عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله
  
              

          ░51▒ (ص) بَابُ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ فَأَرَادَ بِهِ وَجْهَ اللهَ تَعَالَى.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حُكمِ مَن صلَّى وبين يديه تنُّورٌ... إلى آخره، يعني: لا يُكرَه.
          فَإِنْ قُلْتَ: لَمْ يوضِّحِ البُخَاريُّ ذلك، بل إجمالُه وإبهامُه يحتمل: لا يُكرَه، ويَحْتَمل: يُكرَه، فمِن أين ترجيح احتمال عدمِ الكراهة؟
          قُلْت: إيرادُه بالحديثَين المذكورَين في الباب يدلُّ على احتمالِ عدمِ الكراهة؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم لا يصلِّي صلاةً مكروهةً، ولكن لا يتمُّ استدلالُه بهذا من وجوهٍ:
          الأَوَّل: ما ذكره الإسماعيليُّ بقوله: ليس ما أراه اللهُ تعالى من النَّار حين أطلَعَه عليها بمنزلة نارٍ يتوجَّه المرءُ إليها، وهي معبودةٌ لقومٍ، ولا حكمُ ما أُرِيَ ليخبرَهم؛ كحُكْمِ مَن وضعَ الشيءَ بين يديه أو رآه قائمًا موضوعًا فجعله أمامَ مصلَّاه وقِبلته.
          الوجه الثاني: ما ذكره السفاقسيُّ: ليس فيه ما بوَّب عليه؛ لأنَّه لم يفعَلْهُ مختارًا، وإِنَّما عرض ذلك لمعنًى أراده الله تعالى، ورؤيتُه صلعم للنَّار رؤيةُ عينٍ / كشف الله عنها، فأراه إيَّاها، وكذلك الجنَّة، كما كَشَفَ له عن المسجد الأقصى.
          الوجه الثالث: ما ذكره القاضي السروجيُّ في «شرح الهداية» فقال: لا دلالةَ في هذا الحديثِ على عدم الكراهة؛ لأنَّه صلعم قال: «أُرِيت النار»، ولا يلزم أن تكون أمامَه متوجِّهًا إليها، بل يجوزُ أن تكون عن يمينه، أو عن يساره، أو غير ذلك.
          الوجه الرابع: ما ذكره هو أيضًا فقال: ويَحْتمل أن يكونَ ذلك وقع له قبل شروعه في الصلاة، انتهى.
          قُلْت: قد تصدَّى بعضُهم في نصرة البُخَاريِّ، وأجاب عن هذين الوجهَين بجوابٍ يمُجُّه الأسماعُ ويستسمجُه الطباع؛ وهو: كأنَّ البُخَاريَّ كُوشِفَ بهذا الاعتراض، فعجَّل بالجواب عنه، حيث صدَّر البابَ بالمعلَّقِ عن أنسٍ ففيه: «عُرِضَت عليَّ النارُ وأنا أصلِّي»، وأَمَّا كونه رآها أمامَه؛ فسياقُ حديثِ ابن عَبَّاس يقتضيه، ففيه أنَّهم قالوا له بعد أنِ انصرفَ: (يا رسول الله؛ رأيناك تناولتَ شيئًا في مقامك، ثُمَّ رأيناك تكعكعتَ) أي: تأخَّرتَ إلى خلف، وفي جوابِه: أنَّ ذلك بسبب كونِه أُرِيَ النارَ، انتهى.
          فانظر إلى هذا الأمرِ الغريبِ العجيبِ: شخصٌ مكاشِفٌ اعتراضَ شخصٍ يأتي مِن بعده بمدَّة مقدار خمس مئة سنةٍ أو أكثر بقليلٍ، ويجيب عنه بتصدير هذا الباب الذي فيه حديث أنسٍ معلَّقًا، وحديث ابن عَبَّاس موصولًا، ومع هذا لا يتمُّ الجوابُ بما ذكره، ولا يتمُّ الاستدلال به للبُخَاريِّ.
          بيان ذلك: أنَّ قولَه: «وأنا أصلِّي» في حديث أنسٍ يحتمل أن يكونَ المعنى: وأنا أريدُ الصلاةَ، ولا مانعَ مِن هذا التقديرِ، وأَمَّا تناوله الشيءَ وتأخُّره إلى خلف في حديث ابن عَبَّاس؛ لا يستلزمُ أن يكون ذلك بسبب رؤيته النارَ أمامَه، ولا يستحيل أن يكون ذلك بسبب رؤيته إيَّاها من يمينه أو من شماله.
          وقوله: (وفي جوابه: أنَّ ذلك بسبب كونِه أُرِيَ النارَ) [مُسَلَّمٌ أنَّ ذلك كان بسبب كونِه أُرِيَ النارَ، ولكن لا نُسَلِّمُ أنَّهُ كان ذلك بسبب كونِ رؤيةِ النارِ] أمامَه، ولئن سلَّمنا جميع ذلك؛ فنقول: لنا جوابان آخَرَان غير الأربعة المذكورة:
          أحدهما: أنَّهُ صلعم أُرِيها في جهنَّم وبينَه وبينَها ما لا يُحصَى من بُعْدِ المسافة، فعدمُ كراهةِ صلاتِه صلعم لذلك.
          والآخَرُ: يجوز أن يكون ذلك منه صلعم رؤيةَ علمٍ ووَحْيٍ؛ بإِطْلاعِه وتعريفِه مِن أمورها تفصيلًا ما لم يعرفه قبلَ ذلك.
          وجوابٌ آخَرُ ذكره ابنُ التِّين وقال: لا حُجَّةَ فيه على الترجمة؛ لأنَّه لم يفعل ذلك اختيارًا، وإِنَّما عُرِض عليه ذلك للمعنى الذي أراده اللهُ مِن تنبيهه للعِبَاد، وقال بعضُهم: وتُعُقِّبَ بأنَّ الاختيارَ وعدمَه في ذلك سواءٌ منه.
          قُلْت: لا نُسلِّم التسوية، فإنَّ الكراهة تتأكَّدُ عند الاختيار، وأَمَّا عند عدمه؛ فلا كراهةَ؛ لعدم العلَّة الموجبة للكراهة؛ وهي التشبُّه بعَبَدة النار.
          وقال ابن بَطَّالٍ: الصلاة جائزةٌ إلى كلِّ شيء إذا لم يقصِدِ الصلاة إليه، وقصد بها الله تعالى، والسجودَ لوجهه خالصًا، ولا يضرُّه استقبالُ شيءٍ مِنَ المعبُوداتِ وغيرِها؛ كما لم يضرَّ النَّبِيَّ صلعم ما رآه في قِبْلتِه مِنَ النار.
          قوله: (وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ) جملةٌ اسْميَّةٌ وقعت حالًا، فقوله: (تَنُّورٌ) مبتدأ، وقوله: (قُدَّامَهُ) بالنصب على الظَّرفيَّة خبرُه، و(التَّنُّور) بفتح التاء المُثَنَّاة من فوق، وضمِّ النون المشدَّدة، قال الكَرْمَانِيُّ: حُفَيرة النار.
          قُلْت: التنُّور مشهورٌ، وهو تارةً يُحفَرُ مِنَ الأرض حُفَيرةً، وتارةً يُتَّخذ مِنَ الطين، ويُدفَن في الأرض، ويُوقَد فيه النار إلى أن يحمى، فيُخبَز فيه، وتارةً يُطبَخ فيه، فقيل: هو عربيٌّ، وقيل: مُعرَّبٌ توافقتْ عليه العربُ والعَجَم.
          قوله: (أَوْ نَارٌ) عطفٌ على قوله: (تنُّورٌ).
          فَإِنْ قُلْتَ: هذا يُغني عن ذكرِ التنُّور.
          قُلْت: هذا مِن عَطْفِ العَامِّ عَلَى الخَاصِّ، وفائدتُه الاهتمامُ به؛ لأنَّ عَبَدة النار مِنَ المجوس لا يعبُدون إلَّا النارَ المكوَّمةَ الظاهرة، وربَّما لا تظهرُ النارُ مِنَ التنُّور؛ لعُمقِه، ولقلَّة النار.
          قوله: (أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ) عطفٌ على ما قبله، والتقدير: أو مَن صلَّى وقُدَّامَه شيءٌ مِمَّا يُعبَد؛ كالأوثان والأصنام والتماثيل والصُّوَر، ونَحْو ذلك مِمَّا يعبده أهلُ الضلال / والكفر، وهذا أعمُّ مِنَ النار والتنُّور.
          قوله: (فَأَرَادَ بِهِ وَجْهَ اللهَ) أي: فأرادَ المُصلِّي الذي قُدَّامه شيءٌ مِن هذه الأشياء ذاتَ الله تعالى، وأشار بهذا إلى أنَّ الصلاة إلى شيءٍ مِنَ الأشياء التي ذَكَرها لا تكونُ مكروهةً إذا قصد به وجهَ الله تعالى، ولم يقصدِ الصلاة إليه، وعند أصحابنا: يُكرَهُ ذلك مطلقًا؛ لِما فيه مِن نوع التشبُّه بعَبَدة الأشياءِ المذكورة ظاهرًا، وروى ابنُ أبي شَيْبَةَ في «مُصنَّفه» عن ابنِ سيرينَ: أنَّهُ كرِهَ الصلاة إلى التنُّور، وقال: بيتُ نارٍ.
          (ص) وَقَالَ الزُّهْريُّ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ ☺ : قَالَ النَّبِيُّ صلعم : «عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي».
          (ش) وجهُ مطابقةِ هذا الحديثِ المعلَّق للترجمة مِن حيث إنَّهُ صلعم شاهَدَ النار وهو في الصلاة، ولكنَّ فيه ما فيه، وقد أمْعَنَّا الكلامَ فيه.
          وقد ذَكَر البُخَاريُّ هذا الذي علَّقه موصولًا في (باب: وقت الظُّهر عند الزوال) كما ستقفُ عليه عن قريبٍ إن شاء الله تعالى.
          وأخرجه أيضًا في (الاعتصام) عن أبي اليَمان الحَكَم بن نافع، وأخرجه مسلمٌ في (فضائل النَّبِيِّ صلعم ) عن عبد اللَّه بن عبد الرَّحْمَن الدارميِّ عن أبي اليَمان به.