عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب يرد المصلي من مر بين يديه
  
              

          ░100▒ (ص) بَابُ يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ ترجمتُه: يَرُدُّ المُصلِّي مَن مَرَّ بين يَدَيه، وسنُبيِّنُ هل الردُّ إذا مرَّ بين يَدَيه في موضعِ سجوده، أو يردُّه مطلقًا؟ أو له حدٌّ معلوم؟ وأنَّ الردَّ واجبٌ أم سُنَّةٌ أم مُستَحَبٌّ؟ وأنَّه مُقيَّد بمكانٍ مخصوصٍ أو في جميعِ الأمكِنة؟ على ما نذكرُه مُفصَّلًا إن شاء الله تعالى.
          (ص) وَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ ☻ فِي التَّشَهُّدِ وَفِي الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: إِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَهُ؛ قَاتَلَهُ.
          (ش) الكلامُ فيه على أنواع:
          الأَوَّل: في وجهِ مُطابقتِه للترجمة:
          وهي ظاهرةٌ؛ لأنَّ ابنَ عُمَر ردَّ المارَّ مِن بينِ يَدَيه وهو في الصلاة.
          الثاني: في معنى التركيب:
          فقوله: (وَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ) أي: ردَّ عبدُ الله بن عُمَر بن الخَطَّاب المارَّ بينَ يَدَيه حالَ كونِه في التشهُّد، وكان هذا المارَّ هو عَمْرُو بن دينار، نبَّه عليه عبدُ الرزَّاق وابنُ أبي شَيْبَةَ في «مُصنَّفَيهما».
          قوله: (وَفِي الْكَعْبَةِ) أي: وردَّ أيضًا في الكعبة، وقال الكَرْمَانِيُّ: هو عطفٌ على مُقدَّر؛ أي: ردَّ المارَّ بين يَدَيه عند كونِه في الصلاة، وفي غير الكعبة، وفي الكعبة أيضًا، ويحتملُ أن يُرادَ به كونُ الرَّدِّ في حالةٍ واحدةٍ؛ جمعُه بين كونِه في التشهُّد وفي الكعبة، فلا حاجةَ إلى مُقدَّر.
          وقال أبو مُحَمَّد الإشبيليُّ في كتابه «الجمع بين الصَّحيحين»: كذا وقع «وفي الكعبة»، وقال ابن قُرْقُولَ: «وردَّ ابنُ عُمَر في التشهُّد وفي الرَّكعة» وقال [القابِسيُّ: «وفي الركعة» بدلًا مِنَ «الكعبة» [أشبهُ، وكذا وَقَع في بعضِ الأُصول: «الرَّكعة»، وقال] صاحب «التلويح»: والظاهرُ أنَّهُ «وفي الكعبة»]، وهو الصوابُ؛ لِما في «كتاب الصلاة» لأَبيْ نُعَيْم: [حدَّثنا عبد العزيز بن الماجشون عن صالح بن كَيْسان قال: رأيتُ ابن عُمَر يُصلِّي في الكعبة] فلا يدعُ أحدًا يمرُّ بين يديه يُبادِرُه، قال: يردُّه، / حدَّثنا فِطْر بن خَليفة: حدَّثنا عَمْرو بن دينار قال: مررتُ بابن عُمَر بعدما جَلَس في آخِرِ صلاةٍ؛ حَتَّى أنظُرَ ما يصنعُ، فارتفع مِن مكانِه، فدَفَع في صدري، وقال ابن أبي شَيْبَةَ: أخبرنا ابنُ فضيل عن فِطْر عن عَمْرو بن دينارٍ قال: مررتُ بين يَدَي ابن عُمَر وهو في الصلاة، فارتفع مِن قعودِه، ثُمَّ دفع في صدري، وفي «كتاب الصلاة» لأَبيْ نُعَيْم: (فانتَهَرَني بِتَسبيحة)، وقال بعضُهم: وروايةُ الجمهور مُتَّجِهةٌ، وتخصيصُ الكعبة بالذِّكْر؛ لئلَّا يُتَخَيَّل أنَّهُ يُغتَفَر فيها المرورُ؛ لكونِها محلَّ المزاحمة.
          قُلْت: الواقع في نفس الأمر عنِ ابنِ عُمَر في الردِّ في غير الكعبة، وفي الكعبة أيضًا، فلا يُقال: فيه التَّخصيص، والتعليلُ فيه بكونِ الكعبة محلَّ المزاحمة غيرُ مُوَجَّه؛ لأنَّ في غير الكعبة أيضًا توجَدُ المُزاحَمة، سيَّما في أيَّام الجُمَعِ في الجوامِعِ ونَحْوِ ذلك.
          قوله: (وَقَالَ) أي: ابن عُمَر: (إنْ أَبَى) أي: المارُّ؛ إنِ امتنعَ بكلِّ وجهٍ إلَّا بأن يُقاتِلَ المُصلِّي المارَّ؛ قاتَلَه.
          قوله: (إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَهُ) وقولُه: (قاتِلْهُ) على وجهينِ:
          أحدهما: أن يكون لفظُ (قاتَلَه) بصيغة الفعل الماضي، وهذا عند كونِ لفظِ (إلَّا أن يُقاتِلَه) بصيغة الفعلِ المضارع المعلوم، والضميرُ المرفوعُ فيه يرجعُ إلى المارِّ الذي هو فاعلُ لفظة (أبى)، والمنصوبُ يرجع إلى المُصلِّي، والضميرُ المرفوعُ في (قاتَلَه) يرجع إلى المُصلِّي، والمنصوبُ يرجع إلى المارِّ.
          والوجه الآخَر: أن تَكونَ لفظةُ: (إلَّا أن تُقاتِلَه) بصيغة المخاطَب؛ أي: إلَّا أن تُقاتِلَ المارَّ، فـ(قَاتِلْهُ) بكسر التاء وسكون اللام، على صيغة الأمرِ للحاضِر، وهذه روايةُ الكُشْميهَنيِّ، والأَوَّلُ روايةُ الأكثرين.
          فَإِنْ قُلْتَ: لفظةُ (قاتِلْه) في الوجه الثاني جملةٌ أمريَّة، والجملة الأمريَّة إذا وقعت جزاءً للشرط فلا بُدَّ فيها مِنَ الفاء.
          قُلْت: تقديرُ الكلام: فأنتَ قاتِلْه، قال الكَرْمَانِيُّ: ويجوزُ حذفُ الفاء منها؛ نحو:
مَن يفعلِ الحَسَناتِ اللهُ يشكُرُها
          قُلْت: حذفُ الفاء فيها لضرورة الوزن، فلا يُقاسُ عليه، ويُروى: <فقاتِلْه> بالفاء على الأصل.
          النوع الثالث: في أنَّ المرويَّ عنِ ابنِ عُمَرَ ههنا على سبيل التعليق ثلاثةُ أشياء:
          الأَوَّل: ردُّه المارَّ في التشهُّد، وقد وَصَله أَبُو نُعَيْم وابنُ أبي شَيْبَةَ كما ذكرناه عن قريب.
          الثاني: ردُّه في الكعبة، وقد وصَلَه أَبُو نُعَيْم أيضًا كما ذكرناه، وفي حديث يزيدَ الفقير: صلَّيتُ إلى جَنْبِ ابنِ عُمَر بِمَكَّةَ، فلم أرَ رجلًا أكرَهَ أن يَمُرَّ بين يَدَيه منه.
          الثالث: أمرُه بالمقاتلة عند عدمِ امتناعِ المارِّ مِنَ المرورِ بين يَدَي المُصلِّي، وقد وَصَله عبد الرزَّاق، ولفظُه عنِ ابنِ عُمَر قال: لا تَدَعْ أحدًا يمُرُّ بين يديكَ وأنت تُصلِّي، فإن أبى إلَّا أن تُقاتِلَه؛ فقاتِلْه، وهذا موافقٌ لرواية الكُشْميهَنيِّ.