عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الحور العين وصفتهن
  
              

          ░6▒ (ص) بابُ الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ، يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ، شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ، {وَزَوَّجْنَاهُمْ}[الدخان:54] أَنْكَحْنَاهُمْ.
          (ش) أَيْ: هذا بابٌ فِي بيان الحُور العين وبيانِ صفتهنَّ، ووقع فِي رِوَايَة أَبِي ذرٍّ: <الحورُ العينُ> بغير لفظ (باب) فعلى هذا <الْحُورُ > مرفوعٌ بأَنَّهُ مبتدأ محذوفٌ خبرُه؛ تقديره: الحورُ العينُ وصفتُهنَّ ما نذكره، و<الْعِينُ> مرفوعٌ أَيْضًا على الوصفيَّة، وقوله: <وَصِفَتُهُنَّ> أَيْضًا مرفوعٌ عطفًا على <الحُورُ>.
          و(الْحُورُ) بِضَمِّ الحاء: جمع (الحوراء)، وقَالَ ابن سِيدَه: «الحَوَرُ» أن يشتدَّ بياضُ بياضِ العينِ، وسوادُ سوادِها، وتستدير حَدَقتها، وترقَّ جفونها، وتَبْيَضَّ ما حولها، وقيل: «الحَوَر» [شدَّة سواد المُقلة فِي شدَّة بياضها فِي شدَّة بياض الجسد، وقيل: «الحور»] أن تُسَوَّد العينُ كلُّها مثل الظِّباء والبقر، وليس فِي بني آدم حَوَر، وإِنَّما قيل للنساء: حُور العيون؛ لأَنَّهُنَّ يُشبَّهْنَ بالظِّباء والبقر، وقال كُراع: «الحَوَر» أن يكون البياض مُحْدِقًا بالسواد كلِّه، وإِنَّما يكون هذا فِي البقر والظِّباء، ثُمَّ يُستعار للناس، وقال الأصمعيُّ: لا أدري ما الحَوَر فِي العَين؟ وقد حَوِر حَوَرًا واحْوَرَّ، وهو أَحْوَر، وامرأة حَوْراء، وعَين حَوْراء، والجمع «حُورٌ»، والأعراب تُسمِّي نساء الأمصار: حواريات؛ لبياضهنَّ وتباعدهنَّ عَن قَشَف الأعرابيَّات بنظافتهنَّ.
          قوله: (العِينُ) بِكَسْرِ العين وسكون الياء، جمع (عَيْناء)، وهي الواسعة العَين، والرجل أَعْين، وأصل الجمع بِضَمِّ العين فكُسِرت لأجل الياء.
          قوله: (وَصِفَتُهُنَّ) ويأتي بيان بعض صفتهنَّ فِي آخر حديث الباب.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما وجه إدخال هذا الباب بينَ هذه الأبواب المذكورة هنا؟
          قُلْت: لمَّا ذَكَر درجاتِ المجاهدين، وذكر أنَّ فِي الجنة مئة درجة، وذكر أَيْضًا أنَّ فيها امرأةً لو اطلعت... إلى آخره، وهي مِنَ الحُور العِين، ترجم لهنَّ بابًا بطريق الاستطراد.
          قوله: (يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ) كلامٌ مستأنفٌ، كأنَّ قائلًا يقول: ما مِن صفتهنَّ؟ فقال: يُحار فيها الطرف؛ أَيْ: يَتَحَيَّر فيهنَّ البصر لحسنها، وفي «الْمُغْرِب» الطرف تحريك الجفن بالنظر، وقال الزَّمَخْشَريُّ: الطرف لا يثنَّى ولا يجمع؛ لأَنَّهُ فِي الأصل مصدرٌ، قيل: ظنَّ البُخَاريُّ أنَّ اشتقاق الحُور مِنَ الحَيْرة، حَيْثُ قال: يَحار فيها الطرف؛ لأنَّ أصله «يَحْيَر» نُقِلت حركة الياء إلى ما قبلها، ثُمَّ قُلِبَت ألفًا ومادَّته يائيَّة، و«الحُور» مِنَ الحَوَر ومادَّته واويَّة، وقال بعضهم: لعلَّ البُخَاريَّ لم يرد الاشتقاق الأصغر.
          قُلْت: لم يقل أحدٌ الاشتقاق الأصغر، وإِنَّما قالوا: الاشتقاق على ثلاثة أنواع: اشتقاق صغير، واشتقاق كبير، واشتقاق أكبر، ولا يصحُّ أن يكون (الحُور) مشتقًا مِنَ الحيرة على نوعٍ مِنَ الأنواع الثلاثة، ولا يخفى ذَلِكَ على مَن له بعض يدٍ مِن علم الصرف.
          قوله: (شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ) تفسير (العِين) بالكسر فِي قوله: (الْحُور العِين)، وكذَلِكَ قوله: (شَدِيدَةُ بَيَاضِ العَيْنِ)، و(العَيْن) فيهما بالفَتْحِ.
          قوله: ({وَزَوَّجْنَاهُمْ} أَنْكَحْنَاهُمْ) أشار بهذا إلى قولِهِ تعالى فِي (سورة الدخان) : {كذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِين} مناسبةً للترجمة؛ لأنَّها فِي الحُور العِين؛ أَيْ: كما أَكرمناهم بجناتٍ وعيون ولباسٍ؛ كذَلِكَ أكرمناهم بأن زوجناهم بِحُورٍ عِين، وتفسيره بِقَوْلِهِ: (أَنْكَحْنَاهُمْ)، قول أَبِي عُبَيْدَة، وفي لفظ له: {زَوَّجْنَاهُمْ} جعلناهم أزواجًا؛ أَي: اثنين اثنين، كما تقول: زوَّجت النعل بالنعل.