عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب فضل قول الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله}
  
              

          ░19▒ (ص) بابُ فَضْلِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عِمْرَان:169-171]
          (ش) أَيْ: هذا بابٌ في بيانِ فضل مَن ورد فيه قول الله تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية، ولا بُدَّ مِن هذا التقدير؛ لأنَّ ظاهره غير مرادٍ، ولهذا حذف الإِسْمَاعِيليُّ لفظ (فضل) مِنَ الترجمة، ثُمَّ إنَّ الآيتين ساقهما بتمامهما الأصيليُّ وكريمة، وفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ:<{وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} إلى {وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}> واختلفوا في سبب نزول هذه الآيات؛ فقال الإمام أَحْمَد: حَدَّثَنَا يعقوب: حَدَّثَنَا أبي عن [ابن] إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بنِ أُمَيَّة بنِ عَمْرٍو بن سَعِيدٍ، عن أبي الزُّبَير المَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قال رَسُول اللهِ صلعم : «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُد جَعَل اللهُ أَرْوَاحَهُم فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَار الجَنَّة وَتأَكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَأَكَلِهِمْ وَحُسْنِ مَقِيلِهِم، قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللهُ لَنَا؛ لِئَلَا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَال اللهُ تَعَالَى: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُم، فَأنَزَلَ اللهُ ╡ : {وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها» ورواه أَبُو دَاوُدَ وابن جريرٍ والحاكم في «مستدركه»، وروى الحاكم أَيْضًا في «مستدركه» مِن حديث أَبِي إِسْحَاقَ الفزاريِّ عَن سُفْيَان عن إِسْمَاعِيل بن أبي خالدٍ عن سَعِيد بن جُبَير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه: {وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية، وكذا قال قَتَادَة والربيع والضحَّاك، وقال أبو بَكْر بن مَرْدَوَيه بإسناده عن / عليِّ بن عبد الله المدينيِّ عن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن كثير بن بَشير بن الفاكِه الأَنْصَارِيِّ عَن طَلْحَة بن خراش بن عَبْد الرَّحْمَن بن خراش بن الصِّمَّة الأَنْصَارِيِّ قال: سَمِعْتُ جابر بن عَبْد اللهِ قال: نظر إليَّ رَسُول اللهِ صلعم ذات يومٍ فقال: «يَا جَابِر؛ مَا لِي أَرَاكَ مُهْتَمًّا؟» قال: قُلْت: يا رَسُول اللهِ؛ استُشهِد أبي وترك عليه دينًا وعيالًا، قال: «أَلَا أُخْبِرَكَ؟ مَا كَلَّم اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا»، قال عليٌّ: الكفاح المواجهة، «قال: سَلْنِي أُعْطِكَ، قَالَ: أَسْأَلَكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا وَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ ╡ : إنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: أَيْ رَبِّ؛ فَأَبْلِغ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللهُ ╡ : {وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا}»، حَتَّى أنفذَ الآية، وقال ابن جريرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن مَرْزوق: حَدَّثَنَا عُمَر بن يُونُس عن عِكْرِمَة: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بن أَبِي طَلْحَةَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْن مالكٍ في أصحاب النَّبِيِّ صلعم الَّذِينَ أرسلهم نبِيُّ الله صلعم إلى أهل بئر معونة... الْحَدِيث مطوَّلًا، وفي آخره: قال إِسْحَاق: حَدَّثَنِي أَنَس بْن مالكٍ أنَّ الله أنزل فيهم قرآنًا: (بلِّغوا عنَّا قومَنا أنَّا قد لقينا ربَّنا، فرضيَ عنَّا ورضينا عنه)، ثُمَّ نُسِخَت بعدما قرأناه زمانًا، وأنزل الله: {وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} الآية، وقال مقاتلٌ: نزلت في قتلى بدرٍ، وكانوا أربعة عشر شهيدًا.
          قَوْلُهُ: ({فَرِحِينَ}) بمعنى: فارحين، ويجوز أن يكون حالًا مِنَ الضمير في {يُرزَقُون} وأن يكون صفةً لـ{أَحْياءٌ}.
          قَوْلُهُ: ({مِنْ فَضْلِهِ}) أَيْ: مِن رزقه.
          قَوْلُهُ: ({وَيَسْتَبْشِرُونَ}) عطفٌ على {فَرِحِين} مِنَ الاستبشار، وهو السرور بالبشارة.
          قَوْلُهُ: ({بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}) أَيْ: يفرحون بإخوانهم الَّذِينَ فارقوهم أحياءً يرجُون لهم الشهادة، يقولون: إن قُتِلوا نالوا ما نلنا مِنَ الفضل، وقال السُّدِّيُّ: يؤتى الشهيدُ بكتابٍ فيه: يقدَم عليك فلانٌ يوم كذا وكذا، ويقدَم عليك فلانٌ يوم كذا وكذا، فيَسُرَّ بذلك كما يُسَرُّ أهل الدنيا بقدوم غائبهم.
          قَوْلُهُ: ({أَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}) بدلٌ مِنَ {الَّذِينَ} يعني: لا خوف عليهم فيمن خلَّفوه مِن ذريَّتهم، ({وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}) على ما خلَّفوا مِن أموالهم، وقيل: فيما يقدمون عليه، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا.
          قَوْلُهُ: ({يَسْتَبْشِرُونَ}) كلامٌ مستأنفٌ كُرِّرَ للتوكيد، و(النعمة) فضلٌ مِنَ الله، لا أنَّهُ واجبٌ عليه.
          قَوْلُهُ: ({وَأَنَّ اللهَ}) بالفتح عطفًا على (النعمة) و(الفضلِ) وبالكسر على الابتداء، وعلى أنَّ الجملة اعتراضٌ، وهي قراءة الكسائيِّ، وقال عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلَّهم، سواءٌ الشهداء وغيرهم، وقلَّما ذكر الله فضلًا ذَكَرَ به لِلأنبياء ‰ ثوابًا مَّا أعطاهم إلَّا ذكر ما أعطى المؤمنين مِن بعدهم.