التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اللدود

          ░21▒ (بَابُ اللَّدُودِ).
          5709- 5710- 5711- 5712- ذكر فيه حديثَ ابنِ عبَّاسٍ وَعائِشَة ♥: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلعم وَهُوَ مَيِّتٌ).
          قال: (وَقَالَتْ عائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لَا تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟ قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: لَا يَبْقَى أحدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَّا العبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ).
          5713- وحديثَ أُمِّ قَيْسٍ قَالَتْ: (دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ: عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الْعِلَاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ. فَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: بَيَّنَ لَنَا اثْنَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا خَمْسَةً، قُلْتُ لِسُفْيَانَ: / فَإِنَّ مَعْمَرًا يَقُولُ: أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: لَمْ يَحْفَظْ، إنَّما قَالَ: أَعْلَقْتُ عَنْهُ. حَفِظْتُهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ، وَوَصَفَ سُفْيَانُ الْغُلَامَ يُحَنَّكُ بالأصَابِعِ، وَأَدْخَلَ سُفْيَانُ فِي حَنَكِهِ، يَعْنِي: إنَّمَا رَفْعَ حَنَكِهِ بِإِصْبَعِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَعْلِقُوا عَلَيْهِ شَيْئًا).
          الشَّرح: حديثُ ابن عبَّاسٍ وعائِشَةَ سلفا في المغازي [خ¦4458] ويأتي في الدِّيَات [خ¦6886]، وأخرجَهُ مُسْلمٌ أيضًا، وحديث أمِّ قيسٍ سلف قريبًا.
          و(اللَّدُود) سلف في مرضِه صلعم، وهو بفتح اللَّام، وهو ما يُسقاه المريضُ في أحد شِقَّي الفم، ولَدِيدَا الفم: جانباه، ولَدِيدَا العُنُق: صَفْحَتاه، وهو مِن أدوية الخدر وذات الجَنْبِ، تقول العرب: لَدَدْتُ المريضَ لدًّا: ألقيتُ الدَّواءَ في شقِّ فيه، وهو التَّحْنِيك بالأصبع كما قال سُفْيَان، ويُقال: سَعَطْتُهُ وأَسْعَطْتُهُ فاستعطَّ، والاسمُ السَّعوط بالفتح، وهو ما يُجعل مِن الدَّواء في الأنف، وقد سلف أنَّ العُذْرَةَ وجعُ الحَلْق، وقيل: اللَّهاة، وعبارةُ ابنِ بطَّالٍ: الإعلاقُ أن يرفعَ العُذْرَة باليد والعُذْرَة قريبةٌ مِن اللَّهاة.
          وقال ابن قُتَيْبَة: العُذْرَةِ وجعُ الحَلْق، وأكثر ما يَعتري الصِّبيان فيعلَّق عنهم، والإعلاقُ والدَّغْرُ شيءٌ واحدٌ، وهو أن يَرفعَ اللَّهاة، ونهى الشارع عن ذلك وأمر بالقُسْطِ البَحْريِّ، يُقالُ: دَغَرَتِ المرأةُ الصَّبِيَّ: رَفَعَتْ لَهَاتَه بإصبعِها إذا أخذَتْهُ العُذْرَة، وسلف معنى (تَدْغَرْنَ)، وأنَّه غمْزُ الحَلْق عنها، وهو وجعٌ يَهِيج في الحَلْق، هو الذي يُسمَّى: السَّعُوط اللَّهاة، والدَّغْرُ: أخذُ الشيءِ اختلاسًا، وأصل الدَّغْرِ: الدَّفع.
          فإن قلتَ: لِمَ أمرَ الشارع أن يُلَدَّ كلُّ مَن في البيت؟ قلتُ: أجاب عنه المُهَلَّب بأن قال: وجهُه _والله أعلم_ أنَّه لَمَّا فُعِلَ به مِن ذلك ما لم يأمرهم به مِن المداواة بل نَهَاهم عنه وأَلِمَ بذلك ألمًا شديدًا، أمرَ أن يقتصَّ مِن كلِّ مَن فَعَلَ به ذلك، أَلَا ترى قولَه: (لَا يَبْقَ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا لُدَّ... إِلَّا الْعبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ)، فأوجَبَ القِصَاص على كلِّ مَن لدَّه مِن أهل البيت ومَن ساعَدَهم في ذلك ورآه لمخالفتهم نهيَه ◙.
          وقد جاء هذا المعنى في رواية ابنِ إسحاقَ عن الزُّهْرِيِّ عن عبد الله بن كعْبٍ أنَّهم لدُّوا النَّبِيَّ صلعم في مرضهِ، فلمَّا أفاقَ قال: ((لِمَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؟)) قالوا: خشينا يا رَسُول اللهِ أن يكون بك ذاتُ الجَنْبِ، فقال: ((إنَّ ذلك دَاءٌ ما كان اللهُ لِيَقْذِفني به، لا يبقَ أحدٌ في البيتِ إلَّا لُدَّ إلَّا عمِّي)) فقد لُدَّت مَيْمُونَة وهي صائمةٌ لِقَسَمِ رَسُول اللهِ صلعم عقوبةً لهم بما صَنَعوا برَسُول اللهِ.
          وسيأتي هذا المعنى في الدِّيَات في باب إذا أصابَ قومٌ مِن رَجُلٍ هل يُعَاقبُهم أو يقتصُّ منهم كلِّهم؟ [خ¦6897] وأجاب ابنُ العَرَبِيِّ بجوابٍ لطيفٍ، وهو أنَّه إنَّما لدَّهم لئلَّا يأتوا يومَ القيامة وعليهم حقُّهُ فَيُدركَهم خطْبٌ عظيمٌ.
          قلتُ: وروى الحاكم في «مستدركه» وقال: على شرط مُسْلمٍ: ((ذاتُ الجَنْبِ مِنَ الشَّيطانِ، وما كان الله ليُسلِّطَه عليَّ))، وأمَّا ما رُوي عن عائِشَةَ ♦ أنَّها قالت: مات رَسُولُ اللهِ صلعم مِن ذات الجَنْبِ. فخبر واهٍ، واستنبطَ بعضُ العلماء مِن هذا الحديث أخذَ عُمَرَ قتْل مَن تمالأ على قتْلِ الغلامِ بِصَنْعَاءَ، وفيه بُعْدٌ كما قال القُرْطُبِيُّ؛ إذ يمكن أن يُقال: جاز ذلك فيما لا إراقةَ دمٍ فيه لخفَّتِه في مقصودِ الشَّرع، ولا يجوز ذلك في الدِّماء لحُرْمتها وَعِظَمِ أمرِها، فلا يصحُّ حملُ أحدِهما على الآخر، وإنَّما الذي يُستنبط منه أنَّ الحاضرَ في الجنايةِ المعينَ عليها كالنَّاظُور الذي هو الطَّليعة كالمباشرِ لها، فيُقتصُّ مِن الكلِّ لكن فيما لا دمَ فيه على ما قرَّرناه، وقد نبَّه ◙ على هذا المعنى بقوله: (إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) كما سلف.
          فإن قلتَ: عارَضَ هذا قولُ عائِشَةَ ♦: كان صلعم لا ينتقِمُ لنفسِه؟ ويُجاب بأنَّه لا ينتقِمُ لها باعتبار الأكثر مِن حاله، أو أنَّها نَسِيت هذا الحديثَ، وقيل: أرادت في المال، وأنَّه إذا أُصيب في بدنِهِ كان انتهاكًا لحُرمة الله، ذكرها ابن التِّين.
          فإن قلتَ: فَلِمَ لَمْ يَعفُ عنهم؟ قيل: أراد أن يؤدِّبَهم لئلَّا يعودوا إلى مِثْلها فيكونَ لهم أدبًا وقِصَاصًا، أو أنَّه فعل ذلك بهم لأنَّهم لدُّوه في مرضٍ تحقَّقَ فيه الموت، وإذا تحقَّقَ الموتُ كُره له التداوي.
          فصْلٌ: وفيه دليلٌ أنَّه يُقتصُّ مِن اللَّطْمة ونحوها، وهو أحدُ قَولَي مالك، قاله الدَّاوُدِيُّ، وزاد: أنَّ قولَه: (إِلَّا العبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) فيه دليلٌ أنَّ العَمَّ يَقتصُّ منه لأنَّه لو شهِدَ لاقتصَّ منه.
          فصْلٌ: وقوله: (قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يَقُولُ: أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَمْ يَحْفَظْ، إنَّما قَالَ: أَعْلَقْتُ عَنْهُ) قال الخطَّابيُّ عن ابن الأعرابي: يُقال: أَعْلَقْتُ عن الصبيِّ، إذا عالجتُ منه العُذْرَةَ، وهو وجعُ الحَلْقِ، قال: وأكثر المحدِّثين يروُونَه: (أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ)، والصَّوابُ ما حفظَه سُفْيَانُ، وقد سلف ذلك، وكذا قال ابنُ بطَّالٍ بعد أنْ ساقَ كلامَ ابن قُتَيْبَة في العُذْرَةِ: الصَّوابُ: (أَعْلَقْتُ عَنْهُ)، كذلك حكاه أهلُ اللُّغة ولم يعدَّه إلَّا بـ (عن).
          وقال الجَوْهَرِيُّ: في الحديثِ: ((اللَّدُود أحبُّ إليِّ مِن الإِعْلَاقِ))، يُقال: أَعْلَقَتِ المرأةُ ولدَها في العُذْرَة، إذا رَفَعَتْها بيدِها. و(تَدْغَرْنَ) بالغين المعجمة والدَّال المهملة كما سلف، وعبارة ابن التِّين: الدَّغْرُ _بغينٍ ساكنةٍ_ الرَّفْع، يقول: لِمَ ترفَعْن ذلك بأصابعكن فَتُؤلِمْنَهُم وتُؤذِيْنَهُم بذلك.
          وقوله: (بِهَذَا العِلَاقِ) صوابُه كما قال الخطَّابيُّ: ((بِهَذَا الإِعْلَاقِ)) مصدر أَعْلَقْتُ عنه، والله أعلم.