُ اللهِ صلعم العُذْرَةَ حتَّى صَدَّعَتْه ورُئي ذلك عليه، فأتاه جِبْريلُ فَرَقَاه فبرأ.
          وللتِّرْمِذيِّ عن ابن عبَّاسٍ يَرْفَعُه: ((إنَّ خيرَ ما تداويتُم به السَّعُوطُ واللَّدُودُ والحِجَامةُ والمَشِيُّ))، وقد سلف، ومِن حديث زيدِ بن أرقَمَ: أنَّه ◙ كان ينعتُ الزَّيتَ والوَرْس والقُسطَ لذاتِ الجَنْبِ، قال قَتَادَة: يلدُّه مِن الجانب الذي يشتكيهِ، وفي روايةٍ: أمرَنا رَسُولُ اللهِ صلعم أن نتداوى مِن ذاتِ الجَنْبِ في القُسطِ البَحرِيِّ والزَّيت، ولأبي داودَ عن أبي كَبْشةَ مرفوعًا: ((مَن أَهَرَاقَ مِن هذه الدِّماءِ فلا يضرُّه أن لا يتداوى بشيءٍ)).
          فصْلٌ: قال الأَزْهَرِيُّ في «تهذيبه»: السَّعُوطُ والنَّشُوعُ والنَّشُوقُ في الأنف، نَشَعَ وأَنْشَعَ، وَلَخَيْتُهُ ولَخَوتُهُ وأَلْخَيْتُهُ: إذا سَعَطْتُهُ، ويُقال: أَسْعَطْتُهُ، وكذلك وَجَرتُه وأَوْجَرْتُهُ لغتانِ، وأمَّا النَّشُوق، فيُقال: أَنْشَقْتُهُ إنشاقَا، وهو طيِّبُ السَّعُوطِ والسُّعَاطِ والإِسْعَاطِ.
          وقال ابن سِيدَه في «مُحكمه»: سَعَطَه الدَّواء يسعُطُه ويسعَطُه، والضمُّ أعلى، والصاد في كلِّ ذلك لغةٌ عن اللِّحْيَانيِّ، وأرى هذا إنَّما هو على المضارَعة التي حكاها سيبويه، وأَسْعَطَه: أَدْخَلَه في أنفه، والسَّعُوط: اسم الدَّواء، والسَّعِيط: المُسعَط، والسَّعِيط: دُهنُ الخَرْدَل ودُهنُ البَانِ، والسَّعُوطُ مِن السَّعطِ، كالنَّشُوق من النَّشْقِ. وقال الجَوْهَرِيُّ: أَسْعَطْتُهُ واسْتَعَطَّ هو بنفسهِ.
          وفي «الجامع»: السَّعُوط والمُسْعَط والسَّعِيط: الرجلُ الذي يُفعَل به ذلك، والسَّعطَةُ: المرَّةُ الواحدةُ مِن الفعل، والإِسْعَاطة مثلها. قال أبو الفرج: الإِسْعَاطُ هو تحصيلُ الدُّهن أو غيرِه في أقصى الأنف سواءٌ كان بجذْبِ النَّفَس أو بالتَّفْريغ فيه. وفي «النبات» لأبي حنيفة: نَشِقَهُ نَشْقًا واسْتَنْشَقَه اسْتِنْشَاقًا، ونَشِقته أَنْشَقُه نَشَقًا ونَشْقًا، وهو ما جعلتَ في أنفك.
          فصْلٌ: القُسْطُ: بضمِّ القاف، قال الجَوْهَرِيُّ: هو مِن عَقَاقيرِ البحر، وقال ابن السِّكِّيت: القاف بدلٌ مِن الكاف كما ذكره البُخَارِيُّ، وفي كتاب «المنتهى» لأبي المعالي: الكُسْتُ والكُسْطُ والقُسْطُ ثلاث لغاتٍ، وهو جزر البحر، وفي «الجامع» لابن البِيْطَار: أجودهُ ما كان من بلاد المغرب وكان أبيضَ خفيفًا وهو البَحْرِيُّ، وبعده الذي مِن بلاد الهندِ وهو غليظٌ أسودُ خفيفٌ مثلُ القثَّاء، وبعده الذي مِن بلاد سوريَّا وهو ثقيلٌ ولونه لون البَقْسِ، ورائحتهُ ساطِعةٌ، وأجودها ما كان حديثًا أبيضَ ممتلئًا غير مُتآكلٍ ولا زَهمٍ... وأطال في تعريفه ومنافعه، ومنها: أنَّه ينفع مِن أوجاع الأرحام إذا استُعمل، وشُربه ينفع مِن لَدْغ الأفعى، ويُحرِّك شَهوة الجِمَاع، وإذا دخن به في قمعٍ قَتل الولد، وإذا طُلي به البَهَق والنَّمَش أزالهما، وقال ابنُ سينا: الهِنْديُّ يُسمَّى القَرَنْفُليَّ، والذي لونه لون البَقْس شَامِيٌّ ورُومِيٌّ، وهو حارٌّ في الثالثة، يابِسٌ في الثانية، مفرِّحٌ ونافِعٌ لكلِّ عضوٍ يحتاج أن يسخَّن.
          فصْلٌ: العُذْرَةُ بضمِّ العين _كما سلف_ وبذالٍ معجمةٍ، يقال في علاجها: عَذَرتُه فهو مَعْذُورٌ، وقيل: هو قَرْحَةٌ تخرجُ في الخَرْم الذي بين الأنف والحَلْق تعرِضُ للصِّبيان غالبًا عند طلوع العُذْرَة، وهي خمسُ كوَاكِبَ تحت الشِّعرى العَبُور وتُسمَّى أيضًا: العَذَارى، ويطلُعُ في وسط الحرِّ، قاله ابن قُتَيْبَة، وفي «المُحكم»: العُذْرَةُ نجمٌ إذا طلَعَ اشتدَّ الحرُّ، والعُذْرَة والعاذر والعَاذُور: داءٌ في الحَلْقِ، ورجلٌ مَعْذُورٌ: أصابَه ذلك، وقال أبو عليٍّ: هي اللَّهَاة، وقيل: قُرب اللَّهاة، وقد أسلفتُ هذا، واللَّهاةُ هي اللَّحْمةُ الحمراءُ التي في آخر الفم وأوَّل الحَلْق، وعادة / النِّسَاء في علاجِها أنْ تأخذ المرأة خِرْقة فَتَفْتِلها فَتْلًا شديدًا وتُدخلَها في أنفِ الصَّبيِّ وتطعنَ ذلك الموضعَ فينفجِرَ منه دمٌ أسودُ، وربَّما أَقْرَحته، وذلك الطَّعن يُسمَّى دَغْرًا، فمعنى ((تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنَّ)): أنَّها تَغْمِز حَلْق الصَّبيِّ بإصبعِها وترفع ذلك الموضعَ وتَكْبِسُه.
          فصْلٌ: وقولُها في الباب الذي ذكرناه: وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ العُذْرَةِ. وفي روايةٍ: علَّقت. قال صاحب «المطالع»: ويُروى: علَّقَت عنه، وكِلاهما صحيحٌ، لأنَّ (على) بمعنى (عن)، وعلَّقت وأَعْلَقَت جاءت بهما الروايات الصَّحيحة، وأهل اللُّغة إنَّما يذكرون: أَعْلَقَت، والإِعْلَاق والعِلَاق رُباعيًّا، قالوا: وهو الصَّواب، ومعناه غَمْزُ العُذْرَة باليد _وهي اللَّهَاة كما سلف_ فَخَافتْ أن يكون به ذلك فَرَفعت لَهَاتَه بإصبعها، فنهاها رَسُول اللهِ صلعم عن ذلك لِمَا فيه مِن التَّعذيب للصَّبِيِّ، ولعلَّ ذلك يزيد في وجَع اللَّهَاة.
          فصْلٌ: قال القُرْطُبِيُّ: والرواية الصَّحيحة: ((تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنَّ)) بدالٍ مهملةٍ وغينٍ معجمةٍ، ومعناه رَفْعُ اللَّهَاة.
          فائدةٌ: روى أبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ، عن الصَّلْتِ بن زُبَيدٍ، عن أبيه، عن جدِّه: جاءت امرأةٌ إلى رَسُول اللهِ صلعم فقالت: إنَّ بابني العُذْرَةَ، قال: ((خُذِي كُسْتًا ومُرًّا وزيتًا وحبَّةً سوداءَ فاسعَطيهِ وتوكلِّي...)) الحديث.
          فصْلٌ: أسلفنا أنَّ ذات الجَنْبِ وجعٌ به، قال التِّرْمِذِيُّ: وهو السِّلُّ، وفي «البارع»: هو الذي يطولُ به مرضُه، وعن النَّضْر: هو الدُّبَيْلَةُ، وهي قَرْحَةٌ تَثْقُب البطنَ، وقيل: هي الشوصَةُ، وفي «المنتهى»: الجُنابُ _بالضمِّ_ داءٌ في الجَنْبِ، وأمَّا الأطبَّاءُ فإنَّهم يقولون: ذات الجَنْبِ وَرَمٌ حارٌّ يكون إمَّا في الحِجَاب الحاجزِ أو في الغِشَاء المستبطِن للصَّدر، وهما خالصان، وإمَّا في الغِشَاء المتخلِّل للأضلاع أو العَضَل الخارجِ وهما غير خالصَين، والخالِصُ يلزمه الأعراض الخمسةُ: حُمَّى لازمةٌ، ووجعٌ فاحِشٌ، وضِيق نَفَسٍ في صفرٍ وتَوَاتُر، ونبضٌ مِنشَارِيٌّ، وسعالٌ نافثٌ، وغير الخالِصِ ربمَّا أدركَه حسُّ الطَّبيب، وقد يكون بلا حمَّى، وقد يُقال لَوَرمِ الحِجَاب: بِرْسَامًا، وَلِوَرَمِ العَضَلِ الخارج: شَوْصًا.
          فصْلٌ: قال ابن العَرَبِيِّ: قوله في القُسْطِ: (يُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الجَنْبِ) فذلك _والله أعلم_ في آخر المرض إن تقرَّح منه الصَّدر ففيه له تجفيف، وأمَّا في أوِّل الأمر _والمرض المذكور ورمٌ حارٌّ_ فيبعد عادةً فيه منه القُسْط لحرارته.
          قال الخطَّابيُّ فيما نقله ابن التِّين عنه: وسألتُ الأطبَّاء عن هذا العِلَاق فلم يُبيِّنُوه، إلَّا أنَّ مُحَمَّد بن العبَّاس بن مُحَمَّد البَصْرِيَّ ذكر لي أنَّه رأى لبعض قُدماء الأطبَّاء أنَّ ذات الجَنْب إذا حَدَثت مِن البَلْغَم نَفَع منها القُسْط البَحْرِيُّ.
          فصْلٌ: قال ابن العَرَبِيِّ: ذكر ◙ في القُسط سبعة أَشْفِيةٍ، فسمَّى منها اثنين ووكَّل باقيها إلى طلب المعرفة أو الشُّهرة فيها، وقد عدَّد الأطباءُ فيها عدَّة منافعَ، وقد أشرنا إلى بعضها.
          فإن قلت: إذا كان فيه ما تقدَّم مِن كثرة المنافع فما وجه تخصيص منافعِه بسبعٍ؟ فيُجاب بعد أنَّ التسليمَ أنَّ لأسماء الأعداد مفهومًا: أنَّ هذه السَّبعة هي التي عَلِمها الشارعُ بالوحي وتحقَّقَها، وغيرها مِن المنافع عُلمت بالتَّجربة، فذكر ما عَلِمه وحيًا دون غيره، أو يُقال: إنَّما فَصَّل منها ما دَعَت الحاجة إليه، وسَكَتَ عن غيره لأنَّه لم يُبعَث لبيان تفاصيل الطبِّ ولا لتعليم صنْعَته، وإنَّما تكلَّم بما تكلَّم به منه ليُرشدَ إلى الأخذ فيه والعمل به، وأنَّ في الوجود عَقَاقيرَ وأدويةً يُنتفع بها، وعيَّن منها ما دَعَت حاجتهم إليه في ذلك الوقت وبحسب أولئك الأشخاص.