عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية
  
              

          ░27▒ (ص) بابُ وُجُوبِ النَّفِيرِ، وَما يَجِبُ مِنَ الجِهَادِ وَالنِّيَّةِ.
          (ش) أَيْ: هذا بابٌ في بيانِ وجوب النَّفِير _بفتح النون وكسر الفاء؛ أَي: الخروج إلى قتالِ الكفَّار_وأصل (النَّفِيرِ) مفارقة مكانٍ إلى مكان؛ لأمرٍ حَرَّك ذلك.
          قَوْلُهُ: (وَمَا يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ) أَيْ: وفي بيانِ القدر الواجب مِنَ الجهاد.
          قَوْلُهُ: (وَالنِّيَّةِ) أَيْ: وفي بيانِ مشروعيَّة النيَّة في ذلك.
          (ص) وَقَوْلِه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ} الآيَةَ[التوبة:41-42].
          (ش) (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ / عطفًا على قولِه: (وُجُوبِ النَّفِيرِ) أَيْ: وقولِ الله تَعَالَى، وفي بعضِ النُّسَخ: <وقولِ الله ╡ >.
          وقال سُفْيَان الثَّوْريُّ عن أبيه عن أبي الضُّحى مسلم بن صُبَيح: هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} أَوَّلُ ما نزل مِن «سورة براءة»، وقال أبو مالكٍ الغِفَاريُّ وابنُ الضحَّاك: هذه أَوَّل آيةٍ نزلت مِن «براءة» ثُمَّ نزل أوَّلها وآخِرُها، وفِي التَّفْسِيرِ: قال جماعة من الصَّحَابَة ♥ : لمَّا نزلت آيةُ الجهاد؛ منَّا الثقيلُ وذو الحاجة والضِّيقة والشُّغل، فنزل قوله تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ويُقال: كان المِقداد عظيمًا سمينًا، جاء إلى النَّبِيّ صلعم وشكا إليه، وسأل أن يَأذَنَ له، فنزلت: {انْفِرُوا} الآية، أمَرَ الله تعالى بالنفير العامِّ مع الرسول صلعم عامَ غزوة تبوك؛ لقتال أعداءِ الله مِنَ الروم الكَفَرة مِن أهل الكتاب، وحتَّم على المؤمنينَ في الخروج معه على كلِّ حال في المَنشط والمَكرَه، والعُسر واليُسر، فقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} وعن أَبِي طَلْحَةَ: كهولًا وشُبَّانًا، ما سمِعَ الله عُذرَ أَحَدٍ، ثُمَّ خَرَج إلى الشام فقاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وهكذا رُويَ عَنِ ابْنِ عَبَّاس، وعِكْرِمَة، والحسن البِصْريِّ، والشَّعْبِيِّ، ومُقاتل بن حيَّان، وزيد بن أسلم، وقال مجاهد: شُبَّانًا وشيوخًا، وأغنياء ومساكين، وقال الحكَم بن عُتَيْبة: مَشاغيل وغيرَ مَشاغيل، وعَنِ ابْنِ عَبَّاس: انفروا نِشاطًا وغيرَ نِشاطٍ. وكذا قال قَتَادَة، وعن الحسن البِصْريِّ: في العُسر واليُسر، وقيل: الخِفاف: أهل اليُسْرة، والثِّقال: أهل العُسرة، وقيل: أصحَّاء ومَرضى، وقيل: مُقِلِّين مِنَ السلاح ومُكثِرين، وقيل: رِجالًا ورُكبانًا، وقيل: عُزْبانًا ومُتأهِّلين، وقال السُّدِّيُّ: لمَّا نزلت هذه الآية اشتدَّ على الناس شأنُها، فنسَخَها الله تَعَالَى فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَنُفْقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}[التوبة:91].
          و({خِفافًا}) جمعُ (خفيف) ({وَثِقالًا}) جمعُ (ثقيل)، وانتصابُهما على الحال مِنَ الضمير الَّذِي في ({انفِرُوا}).
          قَوْلُهُ: ({وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}) إيجابٌ للجهاد بهما إن أمكَنَ، أو بأحدهما على حَسب الحال.
          قَوْلُهُ: ({ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}) يعني: في الدنيا والآخرة؛ لأنَّكم تَغرَمون في النفقة قليلًا، فيُغنِمُكم الله أموالَ عدوِّكم في الدنيا مع ما يدخِّر لكم مِنَ الكرامة في الآخرة ({إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون}) أنَّ الله يريد الخير.
          قَوْلُهُ: ({لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا}) الآية نزلت في المنافقين في غزوة تبوك، والمعنى: لو كان ما دُعُوا إليه غنيمةً قريبةً ({وَسَفرًا قاصِدًا}) أَيْ: سهلًا قريبًا ({لَاتَّبَعُوكَ}) طَمَعًا في المال، ({وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةَ}) أَي: السفر البعيد، وقرأ عُبَيد بنُ عُمَيْر بكسر الشين، وهي لغةُ قيس.
          قوله: ({وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ}) أَيْ: يحلفون بالله لكم إذا رجعتُم إليهم: ({لَوُ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}) أَيْ: لو قدِرْنا وكان لنا سَعةٌ مِنَ المال؛ لخرجنا معكم، وذلك كذبٌ منهم ونفاق؛ لأنَّهم كانوا مياسيرَ ذَوي أموال، قال الله تَعَالَى: ({يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}) وقال الزَّمَخْشَريُّ: {يُهلِكون أنفسَهُم} إمَّا أن يكون بدلًا مِن {سَيَحلِفون} أو حالًا بمعنى مُهلِكين، والمعنى: أنَّهم يوقِعونها في الهلاك بحَلِفِهم الكاذب، وبما يَحلفون عليه مِنَ التخلُّف.
          (ص) وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة:38-39].
          (ش) (وَقَوْلِهِ) بالجر عطفٌ عَلَى (قَوْلِهِ) الأَوَّل، هذا شروعٌ في عَتَّاب مَن تخلَّف عن رَسُول اللهِ صلعم في غزوة تبوك حين طابت الثمار، والظلال في شدَّة الحر وحُمَّارة القيظ، فقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...} الآية.
          قَوْلُهُ: ({اثَّاقَلْتُمْ}) أصله: تثاقلتم، أُدغِمَت التاء في الثاء فسُكِّنت الأولى، فأُتيَ بألف الوصل ليتوصَّل بها إلى النطق بالساكن، معناه: تكاسلتم ومِلْتُم إلى المقام في الدَّعَة والخفض وطيب الثمار.
          قَوْلُهُ: ({أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}؟!) أَيْ: بدل الآخرة، ثُمَّ قال تَعَالَى: ({فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}) هذا تزهيدٌ مِنَ الله في الدنيا وترغيب في الآخرة بأنَّ متاع الدنيا قليلٌ بالنسبة إلى الْجَنَّة؛ لانقطاع / ذلك ودوام هذا، ثُمَّ توعَّد على ترك الخروج فقال: ({إِلَّا تَنْفِرُوا}) أَيْ: إلَّا تخرجوا مع نبيِّكم إلى الجهاد؛ ({يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}) لِنُصْرة نبيِّه، وإقامة دينه.
          قَوْلُهُ: ({وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}) أَيْ: ولا تضروا الله تَعَالَى بِتَوليتكم عَنِ الجهاد، ونُكُولِكُم وتَثَاقُلِكم عنه، ({وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ}) أَيْ: قادرٌ على الانتصار مِنَ الأعداء بدونكم.
          (ص) وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: انْفِرُوا ثُبَاتٍ: سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ، ويُقَالُ: وَاحِدُ الثُّبَاتِ ثُبَةٌ.
          (ش) هذا التعليق وصله الطَّبَريُّ مِنْ طَرِيق عليِّ بن أَبِي طَلْحَةَ عنه، وذكره إِسْمَاعِيل بن أبي زياد الشاميُّ في «تفسيره» عنه، ومعناه: اخرجوا ثُبات؛ يعني: سَرِيَّةً بعد سَرِيَّةً، إذا نفروا مجتمعين.
          قَوْلُهُ: ({ثُبَاتٍ}) بِضَمِّ الثاء المُثَلَّثة وتخفيف الباء المُوَحَّدة، وهو جمع (ثُبَة) وهي الجماعة، وجاء جمعها أَيْضًا (ثُبُون) و(ثِبُون) و(أَثَابِيٌّ) وأصل (ثُبَة) (ثُبَيٌ) على وزن (فُعَل) بِضَمِّ الفاء وفتح العين، وفي «التوضيح»: وَعِنْدَ أهل اللغة الثُّبَات؛ الجماعات في تفرقة؛ أَيْ: حلقة حلقة كلُّ جماعةٍ ثُبَةٌ، و(الثُّبة) مشتقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِم: ثَبَّيْتُ الرجل إذا؛ أَثْنَيْتُ عليه في حياته؛ لأنَّك كأنَّك قد جمعت محاسنه، وقال أبو عمرو: «التَّثْبِية» الثناء على الرجل في حياته.
          قَوْلُهُ: ({ثُبَاتٍ} سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ) أحوالٌ، ووقع فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وأبي الحسن القابسيِّ: ثُبَاتًا، بالنصب، وهو غير صحيحٍ؛ لأنَّه جمع المؤنَّث السالم؛ مثل: الهندات، والنصب والجر فيه سواءٌ، و(السرايا) جمع (سريَّة) وهي مَن يدخل دار الحرب مستخفيًا.
          قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: وَاحِدُ الثُّبَاتِ: ثُبَةٌ) لا طائل تحته؛ لأنَّ هذا معلومٌ قطعًا أنَّ (ثُبات) جمع (ثُبَة) وأَمَّا الثُّبة التي بمعنى وسط الحوض فليس مِن باب ثُبة الَّذِي بمعنى الجماعة؛ لأنَّ أصل هذه ثُوبٌ، وهو أجوفٌ واويٌّ، فلمَّا حُذِفَت الواو عُوِّضَ عنها الهاء، وسمِّي وسط الحوض بذلك؛ لأنَّ الماء يثوب إليه؛ أَيْ: يرجع.