التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الحبة السوداء

          ░7▒ (بَابُ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ).
          5687- ذكر فيه حديثَ عائِشَة ♦ بقصَّته: أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا مِنَ السَّامِ، قُلْتُ: وَمَا السَّامُ؟ قَالَ الْمَوْتُ).
          5688- وحديثَ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: (إِنَّ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِن كلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالسَّام المَوْتُ، والحَبَّةُ السَّودَاءُ الشُّونِيزُ).
          الشَّرح: حديثُ عائِشَةَ هو مِن رواية خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ عن ابن أبي عَتِيقٍ عنها، وقد أخرجه ابن ماجه، وليس لخالدٍ عندَهما غيره، وهو حديثٌ غريبٌ، وهذا الحديث مِن طريقها وطريق أبي هُرَيْرَةَ دالٌّ بعُمُومه على الانتفاع بالحبَّة السَّوداء في كلِّ داءٍ غيرِ الموت كما قال ◙، وأوَّلَه الموفَّقُ البَغْدَاديُّ بأكثر الأدواء وعدَّد جملةً مِن منافعها، وكذا قال الخطَّابيُّ: هو مِن العُمُوم الذي أُريد به الخُصُوص، وليس يجتمع في شيءٍ مِن النَّبات جميعُ القُوى التي تقابل الطِّباعَ كلَّها في معالجة الأدواء، وإنَّما أراد شفاءَ كلِّ داءٍ يحدُثُ مِن الرُّطُوبة والبَلْغم لأنه حارٌّ يابسٌ.
          قلت: إلَّا أنَّ أمرَ ابن أبي عَتِيقٍ في حديث عائِشَة بتقطير الحبَّة السَّوداء بالزَّيت في أنفِ المريض لا يدلُّ أنَّ هكذا سبيل التداوي بها في كلِّ مرضٍ، فقد يكون مِن الأمراض ما يصلُح للمريض شربُها أيضًا، ويكون منها ما يصلُح خَلْطُها لبعض الأدوية، فيعمُّ الانتفاع بها مفردةً ومجموعةً مع غيرها.
          وقوله: (ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِي أَنْفِهِ) هو ثلاثيٌّ، يُقال: قَطَرَ الماءَ وغيرَهُ يَقْطُرُ قَطْرًا، وَقَطَرْتُهُ أنا، يتعدَّى ولا يتعدَّى.
          وقوله: (فَاسْحَقُوهَا) هو ثلاثيٌّ أيضًا، أي أَسْهِلوها، قال الخطَّابيُّ: وليس ذلك في الحديث إنَّما هو مِن عندِه، ولعلَّ صاحبَه الذي وصف له هذا السَّعُوط كان مزكومًا، والمزكومُ ينتفع برائحةِ الشُّونِيز. قلت: وروى الإسْمَاعِيلِيُّ مِن حديثِ إسرائيلَ، عن مَنْصُورٍ، عن خالدٍ، عن أبي بكر بن أبي عَتِيقٍ: حدَّثتني عائِشَةُ ♦: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قال: ((هَذهِ الحبَّةُ السَّوداءُ التي تكون في الملحِ شفاءٌ مِن كلِّ داءٍ)) وربَّما قال: ((واقْطُروا عليها شيئًا مِن زيتٍ))، وابن أبي عَتِيقٍ: هو عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بَكْرٍ، وقيل: هو مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، حكاهُما ابنُ التِّين، وقد أدركَ مُحَمَّدٌ رَسُولَ اللهِ صلعم وروى عنه، ولأبيه وجدِّه صحبة، كذا لأبي جدِّه، أربعة في نسقٍ، ليس هذا إلَّا في هذا البيتِ، ومِن جهةٍ أخرى راجعةٍ إليه: عبد الله بن الزُّبَيْر ابن أسماءَ بنت أبي بَكْرِ بن أبي قُحَافةَ.
          فصْلٌ: ذكر في حديث الباب عن الزُّهْرِيِّ أن الحَبَّةَ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ، وذكر في حديث الزُّبَيْديِّ عنه، عن أبي سَلَمَةَ عنه: الحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ، وفي «جامع التِّرْمِذِيِّ»: قال قَتَادَة: حديث أبي هُرَيْرَةَ أنَّه قال: الشُّونيزُ دواءٌ مِن كلِّ داءٍ إلَّا السَّامَ. قال قَتَادَةُ: يأخذ كلَّ يومٍ إحدى وعشرين حبَّةً مِن الشُّونِيز فيجعلهنَّ في خِرْقةٍ وَيَنْقَعُها ويَسْتَعِطُ بها كلَّ يومٍ مرَّةً في مَنْخَرِهِ الأيمن قطرةٌ وفي الأيسر قطرةٌ، والثاني في الأيمن واحدةٌ وفي الأيسر ثِنتين، والثالث في الأيمن قَطْرَتين وفي الأيسر قطرةٌ.
          وفي «الطبِّ» لأبي نُعَيْمٍ مِن حديثِ العلاءِ عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: ((ما صحَّ مِن داءٍ إلا في الحبَّة السَّوداء منه شفاء إلَّا السَّامَ))، ومِن حديثِ صالح بن حيَّان عن عبد الله بن بُرَيدةَ عن أبيه مرفوعًا: ((الحبَّة السَّوداء فيها شفاءٌ مِن كلِّ داء إلَّا الموتَ))، وفي لفظٍ قال ابنُ بُرَيدةَ: يعني الشُّونِيز الذي يكون في الملح. قال أبو نُعَيمٍ: وهو الشِّينِيز فارسِيُّ الأصل، ومِن حديثِ الهيثمِ بن خارِجَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيد بن مَيْسَرَة، عن أنسٍ ☺ عن النَّبِيِّ صلعم قال: ((إذا اشتكى بطنُ أحدِكُم يأخذ في كفِّه شُونِيزًا فاستفَّه ثمَّ شَرِب عليه عسلًا))، وروى ابن أبي عاصِمٍ مِن حديثِ سالِمٍ عن أبيه مرفوعًا: ((عليكم بالحبَّةِ السَّوداء فإنَّ فيها شفاءً مِن كلِّ داءٍ إلَّا السَّامَ)).
          فصْلٌ: قال القُرْطُبِيُّ: قيَّد بعضُ مشايخنا (الشَّونِيزَ) بفتح الشين المعجمة، قال ابن الأعرابيِّ: إنَّما هو الشِّينيز، كذا تقوله العرب، وقال غيره: الشُّونِيزُ بالضمِّ، وهي الحبَّة الخضراءُ، والعرب تسمِّي الأخضر أسودَ وعكسه، وهي شجرة البُطم وهو المسمَّى بالضِّرو، وقيل: إنَّها الخَرْدَلُ، وما في الحديث / أَوْلَى، ولأنَّه أكثر منافعَ مِن الخَرْدَلِ وحبِّ الضِّرو، وقال الموفَّقُ البَغْدَادِيُّ: هو الكَمُّون الأسودُ، ويُسمَّى الكَمُّون الهِندِيَّ ثمَّ ذكر منافعه:
          مِن جملتها أنَّه يشفي مِن الزُّكام إذا قُلِيَ وصُرَّ وشُمَّ، ويقتلُ الدُّودَ إذا أُكل على الرِّيق، وإذا وُضع في البطن مِن خارجٍ لطوخًا وَدَهْنُهُ ينفَعُ مِن داء الحيَّةِ ومِن الثآليلِ والخِيْلَان، وإذا شُرب منه مِثْقَالٌ نفَعَ مِن ضيِّق النَّفَس ويَحدرُ الطَّمْث المحتَبِس، والضِّمادُ به ينفعُ مِن الصُّداع البارد، وإذا نُقع منه سبعُ حبَّاتٍ بالعدد في لبن امرأةٍ وَسُعط به صاحب اليَرَقانِ نَفَعَه نَفْعًا بليغًا، ودُخَانه يَطْردُ الهوامَّ.
          وذكرَ ابن البِيطارِ له منافعَ أُخرى: منها أنَّه إذا ضُمِّد به السرَّة أخرج الدُّودَ الطوال وينفعُ مِن البَهَقِ والبَرَص طِلاءً بالخل، ويُسقَى بالماء الحارِّ والعسل للحَصَاة في المَثَانة والكُلَى، وإن عُجِنَ بماءِ الشِّيح أخرج الحيَّات مِن البطن، وإذا ضمِّد به أوجاعَ المفاصل نفعَها، ويخرجُ الأجنَّة أحياءً وأمواتًا والمَشْيْمَةَ.