عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: الشهادة سبع سوى القتل
  
              

          ░30▒ (ص) بابٌ: الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ.
          (ش) أَيْ: هذا بابٌ يُذكَر فيه الشهادة سبعٌ؛ أَيْ: سبعة أنواع، وكونها سبعًا باعتبار الشهداء، ولهذا جاء في حديث جابر بن عَتِيك عن رَسُول اللهِ صلعم : «الشهداء سبعةٌ سوى القتل فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى: المطعونُ شهيدٌ، والغَرِقُ شهيد، وصاحب ذات الجَنب شهيدٌ، والمبطون شهيدٌ، والحَرِق شهيد، والَّذِي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمْع شهيد...» الْحَدِيث في «الموطَّأ»، قوله: (بِجُمْع) بِضَمِّ الجيم وسكون الميم وفي آخره عين مهملة؛ بمعنى المجموع، كالذُّخر بمعنى المذخور، وهو أن تموتَ المرأة وفي بطنها ولدٌ، وقيل: التي تموت بكرًا، وكَسَر الكسائيُّ الجيم، وفي حديث الباب: الشهداء خمسة على ما يأتي، وروى الحارث بن أبي أسامة مِن حديث أَنَس بْن مالكٍ قال: قال رَسُول اللهِ صلعم : «الشهداء ثلاثة: رجل خرج بنفسه وماله صابرًا محتسبًا لا يريد أن يَقْتُل ولا يُقتَل، فإن مات أو قُتِلَ غُفِرَت له ذنوبُه كلُّها، ويُجار مِن عذابِ القبر، ويُؤمَن مِنَ الفزع الأكبر، ويُزوَّج مِنَ الحور العين، ويُخلَع عليه حُلَّة الكرامة، ويُوضَع على رأسه تاج الخُلْد، والثاني: رجل خرج بنفسه ومالِه محتسبًا يريد أن يَقْتُلَ ولا يُقتَل، فإن مات أو قُتِلَ كانت ركبتُه ورُكبةُ إِبْرَاهِيم الخليل ◙ ، بين يدي الله ╡ في مقعدِ صِدْقٍ، والثالث: رجل خرج بنفسه ومالِه محتسبًا يريد أن يُقتَلَ ولا يُقتَل، فإن مات أو قُتِلَ فَإِنَّهُ يجيء يوم القيامة شاهرًا سيفَه واضعَه على عاتقه، والناس جاثون على الرُّكَب، يقول: اِفْسحوا لنا؛ فإنَّا قد بذلنا دماءنا لله ╡ ، والَّذِي نفسي بيده؛ لو قال ذلك لإِبْرَاهِيم ◙ أو لنبيٍّ مِنَ الأنبياء ‰ ؛ لتنحَّى لهم عَنِ الطريق؛ لِما يرى مِن حقِّهم، ولا يسألُ الله شيئًا إلا أعطاه، ولا يَشفَع أحدًا إلَّا شُفِّع فيه، ويُعطَى في الْجَنَّة ما أحبَّ...» الْحَدِيث بطولِه.
          وروى التِّرْمِذيُّ مِن حديث فَضالة بن عُبَيْد يقول: سَمِعْتُ عُمَر بن الخَطَّاب ☺ يقول: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلعم يقول: «الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّد الإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَاكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هكذا» _ورفع رأسه حَتَّى وقعت قلنسوته، فما أدري أقَلَنسوة عُمَر أراد أم قلنسوة النَّبِيِّ صلعم ؟_قال: «وَرَجُلٌ مٌؤْمنٌ جَيِّد الإِيمَانِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ، فَكَأَنَّمَا ضُرِبَ جِلْدُهُ بِشَوْكِ طَلْحٍ مِنَ الْجُبْنِ، أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَجُلٌ مٌؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا فَصَدَقَ اللهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَرَجُلٌ مٌؤْمِنٌ أَشْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ»، وقال التِّرْمِذيُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غريب.
          وهذا كما رأيتَ في ترجمة الباب الشهادة (سبع)، وفي حديث جابر بن عَتِيك: (سبعة) موافق للترجمة، وفي حديث الباب: (خمسة)، وفي حديث أَنَس بْن مالكٍ: (ثلاثة)، وفي حديث عُمَر بن الخَطَّاب: (أربعة)، وجاء أحاديث أخرى في هذا الباب؛ منها: في «الصحيح»: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلُ دُونَ دِينِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ، أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ عَلَى أَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللهُ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ ظَالِمًا لَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَكُلُّ مَوْتَةٍ يَمُوتُ بِهَا الْمُسْلِمُ فَهُوَ شَهِيدٌ»، وفي حديث ابن عَبَّاسٍ: «الْمُرَابِطُ يَمُوتُ فِي فِرَاشِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالشَّرِقُ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَفْتَرِسُهُ السَّبُعُ شَهِيد»، وَعِنْدَ ابن أبي عُمَر مِن حديث ابن مسعودٍ: «وَمَنْ تَرَدَّى مِنَ الْجِبَالِ شَهِيدٌ»، وقال ابن العربيِّ: وصاحب النظرة وهو المَعِين والغريب شهيدان» / قال: وحديثهما حسن، ولمَّا ذكر الدَّارَقُطْنيُّ حديث ابْن عُمَرَ: «الْغَرِيبُ شَهِيدٌ» صحَّحه، وروى ابن مَاجَه مِن حديث أبي هُرَيْرَة: «مَنْ مَاتَ مَرِيضًا مَاتَ شَهِيدًا، وَوُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» الْحَدِيث، وسنده جَيِّد على رأى الحاكم، وروى البَزَّار بسندٍ صحيحٍ عن عُبَادَة بن الصامت ☺ : «النُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ» وفي «الاستذكار» قال عمر ☺ : الشهيد مَن احتسب نفسه على الله شهيدٌ، وحديث ابن عَبَّاسٍ: «مَنْ عَشِقَ، وَعَفَّ، وَكَتم، وَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا»، وروى النَّسائيُّ من حديث سُويد بن مُقَرِّن: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَةٍ فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَعِنْدَ التِّرْمِذيِّ، من حديث مَعْقِل بن يسار: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مَاتَ شَهِيدًا» وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ غريبٌ، وَعِنْدَ الثعلبيِّ مِن حديث يزيد الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ ☺ : «مَنْ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ الْحَشْرِ فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ مَاتَ شَهِيدًا»، وَعِنْدَ الأَجُرِّيِّ: «يَا أَنَس؛ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ أَبَدًا عَلَى وُضُوءٍ فَافْعَلْ، فَإِنَّ مَلِكَ الْمَوْتِ إِذَا قَبَضَ رُوحَ الْعَبْدِ، وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ كُتِبَ لَهُ شَهَادَةٌ»، وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ صَلَّى الضُّحَى وَصَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَلَمْ يَتْرِكِ الْوِتْرَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ»، وعن جابر: «مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أُجِيرَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ طَابِعُ الشُّهَدَاءِ»، قال أَبُو نُعَيْمٍ: غريبٌ مِن حديث جابر، وَعِنْدَ أبي مُوسَى مِن حديث عبد الملك بن هارون بن عَنْتَرَةَ عَن أبيه عن جدِّه يرفعه، فذكر حديثًا فيه: «وَالسِّلُّ شَهِيدٌ، وَالغَرِيبُ شَهِيدٌ»، وفي كتاب «الأَفْراد والغرائب» للدَّارَقُطْنيِّ مِن حديث أنس عَنِ النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ قال: «الْمَحْمُومُ شَهِيدٌ»، وفي «كتاب العِلم» لأبي عُمَر عن أَبِي ذَرٍّ وأبي هُرَيْرَة: «إِذَا جَاءَ الْمَوْتُ طَالِبَ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ؛ مَاتَ شَهِيدًا»، وفي «الجهاد» لابن أبي عاصم مِن حديث أبي سلَّام عَنِ ابْنِ معانق الأشعريِّ عن أبي مالكٍ الأشعريِّ مرفوعًا: «مَنْ خَرَجَ بِهِ جَراحٌ فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَ عَلَيْهِ طَابِعُ الشُّهَدَاءِ» وفي «التمهيد» عن عَائِشَة عن النَّبِيِّ صلعم : «إِنَّ فَنَاءَ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُون» قالت: يا رَسُول اللهِ؛ أَمَّا الطعن فقد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ تَخْرُجُ فِي الْمرَاقِّ وَالآبَاطِ، مَنْ مَاتَ مِنْهَا مَاتَ شَهِيدًا»، وفي ببعض الآثار: الْمَجنُوب شهيد؛ يريد: ذات الجَنْب، وفي الْحَدِيث: «إِنَّهَا نَخْسَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ»، وهذا كما رأيتَ ترتقي الشهداء إلى قريب أربعين.
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف التوفيقُ بين الأحاديث التي فيها العدد المختلف صريحًا والأحاديث الأُخَر أَيْضًا؟
          قُلْت: أَمَّا ذكر العدد المختلف فليس على معنى التحديد، بل كلُّ واحدٍ مِن ذلك بحسب الحال، وبحسب السؤال، وبحسب ما تجدَّد العلم في ذلك مِنَ النَّبِيِّ صلعم ، على أنَّ التنصيص على العدد المعيَّن لا ينافي الزيادة، ومع هذا: الشهيدُ الحقيقيُّ هو قتيل المعركة وبه أثرٌ، أو قتله أهل الحرب، أو أهل البغي، أو قطَّاع الطريق، سواء كان القتل مباشرةً أو تسبِيبًا، أو قتله الْمُسْلِمُونَ ظلمًا ولم يجب بقتله ديةٌ، فالحكمُ فيه أن يُكفَّن ويصلَّى عليه ولا يغسَّل، ويُدفَن بدمه وثيابه إلَّا ما ليس مِن جنس الكفن؛ كالفَرْو، والحَشْو، والسِّلاح المعلَّق عليه، ويزاد وينقص، هذا كلُّه عِنْدَ أصحابنا الحَنَفيَّة، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: مَن مات في قتال أهل الحرب فهو شهيدٌ، سواءٌ كان به أثر أو لا، ومَن قتل ظلمًا في غير قتال الكفَّار أو جرح في قتالهم ومات بعد انفصال القتال، وكان بحيث يقطع بموته؛ ففيه قولان؛ في قول: لم يكن شهيدًا، وبه قال مالكٌ وأَحْمَد، وفي «المُغْنِي»: إذا مات في المُعتَرك فَإِنَّهُ لا يُغَسَّل، رِوَايَة واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، ولا نعلم فيه خلافًا إلَّا عَنِ الحسن وابن المُسَيَِّبِ فَإِنَّهُما قَالَا: يُغَسَّل الشهيد، ولا يُعمل به، وأَمَّا ما عدا ما ذكرناهم الآن فهم شهداء حكمًا لا حقيقةً، وهذا فضل مِنَ الله لهذه الأمَّة بأن جعل ما جرى عليهم تمحيصًا لذنوبهم، وزيادةً في أجرهم بلَّغهم بها درجات الشهداء / الحقيقيَّة ومراتبهم، فلهذا يُغَسَّلون ويُعمَل بهم ما يُعمَل بسائر أموات الْمُسْلِمِينَ، وفي «التوضيح»: الشهداء ثلاثة أقسام: شهيدٌ في الدنيا والآخرة، وهو المقتول في حَرْب الكفَّار بسببٍ مِن الأسباب، وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا، وهم مَن ذُكِروا آنفًا، وشهيد في الدنيا دونَ الآخرة، وهو مَن غلَّ في الغنيمة، ومَن قُتِل مدبرًا، أو ما في معناه.