عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من اغبرت قدماه في سبيل الله
  
              

          ░16▒ (ص) بابُ مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ.
          (ش) أَيْ: هذا بابٌ في بيانِ فضلِ مَن اغبرَّت قدماه، واغْبِرَار القدمين عبارةٌ عَنِ الاقتحام في المعارك لقتال الكفَّار، ولا شكَّ أنَّ الغبار يثور في المعركة حالَة مصادمة الرِّجَال، ويعمُّ سائرَ الأعضاء، ولكنَّ تخصيص القدمين بالذِّكرِ لكونهما عمدةً في سائر الحركات.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة:120].
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفًا على قَوْلِهِ: (مَنِ اغْبَرَّتْ) أَيْ: وفي بيان قولِ الله ╡ : {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وقال ابن بَطَّالٍ: مناسبة الآية للترجمة أنَّهُ سبحانه وتَعَالَى قال في الآية: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} وفي الآية: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} قال: فَسَّر صلعم العملَ الصَّالِح أنَّ النَّار لا تمسُّ مَن عَمِل بذلك، قال: والمراد بـ{سَبِيلِ اللهِ} جميع طاعاته، وقيل: مطابقة الآية مِن جهة أنَّ الله أثابهم بخطواتهم وإن لم يباشروا قتالًا، وكذلك دلَّ الْحَدِيث على أنَّ مَن اغبرَّت قدمه فِي سَبِيلِ اللهِ حرَّمه الله على النَّار، سواءٌ باشر قتالًا أم لا، وفي «تفسير ابن كثير»: عاتب الله تَعَالَى المتخلِّفين عن رَسُول اللهِ صلعم في غزوة تبوك مِن أهل المدينة ومَن حولها مِن أحياء العرب، ورغبتهم بأنفسهم عَن مواساته فيما حصل مِنَ المشقَّة، فَإِنَّهُم نقصوا أنفسهم مِنَ الأجر؛ لأنَّه {لَا يُصِيْبُهُمْ ظَمَأٌ} وهو العطش {وَلَا نَصَبٌ} وهو التعب، {وَلَا مَخْمَصَةٌ} وهي المجاعة، {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} أَيْ: ينزلون منزلًا يُرهِبُ عدوَّهم، {ولا ينالون} منه ظفرًا وغلَبةً عليه، إلَّا كَتَبَ الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلةً تحت قَدرهم، وإِنَّما هي ناشئةٌ عَن أفعالهم أعمالًا صالحةً وثوابًا جزيلًا، والله لا يضيع أجر المحسنين؛ كما قال تَعَالَى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنْ عَمْلًا}[الكهف:30]، وفي «تفسير الثعلبي»: ظاهر قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} خبرٌ ومعناه أمرٌ، والأعراب سكَّان البوادي؛ مُزَيْنَة، وجُهَيْنَة، وأَشْجَعُ، وَأَسْلَمُ، وَغِفَار، {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ} صلعم إِذْ غَزا، وقال ابن عَبَّاسٍ: كتب لهم بكلِّ رَوْعَةٍ تنالهُم فِي سَبِيلِ اللهِ سبعين ألف حسنةٍ، وقال قَتَادَة: هذا خاصٌّ بالنَّبِيِّ صلعم إذا غزا بنفسه، فليس لأحدٍ أن يتخلَّف عنه إلَّا بعذرٍ، فأَمَّا غيرُه مِنَ الأئِمَّة والولاة؛ فمَن شاء أن يتخلَّف تخلَّف، وقال الْوَلِيد بْن مُسْلِمَ: سَمِعْتُ الأَوْزَاعِيَّ وابنَ المبارك والفَزاريَّ وابنَ جابرٍ وسَعِيدَ بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: إنَّها لِأَوَّلِ هذه الأمَّة وآخِرِها، وقال ابْن زَيْدٍ: كان هذا وأهلُ الإسلام قليلٌ، فلمَّا كثُروا نسخها الله ╡ ، وأباح التخلُّف لمن شاء فقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}[التوبة:122]، وقال النَّحَّاس: ذهب غيره أنَّهُ ليس هنا ناسخٌ ولا منسوخٌ، وأنَّ الآية الأولى توجب إذا نفر النَّبِيُّ صلعم ، أو احتيج إلى الْمُسْلِمِينَ واستُنفِروا؛ لم يسعْ أحدًا التخلُّف، وإذا بعث النَّبِيُّ صلعم سريَّةً خُلِّفت طائفةٌ.